عشقتْ ” جو بل ” البحرَ ، و تسللت من حضن الجبل المتشح بأشجار السنديان والصنوبر والبلوط إلى شاطئه ، فغسلتْ أمواجُهه قدميها منذ آلاف السنين ، وما زالت ترنو إلى الجبل ، وتحتضنُ البحر ، وهي تهفو لتركبَ أمواجَه إلى الشاطئ الآخر . في هذه البلدة القديمة وضع أبو حطب عصا اللجوء ، وأصبح أحد معالمها ، فكل أبنائها يعرفونه ، وهو مزروعٌ طيلة اليوم أمام عربته الثابتة في تلك الزاوية من شارع الجلاء ، التي تحنو عليها شجرة جوزٍ وبضعة عذارى من أشجار النخيل ، يقصده أبناء البلدة والغرباء ، فطعم فلافله لا يبرح أفواههم . أحب الطلاب أبا حطب ، وكم قدم لبعضهم سندويشةً عندما يقف أحدهم محاذراً الاقتراب من العربة ؟. فكان يتسلل إليه بوجهه الذي حفرت فيه السنون أخاديد ، ويقدم السندويشة بحنية : – خذها من يد عمك قبل أن أحلفَ على خالتِك أم حطب بالطلاق . مرَّت الأيام ، فأخذت البلدة تترقب حدثاً يهز الجبل والبحر ، فصاحب الخان فيها ومالك مراكب الصيد زير نساء ، وهو لا يتوانى عن فعل أي شيء إذا وضع أنثى هدفاً لرغباته ، ولا شك أن حديثَ الناسِ عن جمال أم حطب وصل إلى أذنيه . يروي كبار السن أن أبا حطب جاء من فلسطين حاملاً معه صنعته في تحضير الفلافل ، ترافقه سيدةٌ دوخت رؤوس الرجال ، وأشعلت براكين الغيرة في صدور النساء ، وهي ممرضةٌ وخياطة ، أما أبو حطب فهو صندوقٌ مغلق ، ومن تجرأ وسأله عن المدينة التي وفد منها كان يجيبه : – فلسطين . عندما يزور البلدة أبناء القرى القريبة والمدن البعيدة يواجههم سؤالٌ وحيد بعد عودتهم : – هل أكلتَ سندويشة فلافل من عربة أبي حطب ؟. هذا هو أبو حطب الذي غطى على المعلم صقر ، ومن جذبت فلافله أبناء البلدة ، والتفوا حول عربته ، فالرجال يقفون من جهة الجبل ، والنساء يقفن من جهة البحر ، واتخذ الطلاب ما بينهما منطقةً محايدة ، مع أن أبا حطب غضَّ الطرف عن لقاء العشاق ومدمني السياسة حول عربته . لقد اعتادت البلدة على الاختلاط بين الجنسين بحضرة عربة الفلافل ، التي لاتقرُّ بتقسيم الناس إلى زلملك وحرملك ، وفي رحابها أسفرت بعض النسوة عن وجوههن ، كما أطلقت أخريات العنان لشعرهن أسوةً بأم حطب . وفُتحت بعضُ مطاعم الفلافل في البلدة بدعمٍ من المعلم صقر ، لكنها سرعان ما أغلقت أبوابها ، فأقدام أبنائها بقيت مسمَّرة حول عربة أبي حطب ، وكل من في البلدة يعرف أن عدداً من موظفي البلدية ورجال الشرطة سقطوا في شباك صقر ، وأن رئيس البلدية وخطيب الجامع خاتمان بإصبعه . وشهد بعض أبناء البلدة أن شرطيين حاولا فرض أتاوة يومية على أبي حطب ، وهدداه بجر عربته إلى الحجز ، فحمل أبو حطب الصاج بيديه، وكان الزيت يغلي والفلافل ترقص فيه ولحق بهما ، ففقد الشرطيان عقليهما وأطلقا سيقانهما للريح . ثم جاء الزلزال الذي تنتظره البلدة منذ قدوم أبي حطب ، فشوهدت أم حطب تخطو في السوق بكامل أنوثتها وبشعر فاحم يداعبُه نسيمُ البحر وبعينين خضراوين ، فخرج إليها المعلم صقر مرحباً بأرق العبارات ، يلهث مبهوراً بجمالها ،واعتقد أنها حوريةٌ خرجت من البحر ، أوآلهة هبطت من السماء في زيارةٍ لربة الجو والأنواء جوبل ، فدعاها إلى خانه لتشرب معه فنجان قهوة ، فلم تكترث به. فاعترض طريقها ، فصفعته بكل قوتها ، فتدحرج طربوشه في السوق كحصى المنقلة ، وقالت : – إن في وجه أبي حطب إشراقةً لا أراها بوجه أحد من الرجال . فتسمَّر المعلم صقر ، واسرع من شاهد الواقعة بالابتعاد خوفاً ، معتقدين أن صقر سيحرق الأخضر واليابس في البلدة .. أمام العربة همست أم حطب في أذن أبي حطب ، فشحذ سكينه الطويلة ، ووضعها في حزامه ، وركض إلى الخان، فوجد المعلم صقر بانتظاره محاطاً بثلة من عماله وعتالي السوق فخاطبه: – سأكتفي اليوم بصفعة أم حطب ، لكن إذا عدت إلى مثلها سأجعلك طعاماً للسمك ، وبصق على الأرض، ومن يومها انزوى المعلم صقر في خانه حتى فارق الحياة . وما كاد يخبو صدى صفعة أم حطب للمعلم صقر ، حتى سرت إشاعةٌ أن رئيس البلدية حلم بإزالة عربة الفلافل من شارع الجلاء ، وبدأ بتنفيذ حلمه بتحريض موظفي البلدية ومسؤولي الحزب والشرطة قائلاً : – عربة الفلافل تعرقل السير ، تسيء لجمال جوبل وحضارتها العريقة ، تنفِّر السياح من مدينتنا ، تقطع الطريق على رؤوس الأموال التي تطمح في الاستثمار السياحي ، إنها تشوه ذكرى الجلاء باحتلالها ساحة الشهداء ، إني أحلم بمدينة تنافس المدن في الشاطئ الآخر من البحر . في اليوم الأول تقدمت جرافةٌ تحرسها كوكبةٌ من رجال الشرطة ، وبدأت باقتلاع شجرة الجوز وعذارى النخيل ، وتابعت طريقها باتجاه العربة ، وكان أبو حطب يتابع قلي فلافله وإعداد السلطة غير عابئ بالمعركة التي تدور حوله ، وقبل أن تصل الجرافة إليه توقفت ونزل منها السائق ولاذ بالفرار . في ظلام الليل أسرَّ من يثق به أبو حطب : – إن شركة سياحية تقدمت بعقد استثمار لمدة ثلاثين عاماً ، لتشيد في ساحة الشهداء برجاُ ، ومطعماً ، و فندقاً بخمسة نجوم ، وأن رئيس البلدية حصل على خاتم وتوقيع الحكومة وضمن هذا العقد . في اليوم الثاني احتشد جمعٌ غفيرٌ من أبناء البلدة حول العربة ، فأقبل رجال الشرطة تتقدمهم الجرافة ، ويتقدم الموكب المهندس رئيس البلدية ، فترك أبو حطب عربته وابتعد بصمت .