مراقبون يعتقدون أن إدارة بايدن تحاول كسب ود مصر من أجل تصدير الغاز إلى أوروبا. بعد فترة من الهدوء النسبي عاد ملف سد النهضة للاستحواذ على الحديث السياسي والإعلامي في مصر، منذ أن أعلنت إثيوبيا بدء الملء الثالث للسد في قت سابق من الشهر الحالي، والمقرر أن يستمر حتى الأسبوع الأول من أغسطس (آب) المقبل.
ملف سد النهضة يشكل تحدياً خطراً للأمن المائي المصري ويمثل أحد أعقد الألغاز الدبلوماسية في العالم، لا سيما بالنظر إلى تغير المناخ الذي يجعل من ندرة المياه قضية عالمية.
وبلغت التوترات بين مصر وإثيوبيا ذروتها منذ العام الماضي عندما أقدمت الأخيرة على الملء الثاني لخزان السد، متجاهلة تحذيرات القاهرة والخرطوم في شأن الآثار السلبية على الأمن المائي لدول المصب، ودعواتهما إلى توقيع اتفاق ملزم في شأن عملية الملء والتشغيل.
أخيراً كثر الحديث في الشارع المصري حول توجيه ضربة عسكرية للسد الإثيوبي، وهو السيناريو الذي استبعدته القاهرة، وفي يونيو (حزيران) الماضي تصاعدت حدة الخلاف مع استئناف أديس أبابا عملية تعلية السد للشروع في تخزين كميات أكبر من المياه خلال موسم الفيضان.
وعلى مدى أكثر من سبع سنوات تسعى القاهرة والخرطوم إلى توقيع اتفاق ملزم في شأن المبادئ التوجيهية لملء السد وتشغيله بموجب اتفاق إعلان المبادئ الذي وقعته الأطراف الثلاثة في مارس (آذار) 2015.
وبينما تتفق البلدان الثلاثة على حق إثيوبيا في بناء السد الذي يكلف 4.8 مليار دولار، تتعلق نقطة الخلاف الرئيسة بالإطار الزمني لملء خزان سد النهضة، وهي قضية شائكة تمثل صلب الخلافات الحالية بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، بسبب تأثيرها في إمدادات المياه لدولتي المصب.
وفي حين ترغب إثيوبيا في ملء الخزان في غضون ثلاث إلى خمس سنوات، وهو ما شرعت فيه بالفعل، تطالب مصر بزيادة عددها إلى سبع أو 10 سنوات، ويشمل ذلك كمية المياه التي ستصل إلى دولتي المصب في فترات الجفاف عند تعارض حاجات توليد الكهرباء مع وصول كميات كافية من المياه إلى مصر والسودان، وكيفية حل أية خلافات مستقبلية.
من المقعد الخلفي إلى الأمام
في خضم ذلك التوتر عالي الأخطار توسطت الولايات المتحدة في عهد الإدارة السابقة لدونالد ترمب بالشراكة مع البنك الدولي في محادثات جادة بين الأطراف الثلاثة لتوقيع اتفاق، لكن المفاوضات انتهت برفض إثيوبيا التوقيع على اتفاق نهائي في فبراير (شباط) 2020 متهمة واشنطن بالتحيز لمصر.
وبرحيل ترمب فضلت الإدارة الديمقراطية الجديدة لجو بايدن الجلوس في المقعد الخلفي ودفع الاتحاد الأفريقي لقيادة المفاوضات بين الدول الثلاث المعنية، وهو التوجه الذي برز عندما زار مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان القاهرة في أواخر سبتمبر (أيلول) العام الماضي، في إطار جولة للمنطقة شملت السعودية والإمارات.
وقتها خلا بيان البيت الأبيض من ذكر ما إذا كانت قضية سد النهضة تمثل عنصراً رئيساً في محادثات سوليفان الذي التقى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ولفت إلى أمن القرن الأفريقي.
وكان المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأميركية سامويل وربيرغ أكثر وضوحاً عندما أشار خلال تصريحات في مايو (أيار) الماضي إلى حدود التدخل الأميركي عند تقديم دعم تقني أو فني بموجب طلب من كل الأطراف المعنية، مضيفاً “نرى أن الحل يجب أن يصدر من عواصم الأطراف الثلاثة”.
