يتسبب انحسار نهر الفرات في سوريا بتهديدات وجودية لآلاف السكان، كما يهدد قطاع إنتاج الحبوب في كامل أنحاء البلاد. وفيما تساهم المعطيات الجيوستراتيجية في تفاقم الأزمة، يلمّح مراقبون إلى أن الأزمة قديمة، وقد ساهم سوء التخطيط، وفشل إدارة هذا الملف من قِبل حكومة دمشق، في المزيد من التصحر والجفاف.
وتظهر صورتان، وفرتهما وكالة الفضاء الأوروبية عبر الأقمار الاصطناعية، التقطت الأولى في أيار/مايو 2020، والثانية أيار/مايو 2021، تراجع منسوب المياه في سد تشرين في وسط سوريا. كما تظهر صورتان أخريان، التقطت الأولى في آب/اغسطس 2020 والثانية في آب/أغسطس 2021، تغير مستوى المياه في “بحيرة الأسد” على سد الطبقة في سوريا.
ويُعد سدّا تشرين والطبقة، اللذان يغطيان تسعين في المئة من حاجات شمال شرق سوريا من الكهرباء، أهم سدين بنيا على نهر الفرات، الذي ينبع من جبال طوروس في تركيا، ويتدفق منها إلى سوريا، عبر مدينة جرابلس في ريف حلب الشمالي، مرورا بمحافظة الرقة شمالا، ومنها إلى دير الزور شرقا، وصولا إلى العراق.
ويرى الكاتب الصحفي أحمد مظهر سعدو، في حديثه لـ”الحل نت”، أن “للمشاريع المائية الكبرى، المنشأة في الدول المجاورة لسوريا، التأثير الكبير على مجمل حال المياه المتدفقة باتجاه البلاد، وانحسار نهر الفرات خصوصاً، الأمر الذي يأتي ضمن سياق صراع المياه في المنطقة برمتها”.
ويتابع، أن “من حق الدولة التي ينبع منها النهر أن تستغل ذلك، بما ينعكس إيجاباً على شعبها ومن أجل فائدته، إلا أن هناك اتفاقات دولية تحدد الكميات المستهلكة والمتروكة للدول المجاورة، وهو ما يجب التوافق عليه بين الدول المتجاورة”.
انحسار الفرات يؤدي لتهديدات وجودية
وفيما حذرت الأمم المتحدة من أن “فترات الجفاف ستصبح أطول وأكثر حدة حول البحر الأبيض المتوسط”، صنّف مؤشر الأزمات العالمية للعام 2019 سوريا على أنها “البلد الأكثر عرضة لخطر الجفاف في منطقة المتوسط”.
ويوضح أحمد مظهر سعدو، أن “هناك تهديدات وجودية كبيرة، تطال حياة آلاف الناس، بسبب شح المياه، وصولا إلى حالة الجفاف العامة، وانحسار نهر الفرات، وهو من أهم الأنهار في الشرق الأوسط، ويجري في منطقة تعتبر فيها مصادر المياه، وارتباطها بالزراعة، الأهم في جل حياة البشر. ولابد من تعاون في هذا السياق، وتنازلات قد تكون صعبة، من أجل استمرار تدفق المياه، وتجنّب الوصول إلى الجفاف العام والمهلك. ومن ثم فإن الاهتمام بإعادة إنشاء البنية التحتية للمياه قد يساهم هو الآخر في بعض من رأب الصدع، والتقليل من حجم الكارثة”.
وبالموازاة، يرى مهند أبو الحسن، مدير البيانات في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، خلال حديثه لـ”الحل نت”، أن “نوعية التهديدات التي تطال سكان المنطقة، نتيجة انحسار نهر الفرات، هي تهديدات وجودية، فالمنطقة زراعية بامتياز، وهي خزان الحبوب لكامل الأراضي السورية، وبالتالي، سيؤثر شح المياه فيها على سوريا ككل، لأن مخزون الحبوب سوف يتناقص”.
وتطول تهديدات الانخفاض الكبير في مخزون المياه، في سدود الطبقة وتشرين والبعث، الإنتاج الزراعي لأكثر من 475 ألف فدان (200 ألف هكتار) من الأراضي المروية، وبحسب تقارير متعددة فقد المزارعون المحليون حوالي ثمانين في المئة من محصولهم.
انحسار نهر الفرات بوصفه ورقة ضغط سياسي
ولكن ماذا عن الأبعاد السياسية المباشرة لانحسار نهر الفرات، ودوره في الصراع القائم في سوريا؟
يستبعد أحمد مظهر سعدو، أن “تشكّل أوضاع المياه حالة ضغط على قوات سوريا الديمقراطية، أو أن تؤدي إلى تراخيها في مواجهة تركيا، إلا على مستويات قليلة ومحددة، تتعلق بمياه الشرب وتبادلها مع الكهرباء، أي التبادل القائم بين رأس العين والحسكة”.
