الكتاب: “قراءات في المشروع الوطني الفلسطيني بين الأمس واليوم”
المؤلف: مجموعة مؤلفين
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2019
غياب مشروع وطني جامع يحظى بالتوافق من معظم القوى السياسية الفلسطينية الفاعلة، ومن قوى المجتمع المدني هو المحور الأساس الذي تدور حوله أوراق اثنى عشر باحثا في هذا الكتاب، الذي يضم أعمال ندوة نظمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية في 2019، وكان ضمن أهدافها إبقاء سؤال المشروع الوطني الفلسطيني مطروحا على بساط بحث القوى السياسية والمجتمعية والثقافية، إذ أضحى من الضروري “بلورة خطط ملموسة لإنجازه بعد أن اتضح فشل استراتيجية المفاوضات وفشل الرهان على الحلول الدولية، كما تبينت محدودية الأفق السياسي للمقاومة المسلحة بالشكل الذي تطرحه القوى التي تتبنى هذا الخيار”.
وتطرح هذه الأوراق تساؤلات حول ما إذا كان البديل عن حل الدولتين، الذي وصل إلى طريق مسدود، هو الدولة الديمقراطية الواحدة التي تجمع الفلسطينيين واليهود والإسرائيليين على أساس المساواة والعدالة، بما ينهي الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني. وأسئلة أخرى حول الاستراتيجية النضالية المطلوب تبنيها من القوى السياسية الفلسطينية لتوليد حركة مناهضة للصهيونية، بصفتها حركة استعمار استيطاني عنصري. وتناقش الأوراق، التي نتوقف عند بعضها في هذا العرض السريع، مواضيع متنوعة كلها ذات صلة وتأثير في تشكيل وبناء المشروع الوطني الفلسطيني، مثل واقع الشتات الفلسطيني، وحق العودة للاجئين، والرؤى السياسية للقوى الفلسطينية في مناطق ال48، والانقسام الفلسطيني.
أين الخلل؟
في ورقته المعنونة بـ “المشروع الوطني الفلسطيني من أين وإلى أين؟” يبدأ المؤرخ والباحث ماهر الشريف بحثه بالإشارة إلى أن طرح السؤال عن ماهية المشروع الوطني الفلسطيني، بعد مئة عام من النضال ضد المشروع الكولونيالي، يؤكد أن إنجازات هذا النضال لم تكن بمستوى تضحيات الشعب الجسيمة. وبالتالي يحاول في بحثه الإجابة عن سؤالين أساسيين هما: هل يمكن إرجاع هذه الحقيقة إلى أن ميزان القوى في هذا الصراع كان دوما يعاني خللا كبيرا في غير مصلحة الشعب الفلسطيني؟ أم أنه يتوجب إرجاعها أيضا إلى مكامن الخلل في بينة الحركة الوطنية الفلسطينية وقيادتها، وفي طبيعة المشروع الوطني الذي حملته؟.
يقول الشريف: إن الخلل في ميزان القوى تعمق في الفترة الأخيرة نتيجة تكرس صهيونية جديدة في إسرائيل، تتسم بطابع قومي وديني تسعى لفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، وتحول الإدارة الأميركية بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض من نهج إدارة الأزمة إلىالعمل على تصفية أهم مكوناتها(القدس واللاجئين، والتحرر من الاحتلال).
هذا فضلا عن شلل النظام العربي وتراجع الانشغال العربي بالقضية الفلسطينية، وبروز استعداد لدى بعض الأنظمة العربية للتطبيع مع إسرائيل والتحالف معها. وهو خلل تعمق نتيجة عوامل ذاتية، بحسب الشريف، من أهمها استمرار النزاع بين حركتي فتح وحماس، وهو نزاع أظهر الشعب الفلسطيني كأنه لم يعد ملتفا حول مشروع وطني واحد. وتقادم النظام السياسي الفلسطيني خصوصا بعد أن باءت بالفشل كل الجهود لإصلاحه، والاغتراب السياسي لفئة الشباب، إذ صارت مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية عاجزة عن استقطاب الأجيال الجديدة، التي تنأى بنفسها عن النشاط السياسي المنظم، بينما تبحث قطاعات أخرى من الشباب عن أشكال فردية أحيانا للمقاومة.
