أحدث فصول التحوّلات الدراماتيكية التي طرأت على السياسات الشرق أوسطية منذ عامين كتبتْها أخيراً زيارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى أنقرة. كان حفل الاستقبال الكبير الذي نظّمه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لبن سلمان، ثم مرافقته إلى المطار لوداعه (وهذا نادراً ما يفعله أردوغان مع ضيوفه الكبار) أوضح صورة عن المنحى الجديد الذي تسلكه العلاقات التركية السعودية، منذ قرّر البلدان طي سنواتٍ من الخصومة الحادّة بينهما، والتركيز على التحوّل في الأولويات لكل منهما. كون الزيارة كانت الأولى لولي العهد إلى تركيا بعد أربع سنوات من أزمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، وبعد أكثر من شهر على زيارة أردوغان المملكة، فإنها عكست رغبة أنقرة والرياض في تعزيز العلاقة الجديدة الناشئة بينهما. بالنظر إلى الأزمة العميقة التي أحدثتها قضية خاشقجي في العلاقة بين الرجلين، فإن إعادة ترميم الثقة بينهما تكتسب أهمية بالغة في هذه المرحلة في منطقةٍ عادة ما تلعب فيها العلاقات الشخصية بين الزعماء دوراً بارزاً في تشكيل العلاقات بين بلدانهم.
منذ قرّرت تركيا قبل أشهر إغلاق التحقيق في قضية خاشقجي، وإحالة الملف إلى السلطات السعودية، والاعتراف بالأحكام الصادرة عن القضاء السعودي بهذا الخصوص، فإن العائق الأكبر الذي كان يواجه إعادة ترميم العلاقات بين البلدين قد أزيل. مع ذلك، سيستغرق ترميم الثقة على مستوى القادة مزيداً من الوقت، قبل تحويل التقارب المستجد إلى علاقة قوية بين الدولتين، وتطويرها إلى تعاون في السياسات الإقليمية. لوحظ في البيان المشترك الذي صدر في أعقاب المحادثات التأكيد على الرغبة المشتركة في تطوير التعاون على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية كافة، لكنّه لم يتضمّن اتفاقياتٍ واضحة، على غرار ما فعلته تركيا والإمارات عقب المصالحة بينهما، ما يُشير إلى أن الوتيرة التي تسير بها العلاقات الجديدة بين تركيا والسعودية أبطأ من وتيرة العلاقة بين أنقرة وأبو ظبي. ما يبدو مفهوماً بالنظر إلى أن ديناميكية التحوّلات في السياسة الخارجية السعودية متحفّظة وتتكيّف ببطء مع الواقع الجديد.
وكانت أنقرة والرياض قد انخرطتا على مدى العقد الماضي في تنافس على ملء الفراغ الإقليمي الناجم عن زلزال الربيع العربي، وتحوّله إلى خصومة حادّة عقب أزمة خاشقجي، إذ إن عودة الدفء الكامل إلى العلاقات تتطلب أولاً معالجة التبعات الناجمة عن هذا التنافس، وإعادة ترميم الثقة بين أردوغان ومحمد بن سلمان. حقيقة أن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين لم تنقطع تماماً خلال فترة الأزمة، شكّلت أرضية مناسبة للدخول في هذه العملية، فضلاً عن أن هذا الجانب أحد الدوافع الرئيسية للطرفين لطي مرحلة الخلاف. وبالنسبة لأردوغان، أثّرت الخصومات الإقليمية الواسعة التي انخرط فيها خلال العقد الماضي، لا سيما مع السعودية والإمارات، بشكل حادّ على الاقتصاد التركي الذي يعتمد، في بعض جوانبه، على الاستثمارات الخليجية والسعودية، وعلى توافد السياح الخليجيين. لذلك، تبرز استعادة العلاقات الاقتصادية أولوية رئيسية لأردوغان الذي يستعد لخوض انتخابات حاسمة منتصف العام المقبل، ويسعى إلى إعطاء دفعة قوية للاقتصاد الذي يعاني من صعوبات التضخم، وتدني سعر صرف العملة من خلال البحث عن مزايا الانفتاح على الخصوم الخليجيين السابقين.
