لافتٌ للانتباه وللتساؤل أن تتم إثارة إعادة أعداد كبيرة من اللاجئات واللاجئين السوريين إلى بلادهم بالتزامن بين تركيا ولبنان، وأن يُفتَح موضوع التفاوض مع السلطات السورية بهذا الشأن. بالتأكيد تتواجد فى البلدين المجاورين أعدادٌ كبيرة من اللاجئين السوريين منذ ما يقارب العشر سنوات، أى ما يعادل جيلا كاملا. وما يعنى أن استمرار الأوضاع على حالها لعشر سنوات أخرى يفصل من ولِدوا فى المهجر اجتماعيا عن بلده الأم.
إثارة موضوع اللاجئين السوريين بهذه الحدة له أسبابه الخاصة لدى كلٍ من تركيا ولبنان، رغم تشاركهما فى الأزمات الاقتصادية والمالية التى يعانيان منها، والأكثر قسوة فى لبنان مما هى فى تركيا. هذه الأزمات تخلقُ مناخا اجتماعيا مشوشا فى كلا البلدين، حيث يتم وضع اللوم على اللاجئين وما يشكلونه من أعباء، بغية إبعاد الانتباه عن المسئوليات السياسية الحقيقية للأزمات.. وهذا ما نشهده أيضا فى دولٍ أوروبية عديدة، حيث لا هم لليمين المتطرف سوى المهاجرين والهجرة (بالطبع غير الأوكرانيين منهم).
• • •
تركيا مقبلةٌ على انتخابات رئاسية العام القادم، فى ظل تدهور العلاقات بين حزب «العدالة والتنمية» الحاكم والأحزاب القومية التركية والأحزاب الكردية. إن المعارضة التركية تأخذ على الرئيس أردوغان سياساته الداعمة لحركات الإسلام السياسى والإبقاء على التنظيمات المتطرفة على حدود البلاد، من جهة، بينما يُشهِر عداءه الكبير حيال الكُرد حتى فى شمال العراق، من جهةٍ أخرى. ولخطاب هذه المعارضة وقعٌ كبير داخليا فى ظل التضخم وتراجع سعر صرف الليرة التركية وتدنى مستوى المعيشة، رغم الإنجازات الدبلوماسية فى اللعب على حبلي حلف الأطلسى وروسيا الاتحادية سوية. ولكن هذا اللعب له أيضا مخاطره مع احتدام الصراع فى أوكرانيا.
من هنا تشكل خطوة التقارب بين السلطتين فى تركيا وسوريا خيارا يُمكن أن يُهدئ من هواجس مواطنيه ويضبط الملف الكردى بالتعاون مع روسيا وإيران. هذا إذا ما لم تُفشِل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية من جهوده. أما الخيار الآخر الذى هدد به أردوغان نفسه فهو احتلال أجزاء أخرى من المناطق الحدودية السورية وتهجير اللاجئين السوريين فى تركيا إليها. وهذا خيار غير واقعى وباهظ الكلفة. أن المناطق الخاضعة حاليا، لتركيا بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، هى أصلا مكتظة بالنازحين الذين يعيشون فيها أوضاعَ مزرية.
أما لبنان فهو غارق فى أزمته الخانقة ماليا واقتصاديا وسياسيا. ومن الواضح أن لا اتفاقَ الآن ولا فى الأفق القريب مع صندوق النقد الدولى، ولا حل لمسألة الودائع الضائعة فى المصارف ولا لادخارات صناديق العاملين ولانهيار الأجور والخدمات. هناك الآن مجرد توافق بين مكونات مجموعة «أمراء الحرب»، بالتعاون مع أصحاب المصارف ومع الاحتكارات التجارية. والهدف واحدٌ للجميع هو إفراغ أى إصلاح من مضمونه والمراهنة إلى ما لا نهاية، لدى كل طرف على داعمه الخارجى. هذا فضلا على استنهاض المشاعر الطائفية بين اللبنانيين لتقوية كل طرف لمركزه فى اللعبة المفرَغة، أو استخدام «خطاب الكراهية» تجاه اللاجئين السوريين وتحميلهم أسباب الأزمة التى أخذوا البلاد إليها.
بالتأكيد تشكل معدلات الولادة المرتفعة لدى السوريين بالتزامن مع هجرة الشباب اللبنانيين بكثافة إلى الخارج إشكالية حقيقية كبيرة يتطلب التعامل معها بعقلانية.. يبدو أنها غائبة للأسف عن ذهنية أغلبية أطراف اللعبة السياسية.
