مفهوم العدالة الإنتقالية حديث نسبيًا، ظهر إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية بقصد معالجة آثار انتهاكات حقوق الإنسان فتشكلت محاكم نورمبرغ وطوكيو. وقد أخذ بالتبلور بداية ثمانينات القرن الماضي إلى أن أصبح المفهوم أكثر طرحاً و تداولاً مع نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة تزامناً مع الأحداث التي شهدتها بعض دول أميركا اللاتينية وأفريقيا وصولاً لإنتفاضات الربيع العربي! وسنقوم هنا بتعريف العدالة الإنتقالية ووسائل تحقيقها وأهدافها الرئيسية ومدى ملاءمتها للقضية السورية وتسليط الضوء على أهم الصعوبات التي قد تواجهها.
أولاً: تعريف العدالة الإنتقالية- Transitional Justice هو مجموعة من الإجراءات والتدابير القضائية وغير القضائية الدولية والوطنية والإصلاحات القانونية والسياسية والمؤسساتية التي تحتاجها بعض المجتمعات والدول لمعالجة ما عانته من إنتهاكات جسيمة وصارخة لحقوق الإنسان والتي تهدف لإجراء محاسبة شاملة عن كافة الأضرار الجسدية والمادية والمعنوية التي تكبدتها الضحايا مع الإقرار بجرائم الماضي ومعاقبة المتورطين فيها لإبرام عقد إجتماعي جديد يشمل جميع المواطنين ويحفظ حقوقهم وكرامتهم ويحقق المصالحة والسلام والعيش المشترك. وهذا يعني الإنتقال من حالة النزاع والحكم التسلُّطي الإستبدادي إلى حالة السلام والحكم الديمقراطي ومن ثقافة الفوضى والإفلات من العقاب إلى ثقافة المحاسبة وسيادة القانون التي يحتاجها المجتمع/الدولة الذي شهدت ثورات أو حروب أهلية ارتُكبَ فيها جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. فالعدالة الإنتقالية هي حالة من إحلال السلام والعدالة تتلو حالات ما بعد الصراع وتُعنى بالضحايا قبل أي اعتبار آخر، كما أن التطورات التي طرأت على مفهوم العدالة الإنتقالية جعلته لم يعد يقتصر على المجال القانوني بل أصبح مشتركاً مع السياسة وعلم الإجتماع أيضاً ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الأسس بمجملها متجذرة في مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ثانيًا-وسائل وأسس تحقيق العدالة الإنتقالية:وتتجلى في وضع مجموعة من الإستجابات القضائية/قانونية وغير قضائية أهمها:
1- الدعاوى والملاحقات الجنائية للمتورطين بالجرائم والإنتهاكات:
ويعتبر أهم الأسس التي تتجسد بها العدالة الإنتقالية وتقوم عليها.! ويتضمن تحقيقات قضائية تؤدي لتقديم المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان -لا سيما كبار المسؤولين وأصحاب القرار الذين يتحملون القدر الأكبر من المسؤولية الجرمية – إلى المحاكم المختصة سواء كانت وطنية أو دولية أو تم تشكيلها لذلك الغرض.! وهذا يعني بذل كافة الجهود القانونية/القضائية والسياسية والإستقصائية الحثيثة المؤدية مباشرة للقبض على المجرمين وتقديمهم لمحاكمة عادلة.
2- المساءلة الجزائية وتحقيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب: وهو متعلق كثيراً بالبند السابق. فإعادة الثقة بالسلطة القضائية لها أهمية ودور متميز في وأد العنف والجرائم الوحشية واستعادة سيادة القانون مما يساعد في منع تكرار الجرائم والنزاعات المستقبلية.
