عاد الهدوء أخيراً إلى مدينة الباب شرقي حلب، بشمال سورية، بعد أيام من الاحتجاجات الشعبية التي نظمها شبان من المدينة، إثر إفراج السلطات المحلية التابعة للمعارضة السورية عن متهم بارتكاب جرائم قتل واغتصاب بحق مدنيين أثناء خدمته في قوات النظام، قبل وصوله إلى مناطق سيطرة المعارضة.
هذا الهدوء تصاحبه نشوة الانتصار من قبل أهالي المدينة ومن تعاطف معهم، إذ أرغمت الاحتجاجات السلطات المحلية، ولا سيما وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، على إقالة رئيس فرع الشرطة العسكرية في الباب، العقيد عبد اللطيف الأحمد، وإحالة آخرين للقضاء، ما دفع المحتجين لتعليق احتجاجهم مع المطالبة باستكمال التحقيقات والمحاسبة.
خلفية اندلاع الاحتجاجات في مدينة الباب السورية
وجاءت الاحتجاجات التي استمرت نحو 6 أيام، وعُلقت الأحد الماضي، على خلفية إطلاق فرع الشرطة العسكرية التابع للمعارضة في الباب سراح محمد حسان المصطفى، وهو عنصر سابق في قوات النظام السوري، متورّط في جرائم تصفية واعتقال واغتصاب بحق سوريين، بحسب اعترافات له.
غير أن قرار المحتجين بتعليق احتجاجاتهم وليس إيقافها نهائياً، سيشكل أمام السلطات المحلية محطة لمراجعة أي قرار سيُتخذ في هذه القضية أو غيرها، خوفاً من تجدد الاحتجاجات، وهذا ما بات يعبر عنه الشارع في مدينة الباب الذي رصد “العربي الجديد” افتخار أهله بالنتائج التي وصلوا إليها.
سعي لاستئصال الفساد في مناطق المعارضة السورية
في أحد مقاهي المدينة، يجلس سعيد وسامر ومنير، وقد تحدثت إليهم “العربي الجديد” بعد أن ارتفعت أصواتهم خلال حديثهم عما جرى في الباب. يقول سعيد وهو من الذين نزحوا من ريف حماة الشمالي، بعد أن دخلت قوات النظام إلى بلدته أواخر عام 2019، إن “ما قبل الاحتجاجات الأخيرة ليس كما بعدها”.
ويضيف أن “الفساد هنا وصل إلى حد لا يمكن تخيّله، والسكوت يعني استمراره، وما حدث نقطة بداية للتصحيح، ويجب أن يبقى الحراك قائماً حتى استئصال كل مكامن الفساد أياً كان مصدرها”.
أما سامر، وهو شاب ينحدر من محيط سراقب في الريف الأوسط من إدلب، وقد سيطرت قوات النظام على بلدته كذلك، فيقول في حديث مع “العربي الجديد”، إن لديه شقيقاً معتقلاً منذ عشرة أعوام في سجون النظام لا يعرف أي معلومة عنه، وشقيقة أخرى فقدت حياتها بقصف استهدف منزلهم قبل نزوحهم، فيما يعاني والده من إعاقة دائمة بعد بتر ساقه جراء إصابته بالقصف ذاته الذي أودى بحياة شقيقته.
ويضيف أن “عدم محاسبة كل منتهك أو مرتبط بالانتهاكات التي ارتكبها النظام وعناصره هو إهدار لدماء من فقدوا حياتهم، بالإضافة لهدر حقوق المغيبين والمعتقلين الكثر في سجون النظام، وأيضاً من تسبب لهم قصف الأخير بإصابات وإعاقات جسدية ومشاكل نفسية سترافقهم مدى الحياة”. وعليه، فإن سامر سيشارك بأي حراك أو أي موقف يدعو لمحسبة أي متورط، بحسب ما يؤكد.
من جهته، يقول منير، وهو من أهالي مدينة الباب، لـ”العربي الجديد”، إن “فساد البعض في الأجهزة الأمنية وفصائل الجيش الوطني الحليف لتركيا، يهدد حياة المدنيين، لا سيما في ظل تورط البعض من عناصر وحتى قادة الفصائل في التستر على مجرمين والمشاركة في عمليات التهريب وترويج المخدرات، هذا فضلاً عن الاقتتال المتكرر بين الفصائل الذي دائماً ما يذهب المدنيين الأبرياء ضحاياه”.
