أن تجري الانتخابات معجزة، وأن تنخفض نسبة الاقبال مشكلة. وتفسير الحالتين ليس بالامر السهل، وإن كان الانطباع الأول هو أن إحترام الموعد الدستوري والسياسي يعطي الأمل بان الدورة الانتخابية المقبلة في أيار العام 2026 ستوفر المزيد من فرص التغيير ..من دون تدخل إلهي مباشر.
في بلد مدمّر ، مفلس، ومنهوب، هو اليوم أشبه بغابة، كان التوجه الى مراكز الاقتراع بمستوى الايمان بالوطن، والالتزام بالدولة، والتسليم بالوحدة الوطنية، والاهم من ذلك كله، إستبعاد العنف والقوة كوسيلة لتسوية الصراعات السياسية وتهدئة العصبيات الطائفية التي كان استنفارها في الحملة الانتخابية مقبولا الى حد بعيد.
يوم إنتخابي كامل من دون قتيل واحد، في لبنان المدجج بالسلاح الجمعي والفردي، الجاهز للاستخدام في أي مناسبة، بل وحتى من دون مناسبة: خطوة كبرى الى الامام، حسب المعايير اللبنانية، لكنها قد لا تكفي للدلالة على ان اللبنانيين، باتوا شعباً يحتكم الى السياسة بقواعدها وشروطها الالزامية، التي لم تكن ظاهرة في المعركة الانتخابية الاخيرة، حيث كان من الصعب الفصل بين من هم أهل السلطة ومن هم أهل المعارضة، ومن هو البديل الثالث، الذي كان يفترض ان تكون تلك المعركة فرصته التاريخية.
للسلطة، المُعدمة والمفككة حق الشكر على تنظيم الانتخابات، وعلى عدم التأجيل او التمديد الذي كانت بعض قواها تتمناه وتعمل لفرضه. وللمعارضة حق الثناء على أداء سياسي معقول، بالمقارنة مع صراع غلب عليه الطابع الشخصي او العائلي، وبني في معظمه على أسس غير سياسية. ولقوى التغيير حق التقدير لتجربة بدائية مفاجئة، ولاختراقات مهمة على محدوديتها، وأصوات شبابية واعدة، يتوقع أن تكون حاسمة في الدورات الانتخابية المقبلة.
لكن تراجع نسبة الاقبال على الانتخابات يفرغ هذا التقييم من محتواه. لأنه يعني ان عصبية أهل السلطة تضمحل، وانتفاضة أهل المعارضة لم تكتمل، وبريق أهل التغيير كان خافتاً. وبالمقارنة مع أحوال البلد المزرية، يمكن القول ان تراجع الاقبال هو فضيحة، تتحدى فكرة الانتخابات نفسها، كأساس للتناوب على السلطة والتبادل بين الأفكار والبرامج ، وربما أيضا تفسح في مكان ما المجال للبحث عن بدائل غير سياسية. وهنا يمكن الرهان على قوى التغيير التي قدمت، على عجل مجموعة كبيرة من الاسماء التي تليق بان تحفظ للبلد جدول أعماله السياسي، إذا ما تعلمت الدرس ومضت قدما نحو الانتظام في جبهة وطنية واحدة، مثل الجبهات التي تمثلها قوى السلطة والمعارضة التقليدية.
هذا هو الامل الوحيد لتقصير المسافة الزمنية الفاصلة عن موعد التغيير المرتجى، او بالاحرى، موعد الانقلاب السياسي الكبير على القوى التي ترهن البلد وترتهنه وتتوارثه منذ الحرب الاهلية. وإلا فإن الامر يمكن ان يستغرق حتى نهاية القرن الحالي من النضال من أجل قيام الدولة الطبيعية، المستقرة، التي تحمي مواطنيها وتضمن لهم العدالة السياسية والاجتماعية.
شرط نجاح هذا المسار طبعا، هو ان يتوقف البلد نهائياً عن إختراع وتصديق أكاذيب التدخل الخارجي، السعودي او الايراني او الاميركي او الفرنسي، في الشؤون الداخلية اللبنانية، التي تبدو بالمقارنة مع الشؤون الداخلية العراقية او السورية او اليمنية او التونسية.. او طبعا الاوكرانية، مجرد منافسة انتخابية محلية جدا، على بلدية او نقابة.
معجزة الانتخابات ومشكلتها الاهم أنها لا تعطي صورة واضحة عن المعركة الانتخابية الاهم حول رئاسة الجمهورية، في الخريف المقبل: سمير جعجع، وهو الفائز الاكبر في الانتخابات النيابية بالامس، إكتسب شرعية اضافية للترشح لانتخابات الرئاسة، لكن طريقه الى قصر بعبدا، ما زال مليئاً بالحفر والاشواك والالغام. وحزب الله الذي تراجعت غالبيته النيابية السابقة، فقد المزيد من الشرعية التي كانت تؤهله لتوجيه مسار الجمهورية ورئاستها وسياستها الخارجية.
المصدر: المدن