لم يبلغ الصراع بين قوى النظام الإيراني وتياراته يومًا العتبة التي بلغها هذه الأيام، حيث أخذ الصراع بينها يتجه نحو معركة كسر عظم، وسعي التيار المحافظ إلى حسم الموقف لصالحه، كما عكسته توجيهات المرشد الأعلى، علي خامنئي، وإجراءات الحرس الثوري الإسلامي، بدءا من تقييد حركة حكومة الرئيس الإيراني، حسن روحاني، و”المجزرة” التي تمت خلال دراسة طلبات الترشح لانتخابات مجلس الشورى، وتحقيق المحافظين الفوز في هذه الانتخابات، وصولا إلى قرار المرشد تكليف المؤسسة العسكرية، الحرس الثوري والباسيج والجيش، بالتصدّي لجائحة كورونا، والتمهيد لإعداد المسرح للفوز بالانتخابات الرئاسية في يونيو/ حزيران 2021.
بدأت المعركة بهجوم المحافظين؛ ورأس حربتهم، الحرس الثوري، على حكومة الرئيس روحاني بإطلاق المرشد مواقف سياسية متشدّدة إزاء العقوبات الأميركية وسبل مواجهتها تحت راية ما أسماه “الاقتصاد المقاوم”، مواقف على الضد من توجهات روحاني، الساعي إلى إيجاد مخرج لرفعها أو تخفيفها؛ والحد من انعكاساتها على الاقتصاد الإيراني وعلى حياة المواطنين، عبر الضغط على ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، الموقعة على الاتفاق النووي الإيراني المعروف بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة”، لتفعيل “الآلية المالية الأوروبية للتجارة مع إيران” (إينستكس)، وعبر الإبقاء على باب التفاوض مع الولايات المتحدة مفتوحا وربطه برفع العقوبات، وكذلك بتحميل الحكومة مسؤولية الأزمة الاقتصادية وتراجع سعر صرف العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، واتخاذ المجلس الأعلى للأمن القومي قرارا بتقليص التزام إيران ببعض بنود الاتفاق النووي، والتصعيد بسلسلة من الاستفزازات العسكرية في الخليج العربي وبحر العرب وضرب منشأتي إنتاج النفط السعوديتين في خريص وبقيق. وقد منح قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قتل قائد فيلق القدس، الجنرال قاسم سليماني، زخما للصراع وصبّ الماء في طاحونة المتشدّدين في النظام، الحرس الثوري خصوصا، بتوفير مبرّر للتصعيد ضد الوجود الأميركي؛ وضد حلفاء الولايات المتحدة؛ في الإقليم، لقطع الطريق على محاولة حكومة روحاني الانفتاح على دول الجوار العربي؛ خطوة على طريق ترميم العلاقات مع المجتمع الدولي، من جهة، وتحجيم روحاني من خلال استبعاده وفريق الخارجية عن مهمة التعامل مع تداعيات التصعيد، وتولي المرشد هذه المهمة بنفسه، من جهة ثانية.
