برلين تسعى لمواكبة الدول الغربية في الحفاظ على مصالحها بالمنطقة إلى جانب تقويض نفوذ بكين المتنامي. أعلنت ألمانيا نيتها أخيراً توسيع نفوذها العسكري وتطبيق استراتيجيتها الحديثة في المحيطين الهندي والهادئ بإرساء سفن ومقاتلات حربية والخوض في التدريبات العسكرية مع حلفائها في المنطقة.
ألمانيا التي أطلقت استراتيجيتها الخاصة والشاملة في منطقة المحيطين الهادئ والهندي تزامنت مع الأزمة بين بكين وتايبيه المتفاقمة، وترجيح كفة تحالف أوكوس الغربي المقام حديثاً في محاولة غربية لحصار التنين الصيني، فهناك قلق ألماني من تنامي الدور الصيني العسكري والنفوذ التجاري العالمي، فنظرة برلين إلى بكين كمنافس تجاري قد يهدد من قوتها الصناعية العالمية، كما أن استراتيجية برلين الحديثة هي انعكاس للضغوط الخارجية من الحلفاء الغربيين على العلاقات بين بكين وبرلين وإرسال رسائل للمجتمع الدولي بسعي برلين الحثيث إلى إرساء القانون الدولي في المنطقة وحماية مصالحها خارج حدودها.
التدخل الألماني يعيد للأذهان سباق تسلح جديداً منذراً بنشر أسلحة نووية في المنطقة، خصوصاً مع وجود أرضية خصبة لاحتدام الصراع بين الدول الغربية والصين في المحيطين.
استراتيجيات الغرب
منذ ظهور الصين كقوة عسكرية واقتصادية كبرى، ركزت الدول الغربية أنظارها على منطقة المحيطين الهادئ والهندي وإقليم جنوب شرقي آسيا، نظراً إلى موقعها الاستراتيجي والأهمية الجيوسياسية التي يخشى المعسكر الغربي من سيطرة ونفوذ بكين عليها. وعملت الدول الغربية على تبني استراتيجيات وسياسات خاصة للمنطقة، لمجابهة المد الصيني والتقارب مع دول الإقليم، وكان من بين هذه الدول الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان وأستراليا.
وركزت الاستراتيجية الرسمية لمنطقة المحيطين الهادئ والهندي الصادرة عن واشنطن هذا العام حول الإدارة الأميركية الجديدة، على إقامة تعاون مستدام ومبتكر مع الحلفاء والشركاء والمؤسسات، والسعي إلى حرية المنطقة وانفتاحها وتحقيق الرفاهية الإقليمية، إلى جانب تعزيز أمن المنطقة وبناء قدرة إقليمية على الصمود أمام التهديدات العابرة للحدود. علاوة على ذلك، تؤكد الاستراتيجية الأميركية ضرورة استمرار الاستقرار والسلم في منطقة المضيق التايواني وتمديد وجود خفر السواحل الأميركي في المنطقة، مشيرة إلى أن منطقة المحيط الهادئ تواجه تحديات من الصين، كونها تحاول الحصول على نفوذ لتصير أكثر دولة مؤثرة عالمياً.
فيما ذكرت المملكة المتحدة في استراتيجيتها الدفاعية التي تعود إلى مارس (آذار) من العام الماضي عن توجهها نحو الشرق الآسيوي، وتزايد الاهتمام بمنطقة المحيطين الهادئ والهندي. وتسعى لندن إلى تقوية انخراطها في المنطقة، هادفة إلى إنشاء وجود أعظم وأقوى من أي بلد أوروبي آخر، وإقامة علاقات أقوى من ذي قبل مع كوريا الجنوبية ودول إقليمية كإندونيسيا وفيتنام وماليزيا وسنغافورة، وانتشارها العسكري عالمياً.
ألمانيا على الخط
تمتعت ألمانيا بعلاقات مميزة مع الصين، بخاصة من الناحية الاقتصادية، إذ تعد الصين من أكبر الشركاء التجاريين لألمانيا منذ عام 2016. وبحسب إحصاءات حديثة يقدر حجم التجارة بين البلدين بنحو 245 مليار يورو، كما أن بكين تعد الشريك الأكبر لبرلين في مجال تجارة البضائع بالعام الماضي. ومثلت هذه العلاقات والاعتماد الكبير على الصين مصدر قلق لألمانيا نفسها ولبعض الدول الغربية التي بدأت في الفترة الأخيرة تنظر إلى بكين باعتبارها منافساً بدلاً من شريك، إذ جاء في الاستراتيجية الصادرة عن الاتحاد الأوروبي في 2019 تصنيف الصين باعتبارها “شريكاً استراتيجياً” و”منافساً” إلى جانب كونها “منافساً نظامياً”.