مقاربة جديدة
يرى الباحث في علم الاجتماع جميل هلال أن مصطلح “المشروع الوطني الفلسطيني” لم يكن مضمونه يوما واضحا تماما، إذ يعني في معظم الأحيان قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، أو قيام الدولة وحق العودة وحق تقرير المصير، دون أن يتم تحديد الهدف العام لهذا المشروع، ولا سبل ووسائل تحقيقه بشكل ملموس.
كما يعتقد هلال أن الحالة السياسية الفلسطينية الراهنة مسكونة بالتفكك والتيه في التوجهات السياسية، سواء كان ذلك في الضفة والقطاع، أم في مناطق ال48، يضاف إلى ذلك غياب جزء كبير من الشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء والمهجر عن المشاركة في مناقشة القضايا الوطنية، والمساهمة الفاعلة في النضال الوطني. وكجزء من عملية إعادة بناء المشروع الوطني يقترح هلال مقاربة سياسية جديدة للصراع مع المشروع الصهيوني يتلخص باعتبار إسرائيل دولة استعمارية استيطانية ما يستدعي تركيز النضال الوطني الفلسطيني على تعرية طبيعة هذه الدولة وتقويض مشروعها. وضرورة الالتفات إلى حقيقة أنه رغم كل ماقامت به إسرائيل من جرائم لم تستطع اقصاء جزء وازن من الشعب الفلسطيني عن أرضه، كما فشلت في إخماد الروح الوطنية للشعب الفلسطيني داخل فلسطين أو خارجها. وهاتان الحقيقتان تمكنان الشعب الفلسطيني من طرح خيار دولة ديمقراطية واحدة يتحقق فيها التعايش والتساوي في الحقوق، خلافا لمشروع تقسيم فلسطين إلى دولة إسرائيلية على أغلبية الأراضي، ودولة فلسطينية على خمس الأرض.
وتستدعي هذه الصيغة أن تطرح الحركة السياسية الفلسطينية تصورا وبرنامجا تفصيليا لحل الصراع، يتكفلان باحترام حق العودة كاملا، ويعيد إلى فلسطين حدودها الجغرافية التاريخية، ويقترح على اليهود الإسرائيليين صيغة حل ديمقراطي وإنساني بديلا من الحل الصهيوني القائم على ايديولوجيا استعمارية إحلالية عنصرية، بحسب هلال.
دور الشتات
في إطار السؤال عن ماهية المشروع الوطني الفلسطيني، يناقش الباحث في شؤون اللاجئين الفلسطينيين جابر سليمان دور الشتات الفلسطيني في ضوء المخاطر والتحديات الدولية الراهنة التي تهدد الأونروا وقضية اللاجئين وحق العودة في سياق صفقة القرن، وفي وقت أصبحت الأونروا خط دفاع أساسي في مواجهة تلك المخاطر. يرى سليمان أن تعزيز دور الشتات في حماية المشروع الوطني الفلسطيني والحفاظ على الهوية الوطنية الجامعة، يستدعي التمسك بمجموعة من الأسس على المستوى الوطني العام، من جهة، وتبني أدوات واستراتيجيات عمل ملائمة وفعالة يجمع عليها الفلسطينيون في الداخل والخارج من جهة أخرى.
وأبرز تلك الأسس والاستراتيجيات يتمثل في التمسك بوحدة قضية اللاجئين انطلاقا من وحدة الأرض والشعب داخل فلسطين التاريخية وخارجها. والتمسك بحق اللاجئين بالعودة كحق فردي وجماعي استنادا إلى مبادىء القانون الولي أساسا قبل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وهو حق يرتبط ارتباطا وثيقا بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. يضاف إلى ذلك الحفاظ على المكانة التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية وإبقائها في قمة الهرم السياسي الفلسطيني وإعادة بناء مؤسساتها وإصلاحها.