3- لجان الكشف عن الحقائق: وهي آليات تُعنى بكشف حقيقة ماجرى وقد تكون غير قضائية لكنها استقصائية -و يفضل أن تكون مستقلة-تعمل على تقديم تقارير تُوثِّق الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت أثناء فترة النزاع وتدعيمها ببيانات ومعلومات عن الإعتداءات وعن الذين تأثروا بها أو تورطوا فيها. كما يمكنها اقتراح بعض التوصيات لدعم المصالحة الوطنية والطرق المثلى لتعويض الضحايا وكل ما يساعد في منع تكرار الإنتهاكات
4- تشكيل لجان مستقلة لتحديد وكشف مصير المعتقلين والمختفين قسريَّاً: ويجب أن يكون لهذه اللجان آليات تمكنها من كشف حقيقة ودوافع ما حدث من انتهاكات وخرق لقانون حقوق الإنسان والإسهام الجدي والسريع والمباشر بالإفراج الفوري عن كافة المعتقلين ومعرفة مصير المختفين والمغيَّبين قسرياً.! وهذا بدوره يساعد في سرعة التئام الجراح وبدء عملية الإستقرار السياسي والمجتمعي. ونشير هنا إلى أن مستوى نجاح هذه الجهود يعتمد على سرعة الجهود الدؤوبة المبذولة وعلى مستوى تعاون الأطراف المعنية كالحكومة والسياسيين والضحايا ومنظمات المجتمع المدني5- تدابير التعويض -جبر ضرر الضحايا: وتعني التعويض المادي للضحايا عن الأضرار المادية والمعنوية التي ألمَّت بهم والتي نتجت عن الجرائم والإنتهاكات. بما فيها إعادة الممتلكات ورد الإعتبار وإعادة التأهيل والإعتذارات الرسمية وطرق تكريم الضحايا كإنشاء المتاحف والنصف التذكارية لهم وتخليد ذكراهم بإطلاق أسمائهم على المدارس والشوارع والساحات العامة. 6- إصلاح مؤسسات الدولة وإعادة بنائها: لا سيما القمعية منها التي لعبت دوراً محورياً في الإعتداءات على حقوق الإنسان كالقوى الأمنية والعسكرية وأجهزة المخابرات والمحاكم الإستثنائية. ولا بد هنا من ضرورة إجراء تعديلات قانونية تلغي/تحدّ من سطوة تلك الأجهزة وتتوافق مع مبادئ القانون الدولي الإنساني بحيث تصبح حامية للحقوق بدلاً من أن تعتدي عليها وبالتالي تحويلها من أدوات للقمع والفساد ومصادرة الحريات إلى مؤسسات مكرَّسة للخدمة العامة تتسم بالشفافية والنزاهة.
ثالثًا- أهداف العدالة الإنتقالية: وهي تتجلى أساساً بالإنتقال الحقيقي للمجتمع إلى حالة الإستقرار السياسي والمجتمعي والتعايش السلمي في البلاد ويمكن إيجاز أهمها بما يلي:
1- تحقيق المصالحة الوطنية: ويعتبر الهدف الأساس ومحور غايات العدالة الإنتقالية. فبعد الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان والخسائر المادية والبشرية التي لحقت بشرائح المجتمع ستنعدم الثقة بشخصية الدولة ومؤسسات القانون التقليدية وسلطات إنفاذه ويتجلى ذلك بشكل واضح في الدول التي عانت من حروب ونزاعات أهلية(الحالة السورية ثورة و ليست حرب أهلية)حيث يتولَّد لدى المواطنين دوافع قوية للإنتقام والثأر وأنواع استيفاء الحق بالذات مما سينتج عنه حالة عنف متبادل. وهذا بدوره يُحتِّم زرع الثقة بين المواطنين لا سيما أولياء الدم والضحايا من خلال فرض أسس وآليات على الأرض تتمتع بالثقة الناتجة عن مبدأ المحاسبة الجزائية وعدم الإفلات من العقاب مما يجعل أولياء الضحايا يحجمون عن استيفاء حقوقهم خارج سلطة القانون
2- وأد مبدأ الإفلات من العقاب إلى الأبد وتعزيز الديمقراطية: وذلك بترسيخ ثقافة المسؤولية الجزائية لدى أشخاص الدولة ومؤسساتها والتحقيق الفعلي لمبدأ سيادة القانون فوق الجميع وفرض عقوبات عادلة بحق كل المتورطين بالجرائم مهما علا شأنهم وأيضًا الذين لم يحاولوا منع إرتكابها. كل ذلك يعزز هدف ومفهوم دولة القانون بدلاً من مفهوم الدولة القمعية التسلُّطية.
