ثمة قول شهير للجنرال الألماني كارل فون كلاوزفيتز : ” الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى ” , فوجود غاية سياسية محددة للحرب هو العامل الذي ينقلها من مجرد كونها حريقا يلتهم الأخضر واليابس ويترك ورائه الخراب والموت إلى عمل واع مهما كان هذا العمل ملطخا بالدم ودافعا لظهور أسوأ الغرائز الانسانية وأكثرها وحشية وانفلاتا .
بطريقة غير مباشرة يشترط كلاوزفيتز على الأعمال الحربية التي تقوم بها بشرية متعقلة وضوح الهدف السياسي ووضع الحرب في خدمة الوصول إليه بأقل قدر من الخسائر والتضحيات .
مايحدث أحيانا أن الحرب حتى مع الانتصار العسكري لاتفلح في الوصول للهدف السياسي , ولا يعني ذلك أن كلاوزفتز على خطأ , لكنه يعني أن كلاوزفييتز يحصر تفكيره بقوانين الحرب عندما تتطابق مع غائية واعية , فإذا لم يفلح الانتصار العسكري بالوصول للهدف السياسي فذلك بسبب الخطأ في تحديد الهدف السياسي المتاح ضمن مجمل الظروف المحيطة بالحرب .
ثمة حروب عديدة جرت في القرن الماضي ومطلع هذا القرن شهدت هزيمة سياسية للطرف المنتصر عسكريا .
في 17 آب ( أغسطس ) من عام 1973 انسحبت الولايات المتحدة من فييتنام رغم أن قواتها المسلحة المشاركة بالقتال ضد الفييتكونغ لم تكن منهزمة عسكريا , وكان ذلك بسبب الاستنزاف الذي أتعب الولايات المتحدة وتصاعد الحملات السياسية العالمية ضد الحرب وهكذا خسرت الولايات المتحدة سياسيا في نهاية الصراع .
وانسحب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان عام 1989 بعد عشرة أعوام من التدخل العسكري بسبب الاستنزاف وليس بسبب الهزيمة العسكرية .
وفي العراق وأفغانستان تكرر مشهد مشابه لانسحاب الولايات المتحدة من الصراع بالرغم من التفوق العسكري دون تحقيق الهدف السياسي المعلن .
وبسبب سوء التقدير تورطت روسيا في الحرب في أوكرانيا , وفي حين خابت محاولة الانتصار العسكري السريع لم يبق أمام روسيا سوى مواصلة الحرب , اذ لايمكن وقف الحرب وإعلان الإنتصار طالما بقي الجيش الأوكراني المدعوم من الغرب بطريقة لم يسبق لها مثيل يقاتل على الجبهات ويعمل لاستراداد كل ما كسبه الروس في المنطقة الشرقية والجنوبية .
في هكذا حرب لايعود حاسما وجود تفوق جوي روسي , ولا أسلحة صاروخية متطورة , فبالرغم من حجم الدمار والخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تلحق بالأوكرانيين فهي لن تفلح في إرغامهم على الاستسلام , وعلى العكس فالجيش الأوكراني يزداد قوة وخبرة مع الزمن وهو يقاتل دفاعا عن أرضه وشعبه وليس لديه خيار آخر , أما الطرف الروسي فهو الذي قام بالغزو دون مبرر , وعزيمته تضعف مع الزمن ومع ازدياد الخسائر .
يبدو الأفق معتما أمام مخرج مشرف للحملة العسكرية الروسية , ويبدو بوتين في حالة أضعف من حالته حبن بدأ الحرب .
يمكن القول إن الهدف السياسي للحرب لم يكن واقعيا , وما نشهده هو افتراق الحرب عن هدفها السياسي , وحين يضيع الهدف السياسي للطرف المبادر للحرب بينما يجد نفسه مضطرا للاستمرار في القتال فهو يقاتل موضوعيا قتال تراجع ريثما يستنفد طاقته التي تتبدد كل يوم .
لم يعد مهما أن يكسب بعض الأرض هنا أو هناك , ولا أن يرفع أعلامه فوق البلدات التي احتلها , ويطمئن نفسه وشعبه أن روسيا قد كسبت أراض جديدة كثمرة للحرب – وكأن روسيا بمساحة 17 مليون كيلومتر مربع بأمس الحاجة للتوسع وضم أراضي الغير!- فكل ذلك سيذهب مع الريح , حين يجد نفسه في النهاية غير قادر على الإستمرار في الحرب .لكن ما سيتركه غير الدمار والموت هو إرث ثقيل من مشاعر المرارة والألم وجرح ليس من السهل أن يلتئم بين شعبين شقيقين .
المصدر: كلنا شركاء