من هذه النقطة، انطلق إصدار ألمانيا في سبتمبر (أيلول) من عام 2020 لسياستها الاسترشادية واستراتيجيتها لمنطقة المحيطين الهادئ والهندي، باسم “ألمانيا – أوروبا – آسيا لتشكيل القرن الـ21 معاً”. وبحسب الاستراتيجية، ستعمل ألمانيا على تعزيز دورها الدفاعي في المنطقة مع الانفتاح والدعوة إلى عقد شراكات إقليمية متنوعة مع أي من البلدان التي تقدر الالتزام بالقوانين والتعددية. كما تتطرق الاستراتيجية إلى السلوكيات العدوانية كما سمتها، التي تقدم عليها الصين في المنطقة، مع تفادي إغلاق الأبواب على التعاون والشراكات مع الصين، إذ أكدت ضرورة تحقيق تقدم دبلوماسي جيد مع “المنافس النظامي”، إضافة إلى ذلك تعمل الاستراتيجية الألمانية على مساعدة دول “آسيان” وقدراتهم على العمل، مما حدا بها بالانضمام إلى اتفاق الصداقة والتعاون لدول الرابطة في عام 2020، فيما أرسلت برلين طائرات مقاتلة إلى أستراليا الشهر الماضي للمشاركة في تدريبات عسكرية تماشياً مع الاستراتيجية الجديدة في المنطقة.
مشكلة ألمانيا النووية سياسية
وتمثل الاستراتيجية الألمانية تجاه المحيطين الهادئ والهندي تحولاً واهتماماً نحو الإقليم الذي أصبح الآن مكاناً لأبرز البؤر العالمية التي يمكنها أن تشكل النظام الدولي في المستقبل، فيما يصف محللون صدور الاستراتيجية باعتبارها انعكاساً للضغوط الخارجية من الحلفاء الغربيين على العلاقات بين بكين وبرلين.
ويرى مراقبون أن الاستراتيجية الألمانية تجاه المحيطين الهادئ والهندي تعد أكثر الاستراتيجيات المتكاملة، مما يظهر نهج الحكومة ككل في التعامل مع المنطقة، والتنوع الخاص بالسياسات العديدة داخل الاستراتيجية.
“يمكننا الوصول إلى آسيا”
خطت ألمانيا خطوات ملموسة في استراتيجيتها الحديثة، ففي أغسطس (آب) من العام الماضي، اتخذت ألمانيا أولى خطواتها، إذ أرسلت برلين فرقاطة “بايرن” إلى المنطقة وهي الأولى التي تحط رحالها في آسيا منذ 20 عاماً. وجاء إبحار الفرقاطة لإرسال إشارة للمجتمع الدولي بأن ألمانيا تسعى إلى العمل على تطبيق قواعد القانون الدولي في المنطقة وحماية مصالحها، فيما يتسق مع ما ذكره وزير الخارجية الألماني السابق بأن باعث الاستراتيجية تحقيق المصالح والتأثير الجيوسياسي لألمانيا في المنطقة خلال الفترة المقبلة.
أما هذا العام فأعلنت برلين مشاركتها للمرة الأولى في مناورات “بيتش بلاك” بأستراليا في الفترة من الـ19 من أغسطس وحتى أوائل سبتمبر الحالي، وأرسلت ألمانيا 13 طائرة عسكرية محاولة بهذه الخطوات تقديم نفسها في صورة أحد أصحاب المصالح الرئيسين في منطقة المحيطين الهادئ والهندي بل وأحد حماته كذلك.
من ناحية أخرى، ذكر رئيس القوات الجوية الألمانية في أحد تصريحاته أن الانخراط العسكري في تدريبات بالمنطقة هو لإثبات قدرة ألمانيا وإمكاناتها على الوصول إلى آسيا خلال يوم واحد في حالة حدوث أي أخطار. وأخيراً أعلن وزير الدفاع الألماني اعتزام بلاده زيادة الانخراط والوجود العسكري في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، من خلال المشاركة مع الحلفاء في التدريبات العسكرية.
في الوقت نفسه، يرى مراقبون أن برلين شديدة الحذر في انخراطها العسكري بالمنطقة كي لا تثير حفيظة الصين، في الوقت ذاته تسعى برلين إلى مواكبة الدول الغربية في الحفاظ على مصالحها بالمنطقة، إلى جانب تقويض النفوذ الصيني المتنامي في الفترة الأخيرة. ومن الممكن أن يكون الانخراط العسكري الألماني ما هو إلا استعراض للقوة والقدرة على التدخل في حال حدوث أي طارئ من دون وجود نية حقيقية لخلق صراع مع الصين.
