ليس مفهوماً، على أي وجه، إصرار الحريري على الدعوة لمقاطعة الانتخابات، إثر قراره “تعليق” العمل السياسي. التبرير بأن المشاركة تعطي غطاء لـ”حزب الله” ساقطة إلى حد كبير، فالواقع أن المقاطعة تعطي فرصة لـ “حزب الله”، لإعادة أخذ الأغلبية النيابية من جهة، وستفتح المجال أمام فرض ممثلين عن السنة لا يعبرون عن توجهاتهم الحقيقية من جهة أخرى.
ليس سراً أن الحريري خسر أركان قوته؛ المال، والدعم السعودي، وجزءاً كبيراً من إرث والده، الذي تآكل بفعل التسويات والمراهنات الخاطئة والأداء السياسي الضعيف، لكن الحريري الآن أمام خسائر إضافية؛ إذ يبدو أنه على فراق – للمرة الأولى منذ زعامة آل الحريري- مع دار الفتوى التي تحض السنة على المشاركة، إلى درجة اعتبارها “خيارا مصيريا”.. وأنها “واجب ديني ووطني.. لأن المقاطعة استسلام، ولا نريد أن نسلم لبنان لأعداء العروبة”.
ينسحب هذا الأمر على نادي رؤساء الحكومات السابقين؛ وأكثر ما يبدو الأمر واضحاً في دعوة الرئيس نجيب ميقاتي –الذي لم يترشح شخصيا- الشارع السني للإقبال بكثافة على الانتخاب، كما في رسالة الرئيس السنيورة (وهو القائل للحريري “معك رغما عن قرارك”)، الدعوة إلى المشاركة باعتبارها “حقا واجبا للشهيد رفيق الحريري”.. إضافة إلى خسارة الحريري أركانا في تياره؛ لم تفهم قراراته وفضلت الاستقالة، والترشح، ودعوة الناخبين إلى عدم الوقوع في فخ المقاطعة، باعتبارها خدمة مجانيا للمحور الإيراني.
صحيح أن للحريري كامل الحق في أن يعتزل السياسة أو أن يغيب عن البلد أو أن يطلب من أعضاء حزبه عدم الترشح، لكن دعوة الناس إلى المقاطعة، كما هو قائم في السر والعلن، واعتبار ذلك من قبيل الوفاء للزعيم؛ إلى درجة تخوين أقطاب مؤسسين لتيار “المستقبل” لمجرد أنهم قرروا ملء الفراغ، لئلا يستفيد منه الآخرون.. فيه تغليب لمصلحة ضيقة على المصلحة الوطنية، ومصلحة من يفترض أن الحريري كان يمثلهم.
الواضح أن الحريري يريد أن يقول بلسان الحال أنه رقم صعب لا يمكن للسعودية أن تتجاوزه، وأن البحث عن بديل لن يكون فعالا بدونه، وأن الدكتور سمير جعجع لا يمكنه ملء الفراغ، لا سيما في الشارع السني … وهذا كله حق للحريري في السياسة، لكن ما ليس حقه أن يأخذ السنة معه إلى صراع زعامة يفقدهم حضورهم، ويعرض مستقبلهم لأخطار إضافية؛ تزيد من ضعفهم في المعادلة اللبنانية.
لقد كان الحريري سباقا إلى تقديم استقالة حكومته، نزولا عند مطالبات الشارع بالتغيير، بعد 17 تشرين 2019، وحسناً فعل، وكان الأولى له أن يدعو اللبنانيين عموما، والسنة خصوصا؛ إلى انتخاب من يرونه أهلا للتغيير، أما أن يدعوهم إلى المقاطعة (بيان النائب بهية الحريري عشية مغادرتها لبنان فترة الانتخابات، وموقف نجلها ردا على السنيورة “سيبقى موقفك وحده يمثلنا”) فهذا يعني أن الحريري يريد أن يأخذ السنة إلى موقع الضعف الذي أصابه، وإلى تمكين المحور الإيراني من حصد غالبية نيابية، وتاليا استمرار الأزمة الدستورية، وإنتاج عهد جديد يشبه عهد ميشال عون، وتفاقم الانهيار الاقتصادي.. وذلك كله سقطة جديدة في مسيرة الرئيس سعد الحريري، لا ينبغي هذه المرة أن يدفع ثمنها الشارع السني .. ولبنان.