ما بين ذاكرتين، رواية خلود هاشم تعتمد أسلوب الكتابة المشاعرية، لا يحكمها سياق زمني محدد، تنمو من خلال ما يتدفق من بوح ذاتي للشخصية المحورية في الرواية “شام”، تعتمد أساليب مختلفة في طريقة السرد. تحضر الراوية في البداية تسرد واقع ما تعيشه شام، ثم سرعان ما تحضر شام نفسها، لتتحدث عن نفسها و عن حبيبها ثائر، ويحضر ثائر نفسه على منصة السرد ليدلي بدلوه. لا ضابط زماني للرواية في تصاعدها، أما المكان فهو سورية في أواخر العشر الأولى للألفية الجديدة، ويمتد الحدث ليشمل الثورة السورية، ثم المأساة السورية، بعدما حول النظام وحلفاؤه والغرب الصامت سورية الى موطن الموت والدمار والتشرد. نلتقط أطراف الحكاية ومفاصل الرواية في نهر البوح المتدفق لحبيبة تراود حبيبها عبر الكتابة، لتعلن موت حب مستحيل التحقق، ونصل مع نهاية الرواية إلى بلورتها ومعرفة جوهرها الأساسي ورسالتها.
شام فتاة دمشقية تلتحق بكلية الهندسة المدنية في عام ٢٠٠٧م. تتعرف صدفة على شاب يدرس في نفس الجامعة، يسبقها في عدة أعوام. هذا التعارف سيؤدي إلى حب عميق وقوي بينهما، يعيشان علاقة الحب بتدفق نفسي وعمق وشغف. حبهما مضبوط في جانبه السلوكي، جوع الجسد للحبيب الآخر بينهما لا يتجاوز قبلة على الخد وخلجان القلب و توفز المشاعر. يعوضان عن تلبية رغبات الجسد بعيش التواصل الدائم والبوح وتبادل الرسائل.
على المستوى العام كانت سورية على موعد مع ربيع الحرية الذي جاء في أوائل عام ٢٠١١م. والذي سرعان ما تم مواجهته بالبطش والقمع والقتل والتنكيل، ولم تمض سنوات عليه حتى أصبح مأساة على الشعب السوري كله. استعان النظام بحلفائه وداعميه، وقرر أن يقتل كل من تحرك وثار، امتلأت السجون والمعتقلات، ودمرت أغلب المدن وتشرد اغلب اهلها داخل سورية وخارجها.
لم يغير ما حصل في سورية من حب شام وثائر لبعضهما، بل زادهم حبا وترابط، خاصة عندما شارك ثائر بالتظاهر ومناشط الثورة الأخرى، مما أدى إلى اعتقاله، ذاق ويلات الإعتقال، ولأنه حريص على حياته، فقد باع بيته وما يملك ودفعه رشوة وخرج من المعتقل. كما حصل متغير في واقع العلاقة بين شام وثائر أثّر على العلاقة بينهما على كل المستويات. كان ذلك في عام ٢٠١٣م، في السنة الثالثة للربيع السوري، وحيث أصبحت سورية ساحة حرب من النظام وحلفائه على الشعب السوري. أرادت شام أن تذهب من دمشق إلى حلب، ركبت الحافلة، التي قصفها طيران النظام على الطريق قريب من مدينة حمص، قُتل أغلب من فيها، ووصل الخبر الى ثائر على أن شام قد ماتت متأثرة بالحروق والإصابة، لقد تشوهت مع غيرها، ولم يسلم منها إلا محفظتها، فُجع ثائر بما حصل، وعاش حياته منذ ذلك الوقت فاقدا حبيبته الأثيرة شام. أما حقيقة ما حصل مع شام أنها كانت من الناجين، وقد أنقذها أحدهم واسمه جود، شام نجت بجسدها، لكنها فقدت ذاكرتها. احتضنها جود، وبعد أن شفيت من جروحها، وبعد غياب أي مؤشر لها عن ماضيها. سمّاها نور، ولأنه لا يعرف أحد يتواصل معه لأجلها، كان الحل له ولها أن طلبها للزواج، هي لم تكن تحمل أي موقف مسبق، ورضيت بمن احتضنها وانقذها، وهكذا أصبحت زوجة جود، بنت حياة جديدة، منقطعة بالمطلق عن الماضي. عاشت مع زوجها جود في حمص، حمص التي دخلت في حرب من النظام ومعه، قتل وتدمير وتهجير وحصار. ولم يمض سنة حتى انجبت نور طفلتها التي اسمتها