عندما تسقط الأقنعة ماذا نتوقع أنْ نشاهد؟ هل نرى الوجوهَ الحقيقية أم نرى أقنعة أخرى؟ أم لا ندرك ما نرى؟! ربَّما لا تكمن المشكلةُ هنا، ولكنَّها تكمن في أنَّنا لا نُصدَمُ بما نشاهد عندما تسقطُ هذه الأقنعة!! ولا تنكشف لنا الحقائقُ، وكأنَّنا نعيش في عالم خياليٍّ مُؤطَّرٍ فقط بنوافذنا الضيقةِ كما هي مشاهد “التيك توك “، تلك النوافذ التي تعكس رغبتنا فقط!
يقول شيشرون Cicero: ستةُ أخطاء ما فتئت البشرية ترتكبها قرنًا بعد قرن:
- “الاعتقادُ بأنَّ المكاسب الشخصيَّة تتحقق بسحق الآخرين!
- القلقُ بشأن الأشياء التي لا يمكن تغييرها أو تصحيحها.
- الإصرارُ على أنَّ الشيءَ مستحيلٌ؛ لأننا لا نستطيع تحقيقه.
- رفضُ تنحية التفضيلات التافهة.
- إهمالُ تنمية العقل وصقله.
- محاولةُ إجبار الآخرين على الإيمان، والعيش كما نفعل نحن “.
بالنسبة لشيشرون “قانون الله هو المنطق السليم، عندما تفهمُه تمامًا يُسمَّى “الحكمة”، وعندما تطبقه الحكومات في تنظيم العلاقات الإنسانية يطلق عليه اسم “العدالة”.
سمع كثيٌر منَّا عن أفلاطون وأرسطو، ولكنَّ قلَّةً منا سمع عن شيشرون (باللاتينية: Marcus Tullius Cicero). شيشرون من الرجال النادرين في التاريخ: فهو رجلٌ ذو ميول فلسفية، ويملك في الوقت ذاتِه سلطةً سياسيةً. ولد cicero في أربينوم Arpinum (التي تقع اليوم في إيطاليا) عام 106 قبل الميلاد، وقطع رأسه بأمر من مارك أنتوني في عام 43 قبل الميلاد عن عمر يناهز الثالثة والستين. بدأت مسيرته السياسية في بدايات تعثر الجمهورية الرومانية. لقد كان يصف نفسه بأنَّه دستوري، ولكنَّه كان أيضًا معتدلًا مخلصًا يتمنَّى السلام والوئام قبل كل شيء. لا تزال آراءُ شيشرون عن القانون الطبيعي مؤثرةً حتى يومنا هذا. وعلى عكس العديد من معاصريه، لم يؤسسْ شيشرون فكرَه وتاريخَه عن طريق القوة والحروب، ولكن بدلًا من ذلك أسَّسها من خلال الخطابة والحكمة في المحاكم القانونية في عصره. عارض شيشرون استبداد القيصر، وبالتالي عارض استبداد مارك أنتوني. وفي النهاية، اغتيل شيشرون بعد إدانته الشديدة لاستبداد مارك أنتوني في سلسلة من الخطب التي عنوانها “فيليبس” Philippics وتعني باللاتينية الهجوم أو الاستنكار المرير، وخاصَّةً اللفظيَّ منه.
تقدِّم لنا دراسة Cicero رؤىً أساسيةً حول تطور النظرياتِ الغربية الحديثة للقانون الطبيعي وهيكلة المجتمعات السياسية حول تلك المبادئ. وبالنظر إلى التأثير الهائلِ لشيشرون، فإنَّه من العار أنَّ الثناءَ الذي منح له قد تضاءل بشكل كبير في المئة سنة الماضية. لقد أثبت عمل شيشرون أنَّه مفيدٌ وملائمٌ باستمرار، لا سيَّما بالنظر إلى تداعياته واسعةِ النطاقِ على التاريخ الفكري والسياسي الغربي.
