في شهر أيلول من العام 2011 وبينما أنا في معرض الكتاب السنوي زارني صديق من ريف طرطوس بيني وبين أسرته تعارُف ومودة.. كانت مظاهرات الشباب السوريين في ذلك الوقت، حديث الناس، وسؤال سورية إلى أين على كل شفة ولسان، وكانت هواجس كثيرة تعتري الكثير من السوريين، وعلى نحو خاص هؤلاء الذين يعرفون عمق المجتمع السوري، وتعدُّد أطيافه حاضراً وماضياً.. ولم يَخْلُ لقاؤنا السريع في تلك الزيارة من أحاديث عمَّا يجري في سورية.. كان ذلك الصديق برفقة صديق كاتب أعرفه، وخلال تبادُل الآراء سقطت هفوة من صديقي تشير إلى تخوُّفٍ ما وتحتمل تفسيرات مختلفة.. ولم تكن تلك الهفوة إلا عبارة شرحتْها، فيما بعد، شعاراتُ الجيش السوري، ومنها شعاران متشابهان هما “الأسد أو نحرق البلد” و”الأسد أو لا أحد”، ولم تعنِ تلك العبارة حينئذ غير تقسيم سورية حين تستدعي الضرورة.. تقول العبارة الهفوة: “إذا استمرت الأحداث هكذا، فسوف نقيم دولة لحالنا” بمعنى دولة في منطقتنا تخصنا..
حينئذ لم أكترث للعبارة، وفسرتها على أنها تعبير عن ردة فعل، وخاصة أن صديقه الكاتب بيَّن عدم رضاه عنها، بل أسكته مستنكراً، وإلى حد ما سفَّه رأيه! لكن رئيس الدولة السورية عاد ليؤكد ذلك الرأي بعد سبع سنوات حين شعر بنوع من الانتصار الذي جلبه الروس بتدمير المدن السورية مثل حلب وحمص وريف دمشق والرقة، وأقام مُصالَحة مع فصائل كانت مخابراته تنفخ فيها ما ينقصها من أشكال التطرف وارتكاب الموبقات..!
في العام نفسه أُتيح لي أن أسهر وعدد من الأصدقاء مع شاعر معروف من حمص تولى مناصب ثقافية فسألني كيف ترى الأمور فقلت الوطن أكبر من الجميع، وأعتقد بأنها ستحل! فقال لي أنت متفائل فقلت: ربما. وفي الحقيقة كنت أعوِّل على بقايا وطنية ربما علقت بذهني من كثرة طنطنة الشعارات التي يطلقها الإعلام، وكان يعرف حقيقة من حوله، وعمق أناهم الفردية أو الأسرية التي تسخّر كل ما في البلد لخدمتها.
في أواخر العام نفسه أيضاً، التقيت مديراً في وزارة الإعلام مسؤولاً عن موافقات الطباعة كنتُ أشرب عنده فنجان قهوة كلما زرتُ الوزارة، إذ يستأنس أحدنا بآراء الآخر.. في ذلك الوقت كانت المبادرة العربية، قد أُعلِنَتْ فسألني ما رأيك؟ فقلت: علينا أن نلاين، ولا حلَّ آخر.. قال: أهكذا ترى؟ فأكدت له الرأي، فلم يبدِ أي تعليق لكنَّ انطباعي عنه كفرد كان إيجابياً.
ما أريد قوله أن تلك الهواجس كانت تعكس ما يدور في كواليس النظام أو لدى المؤثرين في قراره، وقد تجلت، فيما بعد، مجازر إبادة رهيبة.. ففي ذلك الوقت، أو قبله بقليل، كانت أذيال أجهزة الأمن في لجنة الحوار المركزية قد قلبت الطاولة على اللجنة ورئيسها السيد فاروق الشرع نائب رئيس الجمهورية احتجاجاً على خطابات بعض الشباب بأهمية أن يكون في البلد نوع من الانفراج الديمقراطي.. وبذلك أسقطت كل الحلول السلمية التي تساعد في بناء دولة سورية تكون لكل أطياف شعبها.. دولة تنعم بالأمن والسلام، وترتقي سياسة واقتصاداً وعلماً وثقافةً ونمواً اجتماعياً وازدهاراً شاملاً، ولتأتي، بعد عدة أشهر، وبتدخُّل إيراني مباشر، بدعة الحل الأمني اختياراً وحيداً للنظام، كما أشار إلى ذلك منذ يومين السيد علي مظهري نائب رئيس مجلس النواب الإيراني معترفاً بسلمية الثورة السورية، وبخطأ تدخُّلهم إلى جانب الأسد ولا أعرف إذا كان ذلك التصريح يخفي شيئاً ما.. أو ترتيباً جديداً للنظام السوري.
ما الذي يمكننا قوله عن فيديو حي التضامن، مع علمنا اليقيني بأن مجزرة التضامن سبقتها مجازر كثيرة منها، على سبيل المثال لا الحصر، مجزرة “رسم النفل” جنوب شرق حلب قريبة من خناصر ذهب ضحيتها 208 أشخاص معظمهم نساء وأطفال وطاعنون في السن.. ونفذت بتاريخ 22 حزيران 2013.
وفي شهر نيسان من العام 2013، قام فرع المنطقة التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية المعروف أيضاً بالفرع 227، بقتل أكثر من 280 مدنياً اقتيدوا إلى أحد أحياء دمشق المعزولة، وتم إعدامهم واحداً تِلْوَ الآخر في مقبرة جماعية كانت قد أُعدت مسبقاً. وأثناء توثيقهم للمجازر بتصويرها، لم يتوانَ الجناة عن أخذ لقطات تذكارية مروّعة. (من تقرير دولي بعنوان قرابين التضامن).
جرائم كثيرة مشابهة ارتُكبت بحق المدنيين السوريين، فما طبيعة هؤلاء المرتكبين؟ هل هم سوريون فعلاً؟ بل هل هم بشر أصلاً؟! مَن دفعهم، ولماذا؟ وماذا تخفي تلك الأفعال الإجرامية؟ ما هي الأيديولوجيا التي حولت الإنسان أو المفترض أن يكون إنساناً ليجاوز وحوش الغاب في تصرفها.. أمور مرعبة كثيرة تدعو للدهشة والاستنكار.. وعلى أي شيء استند مَن أوغر صدور القتلة، وبأي افتراء، ليقتلوا أولئك الأبرياء بتلك البشاعة.. كثير من القصص والحكايا كانت تمر بين التكذيب والتصديق.
أما هذا الفيديو فقد جاء تصديقاً لا لتجريم النظام وتوحُّشه فحسبُ، بل أتى شاهداً بعد مئات الشواهد على ما يكنّه في أعماقه، من تصميم على إبادة كل مَن يعارض نظامه الذي بُني، أساساً، على جماجم السوريين! وتأتي مجزرة التضامن في السياق ذاته، فهي ليست لمعتقلين أو لمساجين حُقِّق معهم، أو حُكم عليهم.. بل هي لمدنيين مأخوذين من بيوتهم أو أماكن شغلهم أو من الشارع عنوة لتصفيتهم بأمر من بعض ضباط الجيش السوري في تلك المنطقة، أما القائمون بالتصفية فهم عناصر من الجيش، أو من الميليشيا التي كانت تُسمَّى باللجان الشعبية التي شكلها النظام مع بداية الأحداث من قاع المجتمع وممن يعملون لدى شبيحة التهريب وتجارة الممنوعات.
“قد يبدو أن مجموعات الشبيحة ظهرت بشكل مفاجئ، إلا أنَّ النظام السوري هو الذي تغاضى عن أفعالها وحرّضها ووجّهها ونظّمها، وقام بهيكلتها تدريجياً عَبْر نظام الزبائنية والمحسوبية الذي طوَّره. وكان من الواضح أن النظام قد أوكلَ لهذه الميليشيات مهمة القيام بالأعمال القذرة، لكي يتسنَّى له في وقت لاحِقٍ إنكارها”. (التقرير المذكور)
لا شَكَّ في أن مسؤولية المجازر كلها تقع بالدرجة الأولى على عاتق رأس النظام بالذات، ولا يمكن له أن يتبرأ منها فهي تعبير عن التطرف والإرهاب وازدراء مفردات الوطن والمواطن وهي حقيقة تؤكد مقولة لطالما رددها السوريون هي أن سورية محتلة دولة وشعباً إذ لا شبيه لمثلها إلا تلك التي ارتكبها المحتلون في سورية والجزائر مصر وفلسطين! وتؤكد من جهة ثانية أهمية الثورة السورية وضرورتها الموضوعية. وأن زوال النظام القائم أو إزالته لم تَعُدْ مسألة وطنية أو اجتماعية للتعايش الآمِن، بل هي ضرورة إنسانية أيضاً.
المصدر: نداء بوست