رابعاً- ملاءمة العدالة الإنتقالية للحالة السورية وتحديات تطبيقها: مما يميز الحالة السورية عن غيرها هو وجوب البدء بتنفيذها أثناء الأزمة وليس بعد الإنتهاء منها كما حصل بباقي الدول. فالجرائم والإنتهاكات ما زالت مستمرة والأدلة عليها متوفرة نتيجة الأنشطة التوثيقية الهائلة التي أثبتت -وما زالت تثبت- ضلوع رأس النظام ومسؤوليته المباشرة مع زبانيته وحلفائه والمليشيات التابعة لهم عن آلاف المجازر والجرائم بحق الشعب السوري. إن استمرار المأساة السورية بكل ما احتوته وما زالت من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. يجعل من البدء بتطبيق العدالة الإنتقالية ضرورة ملحة لإيقاف المقتلة المستمرة للسوريين! لكننا نعتقد -رغم معرفة المجرمين والقتلة ووضوح الجرائم وإكتمال أركانها-بصعوبة تطبيقها في الحالة السورية لعدة أسباب أهمها:
1- إن الدولة (نظام أسد) هي نفسها من ارتكبت الإنتهاكات بحق شعبها وتواطأت على ذلك واستجابت الدول والمليشيات لمساعدتها في قتل شعبها وتدمير البنى التحتية للدولة.! فكيف نلتمس العدالة إذا أصبح من يقع عليه واجب الحماية هو القاتل.؟!
2- تقاعس المجتمع الدولي والموقف السلبي للأمم المتحدة تجاه القضية السورية: مما أدى إلى عرقلة معظم المسارات نحو العدالة والإنتقال السياسي. فلم تلقَ مطالب السوريين بإحالة أسد والمتورطين معه إلى المحكمة الجنائية الدولية أو تشكيل محكمة خاصة للنظر بتلك الجرائم الوحشية التي ارتكبوها بحق السوريين عن سابق إصرار وتصميم. وهذا بدوره شكَّل تحدياً حقيقياً للتوصل -حتى و لو بشكل نسبي- إلى حل سياسي قانوني يؤدي لحفظ حقوق الضحايا وملاحقة المجرمين وهو بالتالي المقدمة الأولية وحجر أساس العدالة الإنتقالية
3- إتجاه الإرادة الدولية لعدم إزاحة الأسد المجرم وتسويقه على أنه جزءاً من الحل: ونعتقد أن هذا مخالفة صريحة ومعوِّقًا أساسيًا لتحقيق أية عدالة أو انتقال سياسي.! حيث سيصبح المجرمون -الذين هم أساس المشكلة-جزءاً مشاركاً في عملية العدالة وتحقيق السلم الأهلي الذي سيواجه استحالة التحقيق إن لم يتم القضاء على أسباب الإنتهاكات وأولها محاسبة المتسببين والمسؤولين عنها والمتورطين فيها.! ** هل يكفي الإعتذار عن الجرائم بدلاً من المحاسبة عليها لتحقيق العدالة.؟! وهذا ما عُرف مؤخراً ب(العدالة التصالحية) التي أطلقها المبعوث الدولي لسورية غيربيدرسون الذي اعتبرها -على حد زعمه أو نفاقه- زلة لسان أو خطأ فني.!!؟؟ نحن نرى إنه لمن السخف وهدم لأدنى مفاهيم العدالة أن يتشارك الجاني مع الضحية لتحقيق أية مصالحة تقوم على مبدأ إفلات المجرم من العقاب لأن العدالة التصالحية عكس الإنتقالية فهي لا تتضمن محاسبة ومكاشفة المجرمين ولا حتى تكريم الضحايا (فقط بوسة شوارب) كما أننا لا نعتقد بنجاعة(العدالة التعويضية) أيضاً والتي تقتصر على تعويض المتضررين دون الملاحقة القضائية والمحاسبة الجزائية لمرتكبي الجرائم والإنتهاكات. أي تقوم فقط على مبدأ جبر الضرر بعد الإعتراف بالإختراقات القانونية. نأمل أن تتوحد الجهود -لا سيما منظمات المجتمع المدني- للضغط باتجاه تحقيق عدالة إنتقالية حقيقية في سورية تقوم على الإستقامة والمساواة أمام القانون تراعى فيها حقوق الإنسان ويتحول المجتمع والدولة السورية إلى نمطية أخرى يسودها السلم الأهلي/الداخلي وتنقل سورية من حالة حكم الدولة البوليسية الهدَّامة إلى حالة البناء الوطني والحكم الديمقراطي.
المصدر: إشراق