كان لآراء شيشرون تأثيرٌ هائلٌ على تطور الفكر الغربي، ولذلك؛ فإنَّه لمن المآسي أنَّ يتمَّ تجاهلُه بشكل متزايد في الآونة الأخيرة أو أنَّ يتمَّ تغييُبه تمامًا في تراثنا الفكري العربي والإسلامي. إنَّ تهميشَ شيشرون هو في جزء منه نتيجةٌ للاتهامات بأنَّ عمله يتكوَّن فقط من آراء الفلاسفة اليونانيين المعادِ صياغتها. قد تُعَدَّ أصالة أعمال شيشرون موضوعًا صعبًا للمناقشة حيث إنَّ العديد من المصادر ضاعت بسبب ويلات الزمن. ومع ذلك، فمنَ المؤكَّد أنَّ كتاباتِه هي أولُ الأعمالِ الباقية للفلسفة السياسية التي تناقش على نطاق واسع المفهوم الأساسي للقانون الطبيعي والطريقة التي يمكن بها تنظيم المجتمع على أساس مبادئه.
كان المعجبون بشيشرون على مرِّ التاريخِ من القلائل؛ ربَّما لأنَّ أفكاره كانت خارج الصندوق. يروي كاتب السيرة الذاتية الروماني بلوتارخ Plutarch قصة عن الإمبراطور أوغسطس Augustus وهو يسير في منزله: “بينما كان أوغسطس يتجوَّلُ في قصره، وهو بالطبع عدوٌّ لشيشرون، وجد حفيده يحاول إخفاء حقيقةِ أنَّه كان يقرأ كتب شيشرون. وعندما رأى أغسطس الكتاب، أخذه ثم أعاده، ليُخبرَ حفيده أنَّ مؤلفَه كان “رجلاً مثقفًا، ومُحبًّا لبلده”.
خلال فترة العصور الوسطى، كان الكتيبُ الأخلاقيُّ المسمَّى” المكاتب” (De Officiis) بجانب الكتاب المقدَّس أحدِ أكثرِ النصوصِ قراءةً على نطاق واسع في أوروبا. أمَّا في عصر النهضة، فقد تمَّ الإشادةُ بشيشرون على نطاقٍ واسعٍ بين الجمهوريات الإيطالية؛ لمهاراته كخطيب وسلوكه العادلِ كرجل دولة. وقد أشاد به الشاعر بترارك Francesco Petrarca، وعدَّه “العبقريَّ العظيم” في العصور القديمة.
في أوائل سنوات إنجلترا الحديثة، استخدم جون لوك John Locke عبارة شيشرون “Salus populi suprema lex”، بما معناه “دعْ رفاهيةَ الناسِ تكونُ هي القانونَ المطلقَ”، كنقوش على أشهر أعماله، في أطروحته الثانية حول الحكومة. حتى إنَّ لوك Locke ذهب بعيدًا ليقول: إنَّ “Salus populi suprema lex” بالتأكيد هي قاعدةٌ عادلةٌ وأساسيةٌ في بناء الدول؛ بحيثُ إنَّ، الذي يتبعُها بصدق، لا يمكن أنْ يخطئَ أو يضلَّ بشكل خطير. “
خلال الثورة الأمريكية، كتب الأب المؤسس جون آدامز John Adams في إشارة إلى شيشرون أنَّ “كلَّ العصور في العالم لم تُنتجْ رجلَ دولةٍ وفيلسوفًا متَّحدين في الشخصية نفسِها أعظم من شيشرون، ويجبُ أنْ يكونَ لفكره وزنٌ كبيرٌ”. وعندما كان الأب المؤسس الزميل لجون آدامز توماس جيفرسون Thomas Jefferson يصوغ إعلان الاستقلال الأمريكي، استشهد بما أسماه “الكتب الأساسية للحق العام”. من بين هذه الكتب كانت أعمال شيشرون. لقد أشار جيفرسون إلى شيشرون على أنَّه “وطنيٌّ سامٍ” “exalted patriot” ووصفه كذلك ب “أبو البلاغة والفلسفة”.
