الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف ينادي لزوجته وأنا في منزله بدمشق: “تعالي اسمعي حبيبنا المصري يقول كلاما طيبا”. ثم فاجأني بسؤال:”أين رواية سعيد الشحات”؟
فاجأني الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف في منزله بالعاصمة السورية دمشق بسؤال: “حدثني عن رواية سعيد الشحات؟”.. فسألته: “تقصد راوية لي؟.. أجاب: “نعم”.
كنا في أكتوبر 1996، وكنت ضمن وفد صحفي يرافق نواب من مجلس الشوري في زيارة إلي سوريا الحبيبة بدعوة من جامعة حلب، ونزلنا في مطار حلب لنجد حفاوة بالغة في استقبالنا ، وكانت باقات الورود التي تم تقديمها لنا دليل علي البهجة بزيارتنا، وبعد أن ذهبنا إلي فندق “شهباء الشام” وهو واحد من أكثر الفنادق الفاخرة في سوريا، فوجئنا بأن الزيارة المحددة سلفا بخمسة أيام ستمتد إلي عشرة، سنزور خلالها “دمشق” و”اللاذقية” و” القنيطرة”، و”الحسكة” وسنمر علي “حمص” وحماة ” و” الحسكة”.
كان كل شيء مبهجا في الزيارة، وذكريات الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 وزيارات جمال عبد الناصر إلي سوريا حاضرة أينما نحل في لقاءات الناس والمسئولين، وفي دمشق التقينا بنائب رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الشعب السوري، وعبد الله الأحمر أمين عام حزب البعث السوري، غير أنني ومنذ وصولي كان لي برنامجي الصحفي الخاص الذي وضعته قبل السفر، وشمل رغبتي في لقاءات مع وزير الدفاع السوري العماد مصطفي طلاس ، ووزير الخارجية فاروق الشرع، وزودني أستاذي محمود المراغي رئيس تحرير جريدة” العربي” بالخطابات الرسمية اللازمة.
وفور أن وصلنا إلي الفندق في حلب، طلبت من الدكتور “حورية” رئيس جامعة حلب إرسال خطاباتي إلي “طلاس ” و”الشرع “أملا في تحديد مواعيد وقت الانتقال إلي دمشق، لكن لم أتلقي ردا، ولما وصلت إلي دمشق، قررت تغيير خطتي الصحفية إلي لقاءات ثقافية لمبدعين سوريين علامات في تاريخ الإبداع العربي، فسألت عن سعد الله ونوس المؤلف المسرحي الشهير الذي كان يعاني وقتها من مرض السرطان لكن ظروف مرضه حالت دون لقائه، وذهبت إلي نقابة الفنانين السوريين للبحث عن المطرب الشهير صباح فخري، فلم أجده ،وكذلك الشاعر محمد الماغوط، وأخيرا اقترح زميلي مراسل جريدة العربي في سوريا “أحمد مظهر سعدو” أن نحاول لقاء الروائي الكبير “عبد الرحمن منيف” الذي يعد أهم روائي عربي بعد نجيب محفوظ، فتحمست، وتحدد الموعد في اليوم التالي.
ومنذ أن تحدد الموعد وفي الطريق إليه كنت أستعيد في ذاكرتي قراءاتي لثلاثة أجزاء من خماسيته الشهيرة “مدن الملح” و” الأشجار واغتيال مرزوق” و”سباق المسافات الطويلة” و”شرق المتوسط” و”النهايات” بالإضافة إلي درايتي بسيرته الشخصية الملهمة، حيث عاش رحلة منفي بين عواصم عربية وأوربية حتي كانت محطته الأخيرة في سوريا، وهو السعودي الأصل المولود في عمان 1933، وفي حوالي الساعة السابعة مساء كنت في منزله بشارع “المزة” بدمشق مع زميلي ” أحمد مظهر”.