والاعتراف بخصوصية كل تجمع من التجمعات الفلسطينية في الشتات، وإيلاء الدفاع عن الحقوق الفردية والجماعية لهؤلاء الفلسطينيين الأهمية التي تستحقها، لانعكاساتها على طبيعة الدور الذي يمكن أن يلعبوه في المشروع الوطني. وبلورة خطة عمل فلسطينية موحدة لحماية الأونروا، كونها أصبحت في ظل الهجمة الأمريكية-الإسرائيلية عليها خط الدفاع الأول عن قضية اللاجئين، وممارسة الضغط في الوقت نفسه من أجل إصلاح الأونروا وتطوير آليات عملها وخدماتها. عدا عن ضرورة انخراط مختلف أطر العمل الوطني في الشتات في حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)وتعزيز دورها انطلاقا من نداء المقاطعة بأعمدته الثلاثة: إنهاء الاحتلال لأراضي 1967، والاعتراف بالحقوق الأساسية للمواطنين العرب في إسرائيل، وحماية حق اللاجئين في العودة إلى بيوتهم واستعادة أملاكهم.
آفة الانقسام
الكاتب الصحفي والمحلل السياسي هاني المصري يركز على الأثر السلبي الذي تركه الانقسام على المشروع الوطني الفلسطيني، ويؤكد أنه ساعد على تبلور بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية منفصلة عن هذا المشروع، تبحث عن بقاء الوضع الراهن، أي سلطة الحكم الذاتي المحدود، وترتبط بعلاقات ومصالح متعددة مع الاحتلال والشركات والمؤسسات الإسرائيلية، إذ كل ما يهمها هو الحفاظ على نفوذها ودورها وثروتها، ونتجت من ذلك كله جماعات مصالح الانقسام، سواء في الضفة أو القطاع، مع الاختلاف بينهما، والتي تقف بالمرصاد لمنع نجاح أي محاولة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة.
ويرى المصري أن أخطر ما يمكن أن يؤدي إليه الانقسام هو استخدامه سكة لمرور قطار صفقة القرن، من خلال التكيف وفق الوقائع والحقائق التي توجدها.يقول المصري إن الاستراتيجيات المعتمدة وصلت إلى طريق مسدود سواء المفاوضات أو الكفاح المسلح، لذلك بات لزاما قبل كل شي أن يعاد السؤال حول ما الذي يرده الشعب الفلسطيني وما هو برنامجه أو مشروعه الوطني، وعلى هذا الأساس يمكن الحكم على أي قضية لنرى هل تخدم تحقيق المشروع الوطني أم تضعفه. فإذا كان المشروع الوطني النهائي قد أصبح عمليا إقامة الدولة على جزء من الأراضي المحتلة عام 1967 ومقايضة حق اللاجئين وحقوق شعبنا في أراضي 1948، فإن الضرورة تتطلب بعد فشله إعادة الاعتبار إلى المشروع الوطني الأصلي، مع الأخذ في الحسبان أن لا تناقض بين النضال من أجل الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني والتمسك بروايته التاريخية، مع النضال لتحقيق ما يمكن تحقيقه في كل تجمع ومرحلة.
ويتابع أنه لا بد من أن تلبي الاستراتيجيا المطلوبة الحاجات الواقعية التي تؤشر إلى أهمية الكفاح لاستكمال تحرير القطاع، بالترابط مع وقف الاستعمار الاستيطاني في الضفة تمهيدا لتحريرها، وبالتوازي مع النضال للمساواة في أراضي الـ 48، ومن أجل حق العودة. كما يجب السعي لتقليل الأضرار والخسائر والحفاظ على ما تبقى من مكاسب وأهمها منظمة التحرير التي يمكن العمل على إعادة بناء مؤسساتها، إضافة إلى إعطاء الأولوية لتوفير عوامل صمود ووجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وعدم اعتبار ذلك معطى مفروغا منه، وأن التهجير غير وارد.
المصدر: عربي 21