يمكن القول: إنَّ تأثير شيشرون ينافس تأثير الثقل الفلسفي لأرسطو وأفلاطون. وبالنسبة لأيِّ شخصٍ مهتمٍّ بمسار تطور الحريات من التقاليد السياسية القائمة على الحقوق الطبيعية، فإن شيشرون هو بلا شك مصدرٌ لا يُقدَّرُ بثمن.
القانون الطبيعي لشيشرون:
القانون الحقيقي عند شيشرون هو القانون الإلهي؛ لأنَّه مطابقٌ للطبيعة (الفطرة البشرية)، إنَّه قانونٌ واحدٌ أبديٌّ، وهو ذاته في أثينا وفي روما، اليوم وغدًا، إنَّ القانون الأسمى هو ذلك المنقوش في طبيعتنا، هذا القانون الطبيعي هو الذي يربط الإنسان بالخالق، والبشر فيما بينهم، فلا القوانينُ المكتوبةُ ولا الدساتيرُ، تجعلُ البشر ينتمون للمدينة ذاتها، وهذه المدينةُ ما هي إلا الكونُ الذي يديره الله جلَّ في علاه. يبرز هذا التعارضُ بين القانونِ الطبيعيِّ الأبديِّ الثابت، المندمجِ مع العقلِ والفطرة السليمة وإرادة اللهِ وبين القانون المتغيِّر، الأدنى مرتبة، الذي يُطلق عليه الإنسانُ العاديُّ اسم القانون. فجميع الناس متساوون حسب قوانين الطبيعة، جميعُهم يمتلكون القدرة العقلية التي يمكن تغذيتها، وهذا ما يسمح للجميع بالتوصل إلى الأفضلية والمعرفة، والعدلُ أيضًا هو شعورٌ زرعته الفطرةُ السليمة في كلِّ إنسان، وهذا يعني أنَّ الإنسانَ إذا لم يبتعدْ عن طبيعته، فإنَّ العدلَ والمساواة سوف يسودان في الكون أجمع دون حاجة لسلطة أو عنف، لكنَّ الفسادَ الذي يتألفُ من العادات السيئة سوف يطغى للأسف على تلك الشعلة الجميلة التي استودعها الخالق فينا. انتقد معارضو شيشرون مبدأه، فحسب رأيِهم إذا كانت الطبيعة جيدةً ومساويةً وإنسانيَّةً أساسًا، فمن أين أتى ذلك الفسادُ وتلك العاداتُ الفاسدة؟ بحسب معارضي شيشرون عندما تكون الطبيعةُ قابلةً للفساد، فإنَّ الفسادَ يصبح جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة البشريةِ، وتفقِدُ هذه الأخيرة سيادتَها، والجوابُ لهؤلاء قوله تعالى “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ “(الروم -41). أمَّا الموضوعُ الآخرُ الذي طوَّره شيشرون فهو موضوعُ الشيءِ العام، فالشيءُ العامُّ هو شيء الشعب وملكٌ له، وبالشعب يجب أنْ نعنيَ فئةً كثيرةَ العددِ من أناس يشتركون بانتمائهم للقانون نفسه، وتشاركهم في وحدة المصالح. يشدد شيشرون على المصدر القانوني لتنظيم العلاقات في المجتمع السياسي، ويمكن القول: إنَّه جمع إلى الشكل القانوني العميق للفكر الروماني أفكارًا فلسفيةً ذات مصدر يوناني، مع فكر شيشرون حلَّ الشعبُ المتلاحمُ محلَّ الناسِ المتَّحدين سياسيًا فقط –عند اليونان – وهذا الشعبُ يتمُّ تلاحمُه عبر صلة حقوقيَّة (عقد اجتماعي) فهي التي تجعل منه جسمًا واحدًا له سلطةٌ قانونيةٌ سيدةٌ، أمَّا عند اليونان، فقد كان اتحاد الناس ذا طابعٍ سياسيٍ فقط، ويحمل أهدافًا مشتركةً ومثلًا عليا مشتركة، وعند شيشرون سيادةُ الشعبِ هذه نجدُها في جميع أشكال الحكم، وهي التي يجب أنْ تسودَ في الملكية الأرستقراطية والديمقراطية. هكذا فقط انتقلتِ السيادةُ عند شيشرون إلى فكرة الحقِّ وأصبح ينظر إلى الحاكم انطلاقًا من هذه الرؤية حصريًّا، يجب أنْ يفهمَ الحاكم، وأيَّا كان النظام السياسي، فإنَّه ممثلٌ للشعب أو للدولة أو المدينة، ولن يكونَ حكمُه شرعيًّا إلا إذا احترم جميع الالتزامات التي ألقيت على عاتقه، لكن احترام القوانين من قبل الحاكم لا يكفي بحد ذاته بل يتعيَّن أْن يضعَ الحاكمٌ القوانين موضع التطبيق؛ لأنَّه هو الحاكم الناطق، أمَّا القانون وحدَه فهو حاكمٌ أبكمً. في هذه الأفكار توجد غالبية أسس المفهوم القانوني لسيادة الدولة المعاصرة.