كان ترحيبه بالغًا، وكانت لوحات الفن التشكيلي التي تزين جدران الصالون تتألق مع الأضواء، مما أضفي علي المكان جمالا وهيبة، وبعد الترحاب طالبني أن أعطيه نبذة سريعة عن وضع الإبداع في مصر التي يعشقها، متذكرا حياته فيها من 1955 إلي 1958، حيث جاء لاستكمال دراسته في ” الحقوق” بعد طرده من العراق لمعارضته انضمامها إلي حلف بغداد الذي أسقطه عبد الناصر.
تحدثت باستفاضة عن المشهد الإبداعي في مصر وموقع الإبداع الروائي فيه، وأخذت راوية” الحب في المنفي” أحدث روايات بهاء طاهر وقتها مجالا في الكلام حيث لم يكن قرأها بعد لكنه تابع الاهتمام الواسع بها، وذكرت له رواية “مراعي القتل” لفتحي إمبابي بمناسبة فوزها بجائزة الدولة التشجيعية، وروايات أخري، وسألني عن جمال الغيطاني، والناقد فاروق عبد القادر، ونجيب محفوظ، وبينما يأخذنا الكلام فوجئت به ينادي زوجته :”تعالي انضمي لنا، حبيبنا المصري يقول كلاما طيبا” وانضمت الزوجة، وحين وصلت إلي نهاية كلامي، فاجأني بسؤاله: “وأين رواية سعيد الشحات؟.
فاجأني السؤال الذي لم استوعبه في لحظاته الأولي، ثم سألته :”تقصد رواية لي” قال :”نعم ” قلت له: “أنا قارئ رواية ومهتم فقط”.. فعلق :”ولماذا لا تكتبها، أنت حكاء جميل، ولو كتبت حديثك لي الآن بطريقة حكيك سيكون مفيدا ؟”..شكرته علي مجاملته فسألني عن عمري ، فقلت:” 36 عاما ” فرد :”أنا كتبت راويتي الأولي “الأشجار واغتيال مرزوق” بعد الأربعين من عمري، هجرت العمل السياسي إلى الإبداع لأنه الأبقى”.
كان ذلك مدخلا لحواري معه الذي امتد إلي ساعتين شمل الحديث عن إبداعه ورحلة منافيه، وتأكيده علي أن “النفط” هو سبب بلاء هذه المنطقة وقوله:” نحن مقبلون إلي بداوة تتمكن فينا أكثر، أنا أخشي من البداوة الجديدة التي تزحف علي المنطقة، صحيح نحن نلبس ربطات العنق، وملابس حديثة تفوق في أناقتها أحيانا أزياء فرنسا، لكن نحمل في داخلنا بداوة كبيرة في السلوك والعلاقات الاجتماعية والنظرة والموقع، وأخيرا القرار السياسي”.
حين انتهيت من حواري، قال لي: “رغم أهمية الحوار، إلا أنني كنت أتمني أن نتحدث في قضية الديمقراطية.. هل تصدق أنني أبلغ من العمر 62 عاما ولا أملك تذكرة انتخابية، وتلك مسألة حرمت منها طوال حياتي التي عشتها كالطير المعلق بين السماء والأرض”.
عدت إلي القاهرة بموافقة منه علي اقتراحي بأن أراسله بريديا، ومحملا بسلاماته إلي جمال الغيطاني وفاروق عبد القادر، ونشرت جزءا من حواره في جريدة “العربي”، وكاملا علي 9 صفحات بدراسة عن عالمه الإبداعي في مجلة “القاهرة، مارس 1997” وقت أن كان الدكتور غالي شكري رئيسا لتحريرها، وحين جاء إلي القاهرة عام 1998 في الدورة الأولي لملتقي الإبداع الروائي التي حصل علي جائزتها، قابلته وكان سعيدا بما نشر في مجلة القاهرة ،وجددت رغبتي في المراسلات بيننا فوافق متحمسا، وهو مالم أفعله وحين توفي في فبراير عام 2005، ندمت علي عدم مراسلته وشعرت أنني خسرت فكرة صحفية مهمة.
المصدر: صفحة الصحافي سعيد الشحات