أدرك السعوديون والإماراتيون، منذ فترة، أن تركيز أردوغان على تصفير المشكلات الإقليمية ينبع بشكل رئيسي من تحوّل الأولويات نحو الاهتمام بالاقتصاد مع اقتراب الانتخابات، وقد وجدوا في ذلك فرصةً مناسبة لتحفيزه على تغيير النهج في العلاقة معهما. مع الأخذ بالاعتبار أن الرياض، كما أبو ظبي، تتطلّع أيضاً إلى الاستفادة الاقتصادية من مزايا الانفتاح على تركيا التي تمتلك إمكانات اقتصادية كبيرة، وفرصاً واعدة للاستثمارات الأجنبية فيها. علاوة على ذلك، فإن حقيقة أن أردوغان والملك سلمان بن عبد العزيز حافظا على التواصل المستمر بينهما خلال فترة التوتر ساعد على نحو كبير في اختصار عامل الوقت لإزالة الخصومة الشخصية بين أردوغان ومحمد بن سلمان. من المرجّح أن يتحول بيان النوايا الذي صدر عن قمّة أنقرة إلى خطواتٍ عمليةٍ في المستقبل القريب. تتطلع أنقرة إلى إبرام اتفاقيات اقتصادية وتجارية جديدة مع الرياض، كما تسعى إلى إبرام صفقةٍ لتبادل العملات مع السعودية، على غرار الصفقة التي أبرمتها مع الإمارات نهاية العام الماضي.
كون تركيا والسعودية من القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة، فإن أي علاقة بينهما، متوترة أو جيدة، تنعكس، بشكل مباشر، على الوضع الإقليمي. لذلك، تُؤشّر مساعي التقارب الجارية إلى حقبة جديدة لن تنحصر نتائجها في العلاقات الثنائية أو العلاقات التركية الخليجية فحسب، بل ستنسحب كذلك على الوضع الإقليمي. لكنّ حدوث تعاون إقليمي بين أنقرة والرياض سيتطلّب وقتاً أكبر، بالنظر إلى تبعات المنافسة الإقليمية الطويلة بينهما، والفترة التي ستستغرقها عملية إعادة ترميم الثقة بين أردوغان ومحمد بن سلمان. ولعل ذلك ما يُفسّر الاهتمام التركي السعودي حالياً بمجالات التعاون في الاقتصاد والتجارة بقدر أكبر من المجالات الأخرى. من شأن استعادة العلاقات الاقتصادية بشكل طبيعي أن يُمهد الأرضية لتعاون بين البلدين في قضايا الإقليم، وهي عديدة، وتؤثر على مصالح البلدين، في مقدمها الدور الإيراني في المنطقة. من شأن تكرار الزيارات المتبادلة بين زعماء البلدين أن تُسرع في دفن الأحقاد الشخصية وعدم جعلها حجر عثرةٍ في وجه تعاون إقليمي أوسع بين تركيا ودول الخليج.
بالنظر إلى أن الخلافات التركية السعودية خلال السنوات الماضية ارتبطت بمجموعة من العوامل، منها الاستقطاب الإقليمي الواسع النطاق بين أنقرة والمحور السعودي الإماراتي المصري الذي تشكل بعد 2013، فإن إصلاح العلاقات بين أنقرة وأبو ظبي لعب دوراً مهماً في تهيئة الأجواء المناسبة لإنهاء الخلافات بين أنقرة والرياض. على مدى السنوات الماضية، انخرطت السعودية في تحالف إقليمي مع الإمارات ومصر ودول أخرى لمواجهة الصعود المتنامي للنفوذ التركي في المنطقة. وقد أخذت هذه المواجهة أبعاداً عديدة عقّدت، على نحو كبير، من الخلافات التركية السعودية، كصعود الصراع مع تيار الإسلامي السياسي الذي دعمته أنقرة، وأزمة مقاطعة قطر، والصراع بالوكالة في ليبيا، فضلاً عن تبنّي التكتل السعودي المصري الإماراتي موقفاً منتقداً بشدة الدور التركي في سورية والعراق. مع تراجع الإسلام السياسي وإنهاء الأزمة مع قطر، وتهدئة الصراع الإقليمي في ليبيا، وتفتيت تركيا خصوماتها الإقليمية بشكل تدريجي، باتت الطريق سالكة بشكل أكبر للمصالحة التركية السعودية.