لكن أخيراً بدا الاهتمام الأميركي بالقضية متزايداً، وهو الاهتمام الذي يتزامن مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا وفي إطار تحولات مستمرة بعيداً من النظام العالمي أحادي القطب الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
وينظر إلى زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة في وقت سابق من الشهر الحالي باعتبارها خطوة أولى نحو التراجع عن سياسة فك الارتباط مع المنطقة التي اتخذتها واشنطن قبل أكثر من عقد.
وخلال زيارته السعودية التقى بايدن للمرة الأولى منذ توليه منصبه الرئيس المصري، وبرز ملف سد النهضة ضمن المحادثات بين الطرفين، إذ أكد الرئيس الأميركي “دعم الولايات المتحدة للأمن المائي المصري”.
وبحسب ما جاء في البيان الأميركي المصري المشترك الذي نشره البيت الأبيض، فإنه “في ما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي الكبير أكد الرئيس بايدن دعم الولايات المتحدة الأمن المائي لمصر، وصياغة قرار دبلوماسي يحقق مصالح جميع الأطراف ويسهم في الوصول إلى منطقة أكثر سلاماً وازدهاراً”.
وربما يعد البيان الرئاسي المشترك هو الأكثر وضوحاً لتطور موقف إدارة بايدن تجاه مصر، إذ ذكر أن “الرئيسين جددا تأكيد ضرورة إبرام اتفاق في شأن ملء وتشغيل سد النهضة من دون مزيد من التأخير، على النحو المنصوص عليه في بيان رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتاريخ 15 سبتمبر 2021، ووفقاً للقانون الدولي”.
كما أعلنت واشنطن خلال القمة “تخصيص 50 مليون دولار لمعالجة الأمن الغذائي في مصر لمواجهة التحديات الناجمة عن الحرب الأوكرانية”.
قطع الطريق على الصين
واستكمالاً لذلك الموقف الأميركي الذي يهدف أساساً إلى الحفاظ على حلفاء المنطقة ضمن المحور الغربي في ظل التنافس الروسي – الصيني على توسيع العلاقات والنفوذ في الشرق الأوسط وأفريقيا، زار المبعوث الأميركي الخاص للقرن الأفريقي مايك هامر القاهرة الأسبوع الحالي لدفع الجهود الدبلوماسية للتسوية في شأن سد النهضة، بما يدعم الحاجات المائية والاقتصاد ومعيشة كل مواطني مصر والسودان وإثيوبيا، وفقاً لما جاء في بيان السفارة الأميركية بالقاهرة.
وظهر أن بيان المبعوث الأميركي يحمل لغة تقارب تجاه مصر، إذ ذكر “جئت إلى القاهرة في أول رحلة رسمية لي إلى المنطقة لأستمع إلى آراء شركائنا المصريين في شأن القضية المهمة المتعلقة بسد النهضة الإثيوبي الكبير، ولفهم حاجات مصر المائية بشكل أفضل، ونشارك بنشاط في دعم طريق دبلوماسي للمضي قدماً برعاية الاتحاد الأفريقي للتوصل إلى اتفاق يوفر الحاجات طويلة الأجل لكل مواطن على امتداد نهر النيل”.
ووفقاً للبيان ركزت زيارة المبعوث الخاص التي جاءت بعد أيام فقط من لقاء الرئيسين بايدن والسيسي، على هذه الأولوية المتعلقة بصياغة قرار دبلوماسي يحقق مصالح جميع الأطراف ويسهم في إقامة منطقة أكثر سلاماً وازدهاراً.
النشاط الدبلوماسي الأميركي المتزايد في مسألة سد النهضة، خصوصاً السعي إلى التقرب من وجهة النظر المصرية، يعكس أجندة داخل البيت الأبيض لإنقاذ نفوذها العالمي المتلاشي في عالم كانت تهيمن عليه قوة عظمى واحدة، كما يشير إلى تنبه واشنطن لضرورة قطع الطريق على الوساطة الصينية، فوفقاً لموقع “آسيا تايمز” الصيني موّلت بكين السد ولديها استثمارات تجارية كبيرة في إثيوبيا وأصول متعلقة بالأمن في القرن الأفريقي، كما أنها تدعم نظام عبدالفتاح البرهان في السودان، فضلاً عن أنها مستثمر مهم في مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في مصر.
وإلى جانب موسكو استخدمت بكين مراراً حق النقض (فيتو) في مجلس الأمن الدولي لمنع الإدانة الشديدة لسلوك إثيوبيا في حرب تيغراي.
ومن المرجح أن تكثف الصين جهودها لجلب القاهرة والخرطوم وأديس أبابا إلى طاولة المفاوضات، ونتيجة لذلك فمن المتوقع أن تبرز كقوة حاسمة في منطقة القرن الأفريقي وتزيد نفوذها في مصر ودول مجلس التعاون الخليجي.
وعينت الصين أخيراً مبعوثاً خاصاً للمنطقة، وأجرى جولة في عدد من دولها خلال مارس الماضي، وأعلن أن بكين ستستضيف مؤتمر سلام مخصص للمنطقة هذا العام.
استرضاء القاهرة
بيد أن الحرب في أوكرانيا ترتبط بشكل وثيق بالنشاط الدبلوماسي الأميركي حيال قضية سد النهضة، وقال مراقبون إن إدارة بايدن بدت تتخذ موقفاً متعاطفاً مع القاهرة، كما من المستبعد أن تتبنى موقفاً أكثر حيادية لأن الولايات المتحدة حريصة على دفع مصر لتصدير غاز شرق المتوسط إلى أوروبا في ظل مساعي أميركا والاتحاد الأوروبي لخفض واردات الغاز الروسي.
وخلال زيارة السيسي إلى برلين الأسبوع الماضي أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز أن القاهرة وبرلين اتفقتا على التعاون في بناء اقتصاد الهيدروجين في إطار جهود أوروبا لتنويع مصادر الطاقة للحد من اعتمادها الحالي على الغاز الروسي.
وقال شولتز خلال مؤتمر صحافي مع الرئيس المصري، “من أجل تحول الصناعة في دول مثل ألمانيا ستكون الكهرباء والهيدروجين من المصادر المهمة، وسيتم استيراد كثير من هذا الهيدروجين”، مضيفاً “شيء واحد علينا تعلمه من هذه الأزمة وهو أهمية التنوع، إذ يجب أن لا تعتمد على شريك واحد، ويجب أن يكون لديك شركاء كثر مناسبون”.
وأخيراً برزت دلائل عدة على محاولات استرضاء القاهرة من قبل أميركا وحلفائها الأوروبيين، ففي يونيو الماضي أثار بيان للاتحاد الأوروبي في شأن قضية سد النهضة الغضب الإثيوبي، وذهبت أديس أبابا إلى اتهام أوروبا بالانحياز للقاهرة.
البيان المشترك موضع الجدل صدر في ختام الاجتماع التاسع لمجلس المشاركة بين مصر والاتحاد الأوروبي، إذ أعرب عن ترحيب الطرفين بالبيان الرئاسي لمجلس الأمن حول سد النهضة الإثيوبي الصادر في سبتمبر 2021 في شأن “التوصل إلى اتفاق مقبول وملزم لدى جميع الأطراف حول ملء وعملية تشغيل السد”.
وأكد البيان “أهمية نهر النيل كمصدر وحيد للموارد المائية والحياة في مصر في إطار الندرة المائية الفريدة بها”، وذكر أن “التوصل إلى هذا الاتفاق بأسرع وقت ممكن يعد بمثابة أولوية قصوى للاتحاد الأوروبي ومصر من أجل حماية أمن مصر المائي ودعم السلام والاستقرار بالمنطقة ككل”.
وأضاف البيان أن “ملايين الأشخاص المقيمين في حوض النيل سيستفيدون من اتفاق حول سد النهضة الإثيوبي، إذ سيخلق الاتفاق القدرة على التنبؤ ويفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية في الطاقة والأمن الغذائي والمائي”.
وسرعان ما رد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية دينا مفتي عبر إفادة صحافية بأن بيان الاتحاد الأوروبي “لا يراعي المصالح المشتركة بين الدول، وأنه يحافظ على المصالح المصرية فقط”، مضيفاً أنه “متحيز وغير مقبول بكل المعايير”.
المصدر: اندبندنت عربية