لعب المحافظون لعبة تشويه صورة روحاني وحكومته، عبر فتح ملفات الفساد داخل الحكومة، وفي الوسط المحيط به. تناولت الاتهامات شقيقه، وإصدار قرارات تمس حياة المواطنين من دون إعلامه بالأمر، مثل قرار رفع سعر البنزين، الذي قال “إنه علم به من الإعلام”، ووضعه أمام الأمر الواقع ما اضطرّه للدفاع عن القرار وتبريره بربطه بتوزيع عائد الزيادة على المحتاجين وهم بالملايين، وانتقاد حكومته لعجز قوات الداخلية والاستخبارات عن مواجهة تظاهرات الاحتجاج على القرار؛ خرجت في 25 محافظة من أصل 31، ونزول الحرس الثوري و”الباسيج” للجم هذه الاحتجاجات وقمع المحتجين، وقتل وجرح آلاف منهم بذريعة ارتباطهم بمجاهدي خلق والنظام الشاهنشاهي، لإبراز فشل الحكومة، وما تمثله في المشهد السياسي الإيراني: التيار الإصلاحي. ولإيجاد بيئة مؤاتية لانتخابات مجلس الشورى المقرر إجراؤها يوم 21 فبراير/ شباط 2020، وتبرير استبعاد المرشحين من هذا التيار، رفض مجلس صيانة الدستور طلبات ترشح الآلاف، نحو تسعة آلاف من أصل أربعة عشر ألف طلب، بما في ذلك طلبات إصلاحيين وتسعين من أعضاء المجلس القائم، واستثمار قتل سليماني بإقامة جنازة مشهدية، استمرت ثلاثة أيام، وشملت مدن بغداد وكربلاء والنجف في العراق والأحواز ومشهد وطهران وقم وكرمان، مسقطِ رأسه، في إيران، والرد على قتله بقصف قاعدتين عين الأسد في العراق تستضيفان قوات أميركية، وهذا سمح للمتشدّدين بالفوز بأغلب مقاعد المجلس الـ290، حصلوا على 221 مقعدا مقابل 16 مقعدا للإصلاحيين.
كما استثمروا تفشّي وباء كورونا في عدد من المحافظات، في انتقاد ردة فعل حكومة روحاني، حيث شن النواب المحافظون في مجلس الشورى حملة ضدّها “لأنها تردّدت في تطبيق سياسة الإغلاق والعزل في مراكز الوباء، ولأنها لم تتزوّد مسبقاً بمعدّات الحماية وأجهزة الفحص، ولأنها تسارع إلى فتح الأسواق وتخاطر بتفشّي جديد للوباء”، وفتحوا ملف “اختفاء” مبلغ 4.8 مليارات دولار، بيعت للمستوردين بالسعر الرسمي، الذي يقل كثيراً عن سعر الدولار في السوق الموازية، من أجل استيراد بضائع لم تستورد، وتحويل مبالغ كبيرة إلى مستوردي السيارات الفاخرة، خلافاً للتعليمات، وفق تقرير مكتب المراقب المالي. وجاءت الضربة الأكبر لحكومة روحاني من تكليف المرشد الجيش والحرس الثوري بمهمة التصدّي للوباء، وإنشاء قاعدة طبية لمكافحة الفيروس، ما سمح للحرس الثوري الإسلامي بالسيطرة على نظام الرعاية الصحية، بما في ذلك بعض أفضل مستشفياته وأطبائه الأكثر تدريباً، والدخول في صراعٍ مع وزارة الصحة بشأن كيفية التعامل مع الأزمة.
ومن طرائف المنافسة والصراع إعلان قائد الحرس، الجنرال حسين سلامي، عن اختراع خبراء الثورة جهازا يمكنه اكتشاف إصابة شخص بالفيروس عن بعد مائة متر وخلال خمس ثوانٍ، وتعزيز فرصه في مد نفوذه وإحكام قبضته على القرار الإيراني في مختلف المجالات. وقد حقق بإطلاقه قمرا صناعيا عسكريا مكسبا إضافيا على طريق إحكام قبضته على زمام السلطة في إيران، وبناء دولته الخاصة داخل الدولة الإيرانية، ما يعني أن المرشد والحرس الثوري باتا يملكان القرار الاستراتيجي، ما وضع السلطة التنفيذية الإصلاحية خارج القرارين، السياسي والأمني؛ وفي عزلة عما يحدث من تطورات في الإقليم، وحوّل الحكومة إلى تابعٍ يعمل تحت السقف الذي يحدّدانه ويرسمانه.