عالميَّةُ الإنسانيَّة
يعتقد شيشرون أنَّ الهدفَ النهائيَّ للبشرية هو العدالة. ويرى شيشرون أنَّ كلَّ شخصٍ يمتلك ملكاتٍ عقليةً عضوًا في الكومنولث العالمي للبشرية. بحسب شيشرون وهب اللهُ كلَّ إنسانٍ شخصيتين: “الشخصيَّةَ الثانية” فرديَّة لكل شخص، وهي تتألفُ من مواهبنا وأذواقنا الشخصية وواجباتِنا الموكلة إلينا بناءً على قدراتنا الفردية، بينما تتضمن “الشخصية الأولى”، المشتركةُ بين جميع البشر، قدرتَنا على الكلام والعقل. اعتقد شيشرون أنَّ العقلَ هو أسمى خير، ويتمُّ التأكيد على أهمِّيَّته عند شيشرون؛ لأنَّه موجودٌ في كل من البشرية والله؛ لذلك “هناك شراكةٌ أساسيةٌ في العقل بين الإنسانِ واللهِ” وهي التي تجعل البشريَّة مُميَّزًة، وتميِّز الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى. لا تقتصر هذه الشراكةُ على طائفة معينة من الإنسانيَّة، بل تشمل كلَّ من يشبهون تعريف شيشرون للإنسان: وهو أنَّه الكائن الذي وُهِبَ الروحَ بالكلام والعقل كما في قوله تعالى: “الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (القلم-4:5). هذا دليلٌ كافٍ على أنَّه لا يوجد فرقٌ جوهريٌّ داخل البشرية. أكَّد شيشرون أيضًا على عالميَّة الإنسانيَّة، مشيرًا إلى أنَّ جميعَ الأجناس يمكن أنْ تحصل على الفضيلة باستخدام القانون الطبيعي كدليل لهم. إحدى النتائجِ المهمةِ لهذه الشراكةِ بين الله والبشر هي أنَّ كلَّ شخصٍ مملوء بدفعة من الألوهية، كما في قوله تعالى: “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ” (الحجر 29)، ممَّا يعني أنَّ الإنسانَ يستحق الكرامة، ويجب أن يحظى باحترامنا حتى يثبت العكس.
