تحت عنوان “النخب لم تفهم بعد معنى القومية” قدم البروفيسور ستيف وولت، أستاذ العلاقات الدولية تحليلاً في ضوء الحرب الجارية في أوكