كشفت المعلومات التي ظهرت بمناسبة محاكمة ضابط الاستخبارات الأسدية العقيد أنور رسلان في المانيا مؤخرا مسائل لم تكن معروفة سابقا لكثيرين منا، يترتب عليها إعادة تقييم صورة المعارضة.
بداية، قد يكون المدخل المناسب لهذا الموضوع تأمل الفرق بين صورتين الأولى: صورة المجرم الذي قتل 58 مواطنا، واغتصب عددا من النساء، تقدمت خمس منهن حتى الآن الى القضاء الالماني بإفاداتهن ضده، جالسا في قفص الاتهام ينظر بازدراء واستخفاف لكل من في المحكمة وما يدور فيها، وما يقوله المدعي العام جاسبر كلينغ في صفحة الاتهام ضده. لم يكن خجلا من أفعاله البربرية المشينة، لم يعتذر، لم يأسف، لم يطأطئ رأسه كما فعل المتهم الثاني إياد غريب الذي أخفى وجهه اثناء المحكمة. وقيل إنه تعاون مع المحققين وكشف لهم معلومات أكثر مما طلبوا على عكس العقيد الذي ظل يدافع عن إجرامه وإجرام زملائه ضباط استخبارات الأسد. وتبين بمناسبة المحكمة أن أنور رسلان لم ينشق عن النظام، بل هرب من سورية الى تركيا خوفا على أسرته عام 2012 لأنها تعرضت للتهديد من بعض الثوار، للضغط عليه ليوقف جرائمه، ولم يعلن انشقاقه عن النظام بعد وصوله الى تركيا كما فعل مئات الضباط والمسؤولين في النظام. بل إن ما يصدم المتابع هو أن أنور رسلان لم يعلن موقفا واضحا من نظام الأسد ومن جرائمه حتى هذه اللحظة، مما يثير ريبة قوية في قصة ” انشقاقه ” أصلا!!
الثانية: صورة الوحش البشري المذكور في اسطنبول يدخل مقر (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة) الممثل الشرعي للمعارضة السياسية، والناطق بلسان الشعب الرافض لنظام الأسد، حسب نص الدعوة التي ارسلها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون اليه في نهاية 2013. ولا نعلم كيف ومن ولماذا قررت قيادة الائتلاف العتيدة ضم العقيد أنور رسلان وبسرعة ملفتة للنظر الى الوفد الذي سيمثل الثورة والمعارضة والشعب السوري الثائر في أول جولة مفاوضات مع وفد النظام في مطلع عام 2014. المهم أن رسلان شارك في مفاوضات جنيف ضمن وفد الثورة لا ضمن وفد النظام بصفة مستشار عسكري مع عسكريين آخرين!
هل كانت (المعارضة) العتيدة قاصرة الى هذا الحد عن فهم ما يمثله رسلان؟ وهل كانت تجهل ما يتضمنه سجله الاتهامي/ الاجرامي في تعذيب 4000 مواطن سوري بريء في فرع 251 من جهاز أمن الدولة وقتل 58 شخصا منهم تحت التعذيب بإشرافه وبقرار منه شخصيا واغتصاب العديد من الحرائر؟
وهل كانت مضللة بخروجه من سورية الى تركيا أم كانت مطلعة على خلفية خروجه؟
لماذا لم يطلب الائتلافيون الأشاوس من رسلان إذاعة انشقاقه علنا، وإدانة النظام والتبرؤ من جرائمه، قبل أن يرسلوه الى جنيف ممثلا للثورة والثوار؟
ولماذا لم يطلبوا منه تسليمهم ما بحوزته من معلومات ثمينة وحساسة عما يجري في غياهب زنازين الأسد …؟ أسئلة كثيرة يمكن إدراجها ضمن لائحة السقطات المعيبة للائتلاف وهي للأسف غير قليلة، أو بالأحرى علامات الشك والريبة في ارتباطات بعض أركانه بنظام الأسد، لا سيما بعد اكتشاف عملاء حقيقيين لاستخبارات هذا في صفوفه.
كان على الائتلاف وقواه الثورية أن تكون أول من يعمل على ملاحقة المجرم المحترف وتوقيفه ومحاسبته، بدلا من مساعدته على تعويمه كمعارض وتطويبه كشخصية قيادية في أهم محفل دولي للمعارضة!
ولكي ندرك ما جرى بعد مؤتمر جنيف علينا أن نعلم أن شخصيات رئاسية من الائتلاف نفسه هي التي سهلت لأرسلان الانتقال الى المانيا ليعيش فيها في أمان، أو يواصل مهمته الغامضة في المانيا بين مليون لاجئ سوري. الائتلافيون الأشاوس هم الذين استحصلوا على فيزا لأرسلان ليدخل المانيا بسهولة ويسر معززا ومكرما لا يتكبد مشاق الوصول اليها ولا يواجه مخاطر العبور عبر أمواج البحر، وبهدلة البر التي مر بها ملايين السوريين، ولاقى كثير منهم حتفه بين المتوسط وايجه والاطلسي.
وإذا كان كل ما سبق يمكن التهرب منه بمبررات كثيرة من هنا وهناك ، والقول إننا لم نكن نعرف ، فإن ما لا يمكن فهمه ولا تبريره ولا غفرانه لأحد من فرسان المعارضة ومناضلي الائتلاف الاشاوس ، كرئيس الائتلاف الاسبق خالد خوجة، هو الحملة على الحقوقيين الذين عملوا المستحيل لإقناع السلطات الألمانية بتوقيف المجرم المذكور ومحاكمته ، وذلك بحجج واهية ، كالقول إن هذه المحاكمة لا تحقق العدالة ، لأنها لا تحاكم الجميع ، وتردع الآخرين الساعين للانشقاق ، ووصلت اتهامات بعضهم للتشكيك بنوايا وأهداف المحاميين الرئيسيين أنور البني ومازن درويش واتهامهما بالعمل لصالح الأسد . وأخطر وأفسد ما في هذا الرأي الأخرق أو الموقف أنه يفسر لماذا لم تعمل المعارضة طوال كل هذه السنوات شيئا لملاحقة المجرمين من أركان النظام المقيمين في اوروبا منذ عشرات السنين كرفعت الأسد، وبين هؤلاء المعارضين الأشاوس حقوقيون خرجوا من سورية باكرا، وتبوأوا أعلى المناصب في الائتلاف والمجلس الوطني والحكومة المؤقتة وتعهدوا بالعمل لإسقاط النظام ومحاكمته في الخارج.. ولم يفعلوا شيئا، سوى ادانة من عملوا بجد واخلاص سنوات، وحققوا أولى الانجازات على مسار العدالة والتشكيك بهم، وقلب الحقائق رأسا على عقب، الأمر الذي يمكن اعتباره خدمة مجانية لمجرمي النظام، ودفاعا عنهم، وتهديدا للحقوقيين الشجعان الذين حققوا أحد أهم الانجازات على صعيد المواجهة الشاملة مع أهم أعوان الأسد ونظام الطغيان والتوحش. وهو انجاز يشق طريقا مهما لإحكام الحصار الدولي على النظام، ويفشل جهود روسيا الجبارة لإعادة تأهيله وتعويمه دوليا. ويرسي بالمقابل مسارا قضائيا عالميا مضمون النتائج لتحقيق العدالة، قابلا للتعاظم ويمكن أن يتطور مع الوقت طريقا لمحاكمة النظام دوليا وسياسيا.