كما ذكرنا من قبل، فإنَّ القانونَ الإلهيَّ يغرس كلَّ شيءٍ في الكون بهدف نهائي، أو غرض للوجود؛ لهذا يعتقد شيشرون أنَّ الهدفَ النهائيَّ للبشرية هو العدالة، وشدَّد على هذه النقطة، فصرَّح أنَّه “بالتأكيد لا يوجدُ شيءٌ أكثرُ أهميةً من الإدراك الواضح أنَّنا وُلدنا من أجل العدالة”. بالنسبة إلى شيشرون، لم تكنِ العدالةُ مجردَ أداةٍ مفيدةٍ لخلق التناغم بين الرجال، بل كانت أيضًا فضيلةً في حد ذاتها. كلُّ ما هو جيدٌ، حسب شيشرون، يحتوي بالضرورة على درجة من العدالة؛ “لأنَّه لا يوجد شيءٌ يمكن أنْ يكونَ مشرفًا، إذا غابت العدالة”، فالعدلُ يرفع كلَّ شيءٍ إلى مكان أكثر احترامًا؛ لأنَّ “العدلَ هو تتويجُ كلِّ الفضائل”، وقمة العدالة عندنا كمؤمنين هي العبودية للخالق وليس للغرائز التي تنطلق من دماغنا الحوفي (الوعي الأحادي) أو العبودية للمصالح التي تكون وراء الوعي الثنائي ودوافعها الاسترزاق والتكاثر والهيمنة كما في قوله تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (الذاريات 56-57)
بالنسبة إلى لشيشرون، لم يكنِ القانونُ الطبيعيُّ مجردَ نظريةٍ للسلوك الأخلاقي الفردي، بدلًا من ذلك، قدم قانونه الطبيعي مخططًا للمجتمع. لقد لعب القانون الطبيعي دورًا حاسمًا في تشكيل فلسفة شيشرون السياسية، وعلى الأخص في مجالين رئيسين، هما؛ تعريف شيشرون المعياري للقانون، ودفاعُه عن الملكية الخاصة.
القانون
أصرَّ شيشرون على أنَّ القانونَ المدنيَّ يجب أنْ يشكل نفسَه وفقًا للقانون الطبيعي للمنهج الإلهي. بالنسبة له، لم تكنِ العدالةُ مسألةَ رأي، بل حقيقة. ورأى أنَّ القانون “ينتشر في المجتمع البشري بأسره، وهو لا يتغير وأبدي، والقانون الطبيعي يدعو الناس إلى واجبهم باتباع أوامره، ويردعُهم عن الإساءات بتجنُّب نواهيه”. جادل شيشرون أنَّه بحكم التعريف، إذا كان قانون الرجال (القانون المدني) لا يتوافق مع أوامر الطبيعة (القانون الإلهي)، لا يمكن عَدُّ الأول قانونًا حقًّا؛ لأنَّ القانونَ الحقيقيَّ هو “العقلُ الصحيحُ المتوافقُ مع الطبيعة”. بما أنَّنا نستمدُّ العدالة من الطبيعة البشرية وعلاقة الإنسان ببيئته، فلا يمكن عدُّ أيِّ شيءٍ يتعارض مع ذلك عادلًا أو قانونيًّا. خلص شيشرون إلى أنَّ مبادئ العدالة أربعُ طبقات: (1) لا تبدأِ العنفَ دون سبب وجيه؛ (2) يفي المرءُ بوعوده؛ (3) احترام الملكية الخاصة للأشخاص والممتلكات العامة؛ (4) أنْ تكون خيرًا للآخرين في حدود إمكاناتك.
وفقًا لشيشرون، فإنَّ الدولةَ موجودة لدعم القوانين التي تنسجم مع المبادئ العالمية للطبيعة. إذا لم تتمسك الدولة بالعقل الصحيح المتوافق مع الطبيعة، فهي ليست دولةً. القانون والدولة معياريَّان بطبيعتهما وليسا تقليديين. وقال: إنَّه من دون العنصر الأساسي للعدالة المتجسد في القانون، لا يمكنُ تشكيلُ دولةٍ، ملاحظًا أنَّ “العديد من الإجراءات الضارَّة والخبيثة يتمُّ تمريرُها في المجتمعات البشرية – ما هي إلا إجراءاتٌ لا تقترب من اسم القوانين، بل هي عبارة عن بعض القواعدِ التي توافق وتعمل لمصلحة عصابة من المجرمين “. في خطبه التي أدانت مارك أنطوني، اقترح شيشرون أنَّ القوانين التي أصدرها مارك أنطوني ليس لها أيُّ صلاحيَّةٍ؛ لأنَّ فرضها تمَّ باستخدام العنف والقوة (مبدأ التغلُب)، بدلًا من السبب الصحيح؛ لأنَّ قانون شيشرون هو أكثر من مجرد قوة، إنَّه سببٌ صحيحٌ يتفق مع الطبيعة التي صاغها الإله. وبالمثل، فيما يتعلق بموضوع قيصر، اعتقد شيشرون أنَّ عهد الإمبراطور كان دولة في الشكل، ولكن ليس أخلاقي في الجوهر.