بقدر حاجة تركيا إلى إعادة ترميم علاقاتها مع السعودية، بالنظر إلى ثقلها الإقليمي والإسلامي، فإن التحوّلات الكبيرة التي طرأت على الوضعين الإقليمي والدولي، خلال العامين الماضيين ورغبة الولايات المتحدة، الراعي الرئيسي لأمن منطقة الخليج، في فك ارتباطها بالمنطقة، تجعل من استعادة العلاقة مع أنقرة ضرورة ملحة للرياض، في سياق استراتيجية التحوّط التي تنتهجها السعودية للحد من تداعيات هذه التحولات عليها وتحويلها إلى فرص لبناء شراكات إقليمية جديدة. علاوة على ذلك، فإن نجاح تركيا في تكريس حضورها الإقليمي على مدى العقد الماضي وتحوّلها إلى لاعب رئيسي في كثير من قضايا المنطقة، فضلاً عن امتلاكها قدراتٍ عسكرية كبيرة تجذب اهتمام السعودية بها. لقد أظهرت الصناعات الدفاعية التركية، على وجه التحديد، نجاحاً كبيراً وتُجري الإمارات منذ فترة محادثات مع أنقرة لشراء الأسلحة. ومن المرجّح أن تهتمّ السعودية أيضاً باقتناء الأسلحة التركية. في مارس/ آذار من العام الماضي، كشف أردوغان عن تلقي طلب من السعودية لشراء طائرات بدون طيار تركية، ويُمكن أن تؤدّي العلاقة الجديدة مع الرياض إلى تحقيق هذا الهدف.
على صعيد آخر، تنظر تركيا بأهمية كبيرة إلى العلاقات الجديدة التي تقيمها مع السعودية والإمارات لمساعدتها في عملية إصلاح العلاقات مع مصر. من المرجّح أن يزداد زخم هذه العملية في الفترة المقبلة، حيث سيكون في وسعهما لعب دور إيجابي في تسريع المصالحة بين أنقرة والقاهرة. مع ذلك، سيواجه أي تعاون إقليمي بين تركيا والسعودية معضلة اختلاف مقاربة البلدين للدور الإيراني في المنطقة. على الرغم من أن الطرفين تضرّرا بأشكال مختلفة من هذا الدور، إلا أنهما يختلفان في سبل مواجهته. ففي حين أن الرياض سترغب في دفع أنقرة إلى الانخراط في تكتل إقليمي واسع ضد إيران، فإن لدى تركيا دوافع كثيرة تجعلها تتبنّى نهجاً حذراً في هذه المسألة. لدى أنقرة وطهران علاقات اقتصادية واسعة، وعامل الجغرافيا يفرض عليهما الحفاظ على مستوى مقبول من العلاقات لمواصلة إدارة التنافس الإقليمي بينهما بأقل الأضرار. وعلى صعيد الملف النووي الإيراني، تتبنّى تركيا نهجاً مختلفاً عن السعودية، وتدعم إعادة إحياء الاتفاق النووي. ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى قلقها من أن يؤدّي فشل إعادة إحياء الاتفاق والتصعيد الإقليمي المتزايد إلى إطلاق سباق تسلح جديد في المنطقة، وانحراف طهران نحو عسكرة قدرتها النووية.
المكانة الجديدة التي اكتسبتها تركيا في المنطقة في العقد الأخير ورغبتها في لعب دور رائد في إدارة الوضع الإقليمي في مرحلة ما بعد تراجع الدور الأميركي، فضلاً عن علاقاتها المتشابكة مع معظم الفاعلين الإقليميين الرئيسيين، كالخليج وإسرائيل وإيران، يجعل منها قوّة مهمّة في الدفع باتجاه حوار إقليمي يرسم قواعد لحدود التنافس الإقليمي، بما لا يُخرجه عن السيطرة. كما أن إصلاح العلاقات السعودية التركية يُساعد الرياض في تركيز سياساتها الإقليمية على احتواء النفوذ الإيراني. مع ذلك، ستجد أنقرة والرياض مساحة للتعاون الإقليمي لتحجيم الدور الإيراني في سورية والعراق واليمن ولبنان.
المصدر: العربي الجديد