فيما يرجح محللون أن تستخدم برلين جزءاً من الزيادة في موازنة الدفاع لتدعيم قدراتها البحرية للعب دور أكبر في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، وإرسال إشارات سياسية قوية في حال انخراطها بالتدريبات العسكرية التي تحمي حرية الملاحة في المنطقة.
الصين بدورها لم تكن راضية عن النية الألمانية والتصريحات الصادرة عن التوسع في المنطقة. ورداً على تصريحات وزير الدفاع الألماني، قال المتحدث باسم الخارجية الصينية وانج ونبين إن هذه التصريحات تستدعي ذكريات سيئة مرتبطة بعدد من دول العالم، وأكد أن الهدف من سياسة الصين الأمنية دفاعية لحماية مصالحها المشروعة. وبين المسؤول الصيني احترام بلاده لحرية الملاحة والطيران وفق القوانين الدولية، فيما عارضت بكين بشدة استخدام أية دولة أجنبية لحرية الملاحة كعذر لتقويض سيادة الصين والإضرار بمصالحها الأمنية.
من جانب آخر، رحب مسؤولون في تايوان بالخطوة الألمانية الجديدة، وأعرب مبعوث تايوان السابق إلى برلين عن أمله في أن تدعو ألمانيا تايبيه إلى المشاركة في التدريبات العسكرية بمنطقة المحيطين الهادئ والهندي أو تنظيم زيارات ثنائية مقبلة بين الجانبين.
تحالف واضطرابات
تتزامن الاستراتيجية الألمانية والتوجه نحو التوسع العسكري في المنطقة مع حدثين زادا من حدة التوترات مع الصين وفي شرق القارة الآسيوية ككل، وكان أولهما تحالف أوكوس (AUKUS) الأمني والعسكري الذي أعلن في العام الماضي بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا ويهدف إلى امتلاك أستراليا غواصة نووية. ويعرف التحالف نفسه كجزء من جهود أكبر للحفاظ على منظومة رادعة في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، إلى جانب عمله على تحسين التعاون في مجالات أخرى مثل الأمن التقني والذكاء الاصطناعي، فيما يعد مزيداً من تأكيد الوجود الغربي في المنطقة.
وتسبب التحالف في طرح التساؤلات عن سباق التسلح في المنطقة، وأعرب عدد من دول منطقة جنوب شرقي آسيا عن انتقادها له، لما يسفر عنه من إمكانية نشر الأسلحة النووية في المنطقة، وعلى رأس هذه الدول ماليزيا وإندونيسيا.
ونتيجة للتحالف الغربي الذي تنظر إليه الصين باعتباره تهديداً لها، ظهرت دعوات في بكين تحض على التقارب بين الصين وروسيا لمجابهة الضغوط الغربية التي تتعرض لها الجمهورية الشعبية في المجال البحري، وتحث تلك الدعوات على إجراء تعاون استراتيجي متكامل بين البلدين يمكن من تحقيق فوائد وثمار لكلا الطرفين.
كما أن الاستفزاز الأميركي الذي أشعل أجواء التوتر في الأيام الأخيرة، تسبب في تنامي التدريبات العسكرية الصينية بالقرب من تايوان، عقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان الشهر الماضي، إذ أعلنت الصين عدداً من التدريبات العسكرية بالقرب من الجزيرة التايوانية اعتبرت الأكبر في تاريخ التوترات بين الجانبين، فيما تسعى “آسيان” إلى تهدئة الأوضاع وإمساك العصى من المنتصف والدعوة إلى حوار غربي صيني لحل القضايا الحساسة المتراكمة بين القوتين.
مع وجود الأرضية الخصبة لاحتدام الصراع بين الدول الغربية والصين، تتفاوت رؤى المراقبين عن تبعات التحركات الألمانية الأخيرة، فبعضهم يرى إمكانية اندلاع صراع عسكري بين المعسكر الغربي وبكين في ساحة المحيطين الهادئ والهندي قد تكون الخسارة فيه أكبر من الربح، بينما يميل آخرون إلى تفسير التحركات الغربية بكونها محاولة فقط للحفاظ على مصالح هذه الدول في الإقليم، وإرسال إشارات لبكين بالحد من استخدام القوة العسكرية من دون تفاقم الأمور لما هو أبعد من ذلك.
المصدر: اندبندنت عربية