الملكية الخاصَّة
كان شيشرون من أوائل المفكرين الذين طرحوا وجهة نظر مفادُها أنَّ الحفاظ على حقوق الملكية كان أحد الأسباب الأساسية التي جعلت الناس يشكلون الدول.
تتميز فلسفة شيشرون بشعور قوي بالفردية، وهذا يتجلّى بشكل أكبر في مقاربته للملكية الخاصة، متفقًا مع مذهب الرواقيين Stoics، اعتقد شيشرون أنَّ اللهَ أعطى العالمَ للإنسان لاستخدامه الخاص: “كلُّ ما يُنتَج على الأرض خُلق لاستخدام البشرية” كما في قوله تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الجاثية-13). لكنَّ هذا لا يعني أنَّنا نتشارك كلَّ شيءٍ في كلِّ شيءٍ؛ لأنَّ شيشرون جادل بأنَّ كلَّ مخلوقٍ لديه ميلٌ للحفاظ على نفسه، لكن الاختلاف بين الإنسان والوحوش يكمن في قدرة الإنسان على التخطيط للمستقبل، وبالتالي، فإنَّ الملكيةَ الخاصةَ مهمةٌ وضروريةٌ؛ لأَّنها تسمح للناس بالعيش في سلام. من المتوقع أنْ يؤطِّرَ كلُّ الأشخاص لأنفسهم وأسرهم ما يحتاجونه للبقاء على قيد الحياة. لقد رأى شيشرون أنَّ أحدَ أسباب اتحاد الناس في الحالة الطبيعة هو الحفاظ على ما كان في حوزتهم بالفعل.
بالنسبة إلى شيشرون، كانت الملكية موجودة دائمًا، حتى في غياب هيئة حكومية، ولم يدَّعِ شيشرون أَّن ملكية الممتلكات هي حقٌّ طبيعيٌّ، بل اعتقد أنَّها نشأت من خلال مزيج من عمليات الاتفاق والقبول، على الرغم من أنَّ الملكية ليست حقًّا طبيعيًا، فهي امتدادٌّ منطقيٌّ لطبيعتنا. واحدة من السمات الرئيسة لنظرية شيشرون “القانونُ الطبيعي” هو مفهوم “لكلٍّ ما له” كما في قوله تعالى: وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (النجم-39). فإذا كانت الدولة أصيلة في سلوكها (أي التمسك بمبادئ القانون الطبيعي)، فإنَّها ستضفي الطابع الرسمي، وتحمي ما امتلكه كلُّ شخصٍ بشكل شرعي كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 188).
ناقش العديدُ من المفكرين اليونانيين القدماءِ سابقًا سبب تجمع الناس في المجتمعات السياسية. كان وصف أرسطو للإنسانيَّة على أنَّها “حيوانٌ سياسيٌّ” شائعًا عبر الفكر القديم، ومع ذلك، كان شيشرون من أوائل المفكرين الذين طرحوا وجهةَ نظرٍ مفادُها أنَّ الحفاظ على حقوق الملكية كان أحدَ الأسباب الأساسية التي جعلت الناس يشكلون الدول. كتب شيشرون عن واجبات الموظفين العموميين أنَّ: “الرجال الذين يديرون الشؤون العامة يجب عليهم أولًا وقبل كلِّ شيءٍ أنْ يروا أنَّ كلَّ شخصٍ يتمسكُ بما هو ملكٌ له، وأنَّ الرجال العاديين لا يحرمون أبدًا من ممتلكاتهم بسبب الشأن العام”.