ويحمّل منير مسؤولية كل ذلك “للحكومة المؤقتة والقوات التركية، إذ تقع المنطقة تحت النفوذ التركي بشكل مباشر”، منوهاً إلى أن “عدم المحاسبة من قبل الجهات التركية اتجاه الانتهاكات المرتكبة، شجّع على تفاقمها”.
من جهته، يقول الناشط معتز ناصر، أحد القائمين على الحراك في الباب، لـ”العربي الجديد”، إن “المتظاهرين أوقفوا احتجاجاتهم بشكل مؤقت، بعد استجابة وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة إلى جزء من مطالبهم المتعلقة بمحاسبة المسؤولين عن قضية إطلاق العنصر السابق من قوات النظام والمتهم بارتكاب جرائم”.
وكان عشرات المتظاهرين قد طوقوا مبنى الشرطة العسكرية في الباب وأغلقوا الطرقات المؤدية إلى المدينة بالإطارات المشتعلة، رداً على مماطلة الشرطة العسكرية ووزارة الدفاع التابعتين للمعارضة، في الاستجابة لمطلب المحتجين بمحاسبة المتورطين في قضية الإفراج عن محمد حسان المصطفى.
وارتفعت حدة الاحتجاجات مساء الأحد الماضي، قبل أن تُعلّق بعد استجابة وزارة الدفاع لمطلب إقالة رئيس فرع الشرطة العسكرية في المدينة، العقيد عبد اللطيف الأحمد.
وكان المحتجون أعطوا جهاز الشرطة العسكرية ووزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة، مهلة 72 ساعة لمحاسبة المتورطين بالإفراج عن المتهم المصطفى. غير أن محاولة وزير الدفاع العقيد الطيار حسن حمادة نفسه تطويق القضية زاد من تأجيجها، إذ رفض في البداية إقالة رئيس فرع الشرطة العسكرية في الباب، وقال أمام المحتجين: “مو كل اثنين ثلاثة اجتمعوا بدي ألبي مطالبهم”.
وأعطى حمادة الأولوية لمحاسبة من سرّب المعلومات من داخل الشرطة العسكرية حول قضية إطلاق سراح المصطفى، على المطالبة بمحاسبة المتجاوزين في قضية إطلاق سراحه، الأمر الذي أجج الوضع، قبل أن يتم الرضوخ لمطالب المتظاهرين.
وأكد المحتجّون في بيان مساء الأحد الماضي حول تعليق الاحتجاجات “ضرورة متابعة التحقيقات ومحاسبة جميع المتورّطين في قضية إطلاق عنصر سابق في قوات النظام”.
وبعد قرار وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة بإقالة رئيس فرع الشرطة العسكرية في الباب أصدرت “هيئة ثائرون للتحرير”، أحد تشكيلات “الجيش الوطني”، أمراً إدارياً بإحالة محمد يحيى خضير الملقّب بـ”حميدو” إلى القضاء العسكري، وهو قيادي في “فرقة السلطان مراد” ومتورّط مباشر بقضية إطلاق سراح المصطفى.
وكان المصطفى اعترف، بحسب محضر شرطة مسرّب، بارتكابه جرائم قتل وتصفية بحق سوريين معارضين في مناطق سورية عديدة، وذلك خلال خدمته ضمن قوات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام السوري بشار الأسد.
ولم يجب العميد أحمد الكردي، مدير إدارة الشرطة العسكرية لمنطقة “درع الفرات” التي تضم كلاً من الباب وجرابلس ومحيطهما، والرائد يوسف حمود المتحدث باسم “الجيش الوطني” (أكبر تشكيلات المعارضة السورية الحليفة لتركيا شمال سورية) على أسئلة “العربي الجديد”، حول أحداث مدينة الباب وخلفياتها. وكذلك كان الحال بالنسبة لوزير الدفاع العقيد حسن حمادة، بعد التواصل معه لهذا الغرض.
