كانت الديمقراطيات الليبرالية تراهن على انهيار روسيا نتيجة للعقوبات الشديدة الأخيرة. وحتى الآن، لم تؤت هذه الرهانات ثمارها… لم يستغرق الأمر الديمقراطيات الغربية أكثر من 30 عامًا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي لعزل نفسها عن بقية العالم، كما تُظهر الحرب الدموية المستعرة في أوكرانيا. وما يزال حلف شمال الأطلسي ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي يواصلون خداع أنفسهم بشأن وجود وحدة عالمية ضد روسيا، بينما مثل هذه الوحدة غير موجودة في الحقيقة. وكما أشار المحللون، مُحقّين، فإن “الغرب لم ينضم إليه معظم الباقين”.
* *
كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي قد حققوا الانتصار بجدارة في الحرب الباردة. فقد تغلبت القيم الغربية للديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، واقتصاد السوق، على النظام الشمولي الشيوعي في الاتحاد السوفياتي. وقد انفجر الاتحاد السوفياتي وانهار بسبب أوجه القصور التي تعتريه، وسوء تقديره، وتمدده العسكري المفرط، وأوهامه. وأعيد توحيد ألمانيا وانحل حلف وارسو؛ وفي كل ذلك لم يتم إطلاق حتى رصاصة واحدة.
في ذلك الحين، بدا أن العالم يتجه حقًا نحو عصر من التفاؤل والتقدم والازدهار. وكان من المفترض أن يشمل تأكيد صلاحية الديمقراطية الليبرالية الكوكب بأكمله، ومن خلال العولمة خلق ترابط اقتصادي يكون من شأنه أن يجعل من الحرب شيئاً قديماً عفا عليه الزمن.
لكن التاريخ تحول، لسوء الحظ، بشكل مختلف. فقد خلقت أحداث 11/9، والحروب التي لا نهاية لها في العراق وأفغانستان، والأزمة المالية العالمية للعام 2008، عالمًا مختلفًا تماماً.
الآن، بعد مرور ثلاثة عقود، لا يمكن أن يكون المشهد السياسي والاقتصادي العالمي أكثر إحباطًا. فما يسمى بالنظام العالمي القائم على القواعد بقيادة الولايات المتحدة آخذ في الانهيار. ويبدو أن العولمة في تراجع، وانقطعت سلاسل التوريد الاقتصادية وسلاسل توريد الطاقة، وثمة ركود عالمي يلوح في الأفق. وعرضت جائحة ”كوفيد -19″ الاقتصاد العالمي والتماسك الاجتماعي لضغوط غير مسبوقة، ويبدو أن الديمقراطية في تراجع هي أيضاً.
في العام 2021، وللمرة الأولى في التاريخ الأميركي، رفض رئيس في المنصب نتيجة الانتخابات الوطنية (ما يزال التحقيق جاريًا للتأكد مما إذا كان قد حاول تخريبها أيضاً). والشعبوية، والاستقطاب، والحروب الثقافية، والغضب والمظالم المنتشرة على نطاق واسع آخذة كلها في الارتفاع في جميع الديمقراطيات الغربية. ويبدو أن الحكومات أصبحت غير قادرة على التعامل مع مجموعة لا تصدق من التحديات المتزايدة.
قيادة غير ملهمة
الآن يحاول الرئيس الأميركي، جو بايدن، إنقاذ بلاده من نفسها، وهناك شكوك متزايدة في أنه سيترشح لولاية ثانية. وفي فرنسا، يملك الرئيس إيمانويل ماكرون الرؤى الصحيحة في كثير من الأحيان، ويحاول دائمًا تقديم رؤية، لكنه وحيد في أوروبا، وقد تم إضعافه في بلده نفسه بعد انتخابات غير حاسمة. أما بالنسبة لحال بريطانيا تحت زعامة رئيس الوزراء بوريس جونسون، فلا يبدو أن ثمة حاجة إلى الإدلاء بأي تعليق إضافي. إنه، سياسيًا، رجل ميت يمشي على الأرض.
وألمانيا يقودها أولاف شولتس غير الملهم وغير الكاريزمي، المشروط بائتلاف غير متجانس يبدو في حالة صدمة وغير قادر على استعادة قيادة القارة. ويقود إيطاليا رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ماريو دراغي. وهو تكنوقراطي يلقى بالثناء، ولكن بالنظر إلى الغيوم الاقتصادية التي تتجمع، فإنه يمكن أن يصبح مصفي الإعسار التالي في البلاد. وفي الوقت نفسه، يفتقر الاتحاد الأوروبي كله إلى الرؤية والقيادة.