يمكن للمرء الحصولُ على الممتلكات بشكل عادل من خلال الإجراءات القانونيَّة الواجبة، والإشغالِ الطويل، والشراء، والغزو من خلال الحروب. موقف شيشرون بشأن الملكيَّة الخاصَّة يتوافق مع مبادئ العدالة الخاصة به، حيث يقول: “العدالة، الوظيفة الأولى، فلا ينبغي لأيِّ شخصٍ أنْ يؤذيَ شخصًا آخرَ ما لم يكن قد استفزَّه الظلمُ، كما في قوله تعالى:” لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا”(سورة النساء: 148)، في اليوم التالي، يجب على المرء أنْ يتعاملَ مع السلع العامة على أنَّها السلعُ العامةُ والخاصةُ مثل تلك الخاصة به “. على عكس أفلاطون وأرسطو، لم يؤمن شيشرون بأنَّ أعلى وظيفة للدولة هي تشكيل وقولبة شخصيات الناس، بدلًا من ذلك، أكَّد أنَّ أعلى وظيفة للدولة هي حمايةُ حياة الناس وحرياتهم، كما في قوله تعالى: “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا” (الكهف-29).
بينما أدان شيشرون الجشع والشهوة المفرطة، كان يعتقد عمومًا أنَّه يجب السماح للناس بتجميع الثروة، طالما أنَّهم لا يُؤذون الآخرين في مشاريعهم. نقلًا عن Stoic Chrysippus، أجرى شيشرون مقارنةً بين تراكم الثروة والعرق؛ حيث قال: لا توجد مشكلةٌ في بذل كلِّ جهدك للفوز بالسباق، بشرط ألَّا يقومَ المرءُ برحلة إلى الآخرين على طول الطريق، وهذه الرحلة إلى الآخرين كانت سببًا في كوارث البشرية وظلمها من مزارع قصب السكر في أنغولا وأمريكا الوسطى إلى ثورة الزنج في الدولة العباسية (255 – 270 هـ / 869 – 883م) التي تمركزت حول مدينة البصرة، وامتدَّت لأكثر من 14 عامًا (869 – 883م)، قبل أنْ تنجح الدولة العباسية في هزيمتها، حيث يُعتقَدُ أنَّ الحركة بدأت بزنوج من شرق إفريقيا استعبدوا وجيء بهم إلى تلك المنطقة، حيث قام هؤلاء برحلة إلى الآخرين في إحياء الأرض الموات بشروط مجحفة في تفسير منحرف لهذا المبدأ العظيم في ديننا. إنَّ موضوع “ترك الناس وشأنهم، طالما أنَّهم لا يُؤذون الآخرين” هو فكرة متكررة في فكر شيشرون.
لبناء دولِ العدل علينا أنْ نربط القانونَ الطبيعيَّ الإلهيَّ بالقوانين البشرية ليس من خلال نوافذنا الضيقة التي لا تتعدَّى وعينا الثنائي الذي تحركه غرائزُنا؛ ولكن من خلال تحقيق تجسيد القانون الطبيعي بما يحققُ مهمةَ الاستخلاف التي هي جوهرُ رحلتنا القصيرة على هذا الكوكب. والعقد الاجتماعي بقواعد عادلة بعيدًا عن نظرية أرسطو للإنسانيَّة على أنَّها “حيوانٌ سياسيٌّ” قد يشكل مخرجًا لملءِ الفراغِ عند سقوط الأقنعة، عندها لن نُضطر إلى تأطير العالم من خلال نوافذنا الضيقة، بل من خلال فطرة البشرية السليمة: ” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم-30).
ملاحظةٌ أخيرة، شيشرون ظهر قبل الإسلام والمسيحية، وربْطُه بمفاهيمَ ربَّما لا تطابق أصالةَ أفكارِه بالمطلق هي محاولةٌ في البحث عن الحقيقة والحكمة، وهذا تكريسٌ لمبدأ -أحاول-الدفاع عنه وهو التحرر من الزمان والمكان ومن شخصيات البشر إلى فضاءات فكرِهم. “قانون الله هو المنطق السليم، عندما تفهمه تمامًا يُسمَّى “الحكمة” وعندما تطبقُه الحكوماتُ في تنظيم العلاقات الإنسانيَّة يُطلق عليه اسم “العدالة” Marcus Tullius Cicero (106 BC-43 BC).