تحميل القيادة السياسية للمعارضة السورية المسؤولية بقضية الباب
غير أن مصدراً عسكرياً من الجيش الوطني، فضل عدم الكشف عن اسمه ورتبته، وصف في حديث لـ”العربي الجديد”، ما حدث في مدينة الباب بـ”استثمار الأزمات والمواقف”، مضيفاً: “قضية الباب مثلها مثل العديد من القضايا، فهناك من يأخذ موقفاً محقاً من قضية ما، ثم يأتي من يؤدلج الموضوع ويستثمره”.
وحمّل المصدر القيادة السياسية في المعارضة مسؤولية ما حدث لعدم تدخلها في القضية منذ بدايتها. ويقول “كان الأولى بالقيادة السياسية أن تعقد اجتماعاً مع المعنيين في القيادة العسكرية والشرطة، وتصدر تصريحات توضيحية للشارع حيال القضية فوراً، وألا تضع وزير الدفاع بموقف لا يحسد عليه ويتم تحميله كامل المسؤولية، إما عن قصد أو غير قصد، أو لغايات محددة”.
وكان رئيس “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، سالم المسلط، قد أعلن دعمه للحراك الشعبي في مدن ريف حلب الشمالي وخصوصاً مدينة الباب، مؤكداً في تغريدة له عبر تويتر “دعم كافة أشكال الحراك الشعبي السلمي والحضاري”، وواصفاً ذلك بأنه “من أهم مكتسبات ثورتنا العظيمة”.
وقال المسلط “نحرص على متابعة مطالب المحتجين ومحاسبة المخطئين ضمن آلية منظمة، تضمن تحقيق العدالة، وعدم إفلات أي مجرم من العقاب أو أي مقصر من المساءلة”.
من جهته، رد عضو الهيئة السياسية في الائتلاف السوري، عبد المجيد بركات، على تحميل مسؤولية ما حدث للقيادة السياسية في المعارضة من قبل المصدر الذي تحدث لـ”العربي الجديد”، بالقول إنهم ينظرون إلى أي حراك مدني وشعبي في مناطق المعارضة على أنه “حراك ثوري، يحمي مؤسسات الثورة من أي انحراف أو تجاوزات”.
وأضاف لـ”العربي الجديد” أن “الائتلاف أكد منذ الساعات الأولى للحراك على دعمه، وعلى أن تقوم مؤسسات المعارضة وعلى رأسها الحكومة المؤقتة بواجباتها وتلبية مطالب المحتجين في الباب وغيرها، واستكمال التحقيقات المتعلقة بالقضية”، نافياً أن يكون هناك أي تقصير من قبل القيادة السياسية للمعارضة بهذا الشأن.
وسلطت أحداث الباب الضوء مجدداً على الفساد المستشري في المؤسسة العسكرية والأمنية للمعارضة السورية شمال سورية، وتحديداً في مناطق النفوذ التركي التي ينتشر فيها الجيش الوطني الحليف لأنقرة. وأثبتت الاحتجاجات أن الشارع لا يزال متماسكاً ضد أي تجاوز قد يهدد مبادئ الحراك الأساس للثورة السورية، على الرغم من التشديدات الأمنية.
فعلى الرغم من تبعية الجيش الوطني بفصائله وفيالقه ووحداته عملياً لوزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة المعارضة، ومعه كذلك الأجهزة الأمنية كالشرطة العسكرية، في حين يتبع الأمن الوطني وزارة الداخلية، إلا أن نفوذ قادة الفصائل لا يزال بارزاً وقوياً في الشمال السوري، ويتجلى في الكثير من التصرفات والقرارات التي تصنف بمعظمها على أنها تجاوزات تخرج عن إطار المأسسة التي يحاول ترسيخها بعض الضباط في الجيش الوطني ووزارتي الدفاع والداخلية.
ويصطدم هؤلاء الضباط بنفوذ بعض قادة الفصائل، الذين حظوا بمناصبهم من خلال فصائل شكلوها مع انتقال الثورة في سورية من السلمية إلى المسلحة، وما زال هؤلاء متمسكين بهذه المناصب إلى اليوم.
المصدر: العربي الجديد