ديمة، ولم يمض أشهر حتى كانت نور وزوجها جود وابنتها الصغيرة ضحية قصف لطيران النظام حيث هم، استطاعوا الخروج من تحت الأنقاض، لكن ابنتها أصيبت وماتت، هربوا من القصف الى خارج حمص، تاركين طفلتهم على رصيف الوطن. تلقفت طفلا آخر “أحمد” وجدته بين الأنقاض، انقذته واعتبرته ابنها. أما زوجها فقد احتضن اخته التي كانت قد فقدت أطرافها جراء قصف سابق. توجه جود واخته ونور والطفل أحمد إلى أوروبا مثل كثير من السوريين الذين، هربوا من الموت في بلادهم، ركبوا البحر عن طريق المهربين، غرق قاربهم، نجا جود ونور والطفل أحمد وبعض من كان معهم وغرقت أخت جود المعاقة وكثير ممن كان معهم. وصلوا إلى أوروبا، وبدأوا حياتهم من جديد. يعيشون كلاجئين يحصلون على الحماية والرعاية، لكنهم لم يستطيعوا نسيان ما حصل معهم وفي بلادهم وبحق الشعب السوري. لقد كان إحساس الفجيعة والمأساة يسيطر عليهم. في ذات الوقت كان ثائر قد تزوج وأنجب. وعندما استحالت الحياة في سورية، ولم تعد ممكنة، ركب البحر وهاجر إلى أوروبا أيضا. لم يمض وقت طويل حتى حصل متغير في حياة نور، لقد سقطت في منزلها وأصيب رأسها، أغمي عليها وعندما عادت إلى الوعي، عادت لها ذاكرتها. تذكرت كل شيء حصل معها، سفرها الى حلب، وقصف الطائرة لهم، تذكرت اسمها شام وماضيها وحبيها ثائر. الذي عاد حبه حيا داخل نفسها بكل قوته وعنفوانه، أدركت أن زواجها من جود وحياتها معه لا رجعة فيه، وأنها لن تخبره عن أي شيء من ماضيها. تابعت معرفة حال ثائر عبر وسائل التواصل الإجتماعي، وعرفت أنه تزوج، وأنها ماتت بالنسبة له، كما أشيع وقتها. لم تنسه، ولم يضعف حبها له، لكنها محكومة بواقعها الجديد، ولاءها المطلق لزوجها جود وابنها بالتبني أحمد، وأنها لن تنجب مرة أخرى، فقد استأصلت رحمها المصاب بالتليف. أما ثائر فقد بنى حياته على أساس غيابها. قررت أن تستمر فاقدة للذاكرة بالنسبة لزوجها. لا تريد أن تعكر صفو حياته معها بأي شيء. هذا الأصيل لا يستحق غير ذلك. كما جمعتها بثائر صدفة في بلاد اللجوء، لم تغير من واقعها شيئا. لقد أصبح ما عاشوه من الماضي. عانقت حبها في شغاف قلبها ونامت على كتمانه.
نحن أمام رواية تدفق مشاعر جياشة بامتياز، موغلة في البوح، تعيش زمنها الذاتي بكلية بطلتها، بحيث يصبح الزمن الحياتي العام، تفصيلا فرعيا في الرواية، رغم كون ما حصل في سورية من الربيع السوري والثورة، والمأساة بعد ذلك، ليس مما يمكن الصمت عليه. لن نظلم الرواية فهي ايضا سلطت الضوء على الحدث السوري، لكن الحديث عن التغطية والمتابعة، تمضي الرواية بثلثها الأول تقريبا، في بوح حب يكاد يكون خارج الزمان والمكان والخبرات الإنسانية. تحدثت عن المظلومية الشعبية، مطالب الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل، توقفت عند تحول مطالب الناس لمبرر للنظام ليقتل الشعب، وليدعو حلفائه ليكونوا معه أدوات قتل وتشريد الشعب وتدمير البلاد. تحدثت عن مآلات السوريين في تشردهم، الموت تحت القصف، أو غرقا في البحر. توقفت عند الموقف الدولي الصامت عن المأساة السورية. مئات آلاف الشهداء ومثلهم مصابين ومعاقين، ملايين المشردين وسورية المحتلة والمدمرة والمنكوبة. توقفت كثيرا أمام المأساة السورية التي أصابت كل الشعب بالضرر العميم. لا تبحث عن المسؤول عن ما حصل تتوقف عند النتائج وكارثيّتها.