على ضوء الواقع القائم ورغم ضرورة التوصل إلى اتفاق بين السلطتين السورية واللبنانية حول أوضاع اللاجئين وسبل عودتهم، وسهولة هذا التوافق بالقياس إلى الحالة التركية، لا ينبغى توقُع سوى المزيد من السجالات العقيمة داخل السلطة اللبنانية حول الموضوع، وعلى حساب مصائر اللبنانيين والسوريين على السواء.
• • •
فى كل الأحوال، تواجه إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم من لبنان، كما من تركيا، إشكاليات كُبرى. فإلى أين يعودون فى بلاد فقدت الكثير من وسائل إنتاجها وباتت تفتقِر إلى الاحتياجات الحيوية والخدمات الأساسية، من الطحين إلى المشتقات النفطية وحتى الماء والكهرباء؟!
إن السلطة السورية تتفاوض مع الأمم المتحدة للمساعدة حول إعادة الإعمار، أو على الأقل حول «الإنعاش المبكر» (تعبير يرمز الانتقال من الإغاثة إلى تفعيل النشاط الاقتصادى والخدمي). لكن ممولى هيئات الأمم المتحدة يرفضون مثل هذا التوجه، وهم ذاتهم الذين كانوا قد فرضوا منذ 2011 الإجراءات الأحادية الجانب (العقوبات). إنهم يخصصون تمويلاتهم للإغاثة فقط، رغم الهدر الكبير على الجمعيات الناشطة وفى التحويلات فى جميع المناطق وعدم منطقية الاستمرار بهذا النهج.
أضِف أن اللاجئين قد فقدوا الصلة بقراهم وبلداتهم ومدنهم. هناك منازل مدمرة، وتعديات على الأملاك، وملاحقات أمنية، وأطفال غير مسجلين لدى دوائر النفوس السورية، وآخرون لم يذهبوا للمدارس، ورجالٌ ونساء لم يعودوا يمتلكون وسائل عيشهم. وأكثر من ذلك، هناك فئات مجتمعية أخذ كلٌ منها طرفا فى الصراع وعرفت عُنفَه، ولا مصالحة جرت بينها كى تعود وتعيش معا كما قبل 2011. وسؤال كبير: كيف يعود اللاجئون قبل أن يعود أصلا النازحون داخل الأراضى السورية؟!
لقد كان اكتظاظ بعض أحياء المدن وضواحيها نتيجة الهجرة المتسارعة من الريف إلى المدينة أحد أسباب الصراع. وواضحٌ حينها أن الدولة السورية قد فشلت فى مواكبة تلك التطورات الديموغرافية والاجتماعية فى تخطيطها المدينى والإقليمى (أى بين المدن). فهل يعود اللاجئون والنازحون إلى نفس الفوضى العمرانية والبيئية السابقة؟ ولا يبدو أن أجهزة الدولة قد عملت على وضع خطة لهذه العودة كى تتفاوض مع الفئات المجتمعية المعنية وعليها.
• • •
اليوم، ترتفع أصوات «المعارضة» و«الإدارة الذاتية» على التصريحات الصادرة من تركيا ولبنان حول «المصالحة» مع السلطة السورية. هذا رغم أن الطرفين يتفاوضان أصلا سياسيا مع هذه السلطة ويعرفان جيدا أن الفئات المجتمعية التى يسيطران على مقاديرها باتت ترفضهما بمقدار رفضها للقمع الذى قامت به السلطة فى دمشق. وأنهما، أى الطرفان المعنيان، لا أفق «لتجربتهما» دون الدعم الخارجى. كما يعرف اللاجئون أن التضييق عليهم فى بلاد اللجوء بات خانقا.
ولا بد لجميع الأطراف السورية مراجعة خياراتها وأولوياتها. تبقى الأولوية الأساسية هى الدفاع عن سبل معيشة المجتمع السورى، كل المجتمع السورى وفى كل مكان، وعن حرياته. معيشته وحرياته، بما فى ذلك حقه فى اختيار العودة الطوعية أو رفضها. فى جميع مناطق السيطرة داخل سوريا، خاصة المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة، ولكن ليس وحدها.
هذه المراجعة ليست بالتأكيد سهلة. بل هى حقا وحقيقة صعبة، لأنها تعنى الدفاع عن المجتمع السورى بكل فئاته، والدفاع عن دولته فى وجه كل السلطات القائمة والقوى الخارجية الداعمة لها على السواء.
المصدر: الشروق