حاول روحاني كسر حدّة الحملة ضده وضد حكومته بإثارة المخاوف من تداعيات التشدد وخيارات المحافظين لجهة تدمير الأسس التي قامت عليها الثورة الإسلامية: الجمهورية والإسلامية، ودعا، ردّا على توجه المتشدّدين لإضعاف سمة الجمهورية وتعزيز سمة الإسلامية، إلى الحفاظ على السمتين، والإبقاء على النظام كما صاغه قائد الثورة، آية الله الخميني، محذّرا من تأسيس سلطة وحكومة دينية بإسقاط آليات الانتخاب والتعدّدية والتنوع الفكري والثقافي والاجتماعي؛ ومن تأثير ذلك على إيران ونظامها في حال استمرت الممارسات التي تقوم بها جهاتٌ ومؤسساتٌ من المفترض أنها دستورية، وتعمل من أجل صيانة الجمهورية، والحفاظ على نظامها ضد شريحة واسعة من الإيرانيين، حاملي مشروع إصلاح النظام، وإدخال تعديلاتٍ على آلياته بما يحفظ استمراريته واستعادة شعبيته.
لم تثمر دعوة روحاني، في ضوء قناعة المتشدّدين أن الظرف مناسبٌ لحسم الصراع، إلى الاستفادة من تصاعد وتيرة المواجهة مع الولايات المتحدة، العدو القومي للنظام وثورته، على خلفية قتل سليماني، وما رافقه من مظاهر التضامن الشعبي في تشييعه، وتوظيفها في استقطاب الداخل، والعمل على التخلص من العقبات والمخاطرة المحتملة التي يمكن أن تواجه مسيرة السيطرة على السلطة، وما تبقى من مراكز القرار في النظام، عبر ترسيخ مبدأ “التمكين” الذي يشكّل أساس الحكومة الإسلامية؛ والتخلص من استحقاقات الجمهورية وقيودها بالتستر خلف إبراز الإسلامية ومستدعياتها، كما يقدّمها مبدأ ولاية الفقيه: قداسة الولي الفقيه واتصاله بالوحي، وكلامه الذي لا يرد، والبدء بإطلاق شرارة المشروع بحسم الانتخابات البرلمانية.
لم تتوافق حسابات الحقل مع حسابات البيدر، فقد تعرّض حلم المتشدّدين بحسم الصراع عبر الانتخابات البرلمانية لهزّة عنيفة جاءت من جهة غير متوقعة: الشعب الإيراني، الذي تصوّر المتشدّدون أنهم روّضوه في المواجهات الأخيرة، قمع تظاهرات 2017 و 2018 و2019، وأنه بحاجة إلى من ينقذه من وباء كورونا وتبعاته، العوز نتيجة الإغلاق وتوقف الأعمال، حيث تضرّر سبعة ملايين مواطن، وفق إعلان الناطق باسم الحكومة، علي ربيعي، وما لمسوه من تعاطفٍ وحماسٍ وطني خلال تشييع سليماني. الشعب، الذي قاطعت أغلبيته الانتخابات البرلمانية؛ في تجاهل تام للحملة الإعلامية الاستثنائية التي قادها المرشد لحث المواطنين على التصويت، باعتباره واجبا دينيا ووطنيا لصد أعداء البلاد، صعق المتشدّدين بمقاطعته التي شكلت ضربة لشرعية النظام وكشف قلة الثقة التي يحظى بها لدى المواطنين، مع توقع تعمق الفجوة بينه وبين المواطنين، على خلفية عجزه عن تلبية المطالب الاجتماعية والاقتصادية على المدى القصير، حيث تستمر العقوبات الأميركية وتتصاعد؛ وعدم وجود فرصة لتحسّن الوضع الاقتصادي، في ظل هيمنة الحرس الثوري الإسلامي والقوى المتشدّدة على مقدّرات النظام، وهدرها في مشاريع لا تشكّل مصلحة وطنية أو تحظى بشعبية.
لم يُحسم الصراع، ما يعني الدخول في دورة جديدة منه، ستكون أكثر خشونةً وعنفا، للتعجيل بالحسم في ضوء احتمال غياب المرشد، المريض والطاعن في السن، ما يحتم استثمار وجوده ودعمه أو السيطرة على عملية اختيار خليفته، كي تتم المحافظة على التوجه ومستدعياته، ومواصلة العمل لتحقيق الحسم المطلوب.
المصدر: العربي الجديد