في حين يرى مهند أبو الحسن، أن “تركيا تستخدم ملف المياه، للضغط على قسد، لكن ليس بالمعنى الشامل الذي يتم الترويج له، لأن هذا الملف يمكن أن يحوّل إلى محكمة العدل الدولية، على غرار ما حدث مع أثيوبيا، وسد النهضة الذي تبنيه على منابع نهر النيل. وفي النهاية يمكن لتركيا استخدام أدوات ضغط أخرى عديدة غير ملف المياه”.
ومن جانب آخر، يستبعد أبو الحسن، أن “نشهد تعاونا عربيا لتنسيق الجهود وتعزيز الموقف التفاوضي، لحل هذه المشكلة”. مشيرا إلى أن “الدولة الوحيدة، التي يمكن أن تتدخل، وتلعب دورا في تخفيف حدة الموقف، الذي أدى إليه انحسار نهر الفرات، وحث الأطراف على مناقشته، هي الإمارات، إذا كان لديها طموح للاستثمار في المنطقة، على نمط استثماراتها في جزيرة سوقطرة باليمن. وهذا أمر محتمل جدا”.
دور سياسات حكومة دمشق في أزمة المياه
تشكل المياه عنصرا أساسيا واستراتيجيا للسيطرة داخل الأراضي السورية. كما تعدّ السدود الكبرى في سوريا المصدر الأساسي للكهرباء، ما يفسر سباق قوات سوريا الديمقراطية، وحكومة دمشق للسيطرة على السدود، والأحواض في المنطقة، وهو السباق الذي يزيده انحسار نهر الفرات.
ويبدو هذا السباق ملحوظا بشكل واضح، بحسب أحمد مظهر سعدو، “فهنالك صراع كبير بين قسد وحكومة دمشق، من أجل القبض والسيطرة على مصادر المياه المتاحة، للإمساك برقبة الطرف الآخر من خلالها. إذ أن المياه باتت تشكّل عنصرا مهما للحياة والاستمرار، ليس في سوريا فحسب، بل في كل البلدان. ولعل هذه المسألة سوف تشكل محور الصراعات القادمة في المنطقة برمتها، بل في العالم”.
ويرى مهند أبو الحسن، أن “أزمة المياه في سوريا قديمة، ويعود تاريخها إلى العام 1974، وهو التاريخ الذي شرعت فيه تركيا ببناء مشروع الأناضول العظيم، خاصة في ظل اللامبالاة التي أبدتها دمشق منذ تلك الفترة حول الأزمة، التي تبدو الآن أوضح مع انحسار نهر الفرات”.
متابعا: “لا تشكّل السدود التي تبنيها تركيا جوهر الأزمة، بل تعود الأسباب الأكبر إلى الاستراتيجية التي كانت ولا تزال تتبعها دمشق لإدارة ملف المياه. وعلى سبيل المثال أدى سوء التخطيط في تنفيذ مشاريع توسيع المناطق الزراعية، منذ فترة حافظ الأسد، إلى حدوث تصحر فظيع وممتد”.
في حين يقول أحمد مظهر سعدو، “رغم أن أزمة المياه قديمة، إلا أنها تتصاعد باضطراد، نتيجة شح المياه والجفاف العالمي. كما أن أوضاع المياه في سورية ترتبط بالسياسات العصاباتية والتغولية، التي وسمت مرحلة حافظ الأسد وابنه من بعده، إذ تُركت مصادر المياه لمصالح المتنفذين والضباط، الذين حفروا الآبار على هواهم، ما أثّر على حال المياه الجوفية”.
ويشمل “مشروع الأناضول العظيم” اثنين وعشرين سداً، وتسع عشرة محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية، على طول نهري دجلة والفرات، لري 4.2 مليون فدان (1.7 مليون هكتار) من الأراضي في منطقة حران التركية.
وكانت دمشق، قد وقّعت في العام 1987 اتفاق تقاسم مياه مع تركيا، تعهدت بموجبه أنقرة أن توفر لسوريا معدلاً سنوياً من المياه، يبلغ خمسمئة متر مكعب في الثانية. لكن هذه الكمية، بحسب تقارير صحفية، انخفضت إلى أكثر من النصف خلال الأشهر الماضية، ووصلت في فترات معينة إلى مئتي متر مكعب في الثانية فقط. وقد يكون هذا من أهم أسباب انحسار نهر الفرات.
المصدر: الحل نت