بعد ثلاثة عقود من نهاية القيادة الشيوعية المتصلبة، حان الآن دور الدول الغربية لتعلُق في مصيدة التفكير الجماعي المؤذي للذات. وقادتها منفصلون عن الواقع ويميلون إلى سوء التقدير، وعدم الكفاءة، وفرط التمدد العسكري، والوهم، وخاصة أولئك في أوروبا الذين أصبحوا مهووسين بأوكرانيا إلى الحد الذي يجعلهم يتجاهلون تمامًا حقيقة أن بلدانهم نفسها هي التي تتفكك تحت عبء العقوبات المفروضة على روسيا.
ومن جهتها، أهدرت الإدارات الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة رأس المال السياسي العالمي الضخم الموروث مع انتصارها البارز. والواقع أن المعايير المزدوجة، والحروب غير القانونية وأحادية الجانب، والتدخلات من أجل تغيير النظام التي تم تسويقها كتدخلات إنسانية، أدت تدريجيًا إلى إضعاف النظام العالمي القائم على القواعد الذي لطالما تفاخرت به الديمقراطيات الغربية.
بالكاد استغرق الأمر الغرب 20 عامًا ليضع النظام الاقتصادي العالمي واقتصاد السوق تحت ضغط هائل من خلال نشر نموذج اقتصادي مفرط التمويل وريعي، والذي ولَّد فقاعة مالية ضخمة لا يمكن السيطرة عليها، فضلاً عن تكريس انعدام المساواة العميق.
وقد ولّد هذا رد فعل شعبويا عنيفا أصبح يمزق الآن مجتمعاته. وفي الحقيقة، كانت الأزمة المالية في العام 2008 وإنقاذ الجناة الرئيسيين في الولايات المتحدة، إلى جانب تدابير التقشف المتطرفة التي تبنتها دول أوروبا، سببًا في زرع قدر هائل من الغضب والمظالم.
خطاب مضلل
ولم يستغرق الأمر الديمقراطيات الغربية أكثر من 30 عامًا لعزل نفسها عن بقية العالم، كما تُظهر الحرب الدموية المستعرة الآن في أوكرانيا. وما يزال حلف شمال الأطلسي ومجموعة الـ7 والاتحاد الأوروبي يواصلون خداع أنفسهم بشأن وجود وحدة عالمية ضد روسيا، بينما مثل هذه الوحدة غير موجودة في الحقيقة. وكما أشار المحللون، مُحقّين، فإن “الغرب لم ينضم إليه معظم الباقين”.
وإضافة إلى ذلك، تقوم إدارة بايدن بتأطير التوترات مع روسيا والصين على أنها مواجهة ملحمية بين الديمقراطية والاستبداد. لكن الحقيقة ليست كذلك -ولا يلتزم، حتى الرأي العام الغربي نفسه، بهذا الشعار.
يقدم ”مؤشر مدركات الديمقراطية” للعام 2022، وهو أكبر دراسة سنوية تُجرى في العالم حول كيفية إدراك الناس للديمقراطية، نتائج محبطة: يشعر 41 في المائة من الناس بأن بلدانهم ليست ديمقراطية بما فيه الكفاية، ويرون أن عدم المساواة الاقتصادية -وليس روسيا أو الصين- هو التهديد الرئيسي للديمقراطية.
لا شك في أن لدى القيادات في موسكو وبكين الكثير مما يمكن إلقاء اللوم عليها فيه، ولكن لا علاقة لها بالتهديدات الحالية التي تواجه الديمقراطيات الغربية. إن هذه التهديدات في الحقيقة كلها داخلية.
الآن، يُستخدم العدوان الروسي على أوكرانيا إلى حد كبير ككبش فداء لتغطية الاضطرابات الاقتصادية العالمية المستمرة، لكنّ هذه الأطروحة لا تصمد أمام التحليل الاقتصادي السليم. كانت الحرب والعقوبات المتسرعة المفروضة على روسيا مجرد عامل حفز نهائي أضيف إلى وضع محفوف بالمخاطر مسبقاً.
كانت سلاسل التوريد ترزح مسبقاً تحت الضغط بسبب جائحة “كوفيد -19” التي هبطت على أنظمة صحية غربية أضعفتها مسبقاً عقود من تخفيضات الميزانية. وفي الوقت نفسه، تخلت الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، منذ فترة طويلة عن الكثير من سياساتها الصناعية لصالح الاستعانة بمصادر خارجية للتصنيع في مناطق الجنوب العالمي. وفي خضم الحديث عن إعادة تشكيل سلاسل التوريد، ثمة مخاوف تلوح في الأفق من أنه سيُطلب من القوى العاملة -التي تآكلت قوتها الشرائية بالفعل بسبب التضخم- تحمل التكاليف.
استعدوا لحساب البيدر
في ألمانيا، التي لطالما كانت أكبر اقتصاد أوروبي، يقال إن مدينة هامبورغ تدرس إمكانية تقنين المياه الساخنة، ولأول مرة منذ العام 1991، سجلت البلاد عجزًا تجاريًا بشكل شهري. وحذر رئيس الاتحاد الألماني لنقابات العمال للتو من أن الصناعات الألمانية الرئيسية قد تواجه الانهيار بسبب التخفيضات في إمدادات الغاز الطبيعي الروسية. ومن المتوقع حدوث اضطرابات اجتماعية وعمالية في البلاد. وقد تكون هذه بمثابة لحظة “ليمان براذرز” أخرى بالنسبة للآلة الاقتصادية الأوروبية.
ويمكن لأزمة الغذاء الدولية أن ترسل مئات الآلاف من اللاجئين الجدد من البلدان الأكثر فقرًا نحو الحدود والشواطئ الأوروبية. ومن الواضح مسبقاً أنهم لن يحظوا بترحيب حار من النوع الذي تلقاه نظراؤهم الأوكرانيون.
وفي الوقت نفسه، فإن أسوا سيناريوهات تجدد حالة “جيه بي مورغان” لأسعار النفط هو ارتفاع هائل يصل إلى 380 دولارًا للبرميل إذا دفعت العقوبات الأميركية والأوروبية روسيا إلى الرد بمزيد من تخفيضات الإنتاج. ومن الواضح أن التضخم ليس مؤقتًا؛ في الواقع، حذر الخبير الاقتصادي نورييل روبيني بالقول: “هناك أسباب كافية للاعتقاد بأن الركود المقبل سيكون مصحوباً بأزمة ديون بسبب ركود تضخمي بالغ الحدة”.
في سبعينيات القرن الماضي، كان هناك ركود تضخمي، ولكن لم تكن هناك ديون ضخمة. والواقع أن مستويات الدين الخاص والعام اليوم كحصة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي أصبحت أعلى بكثير مما كانت عليه في الماضي، حيث ارتفعت من 200 في المائة في العام 1999 إلى 350 في المائة اليوم (يبلغ الدين العالمي الآن حوالي 300 تريليون دولار). وفي مواجهة مثل هذه الظروف، يحذر روبيني من أن “الشركات والمؤسسات المالية والحكومات (يمكن أن تُدفع) إلى الإفلاس والتخلف عن السداد”.
يبدو الآن أن ما يسميه خبراء الاقتصاد بـ”الهبوط الناعم” للاقتصاد العالمي يصبح بعيد المنال باطراد. وقد تبين حتى الآن أن حسابات الديمقراطيات الليبرالية فيما يتعلق بنتائج الصراع الأوكراني، وانهيار روسيا، والوحدة العالمية، والقدرة على تنويع إمدادات الطاقة، كانت كلها خاطئة. لم يكن هناك أي تنبؤ واقعي بشأن الأثر العالمي للعقوبات على روسيا.
في الآونة الأخيرة، عقد الاتحاد الأوروبي، ومجموعة السبع الكبار، وحلف شمال الأطلسي قممهم الخاصة؛ حيث بدا أن كل شيء يسير كالمعتاد؛ لم تظهر ذرة واحدة من الأدلة على نية إجراء استعراض مقبل للسياسات المتبعة. ويبدو أن القادة الغربيين يفضلون الاستمرار في حساباتهم الخاطئة وعدم كفاءتهم وأوهامهم. وقد اختُزلت سياستهم إلى تنويع آخر فقط من نهج “دعونا نحاول ونر ما سيحدث” -وعلى نطاق عالمي.
ربما يشتري الصيف لهم بعض الوقت، ولكن بحلول الخريف، يجب أن يستعدوا للحصاد وحساب البيدر. ومع ذلك، لا داعي للقلق -سوف يلقون باللوم في كل شيء على كاهل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الطريق، وسوف يصدقهم معظم الناس.
*ماركو كارنيلوس Marco Carnelos: دبلوماسي إيطالي سابق. كان قد عُين سفيراً في الصومال وأستراليا والأمم المتحدة. وعمل في فريق السياسة الخارجية لثلاثة رؤساء وزراء إيطاليين بين العامين 1995 و2011. وفي الآونة الأخيرة، شغل منصب منسق عملية السلام في الشرق الأوسط والمبعوث الخاص للحكومة الإيطالية إلى سورية. كان، حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، سفير إيطاليا لدى العراق.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Russia-Ukraine war: How the West got it wrong
المصدر: الغد الأردنية/(ميدل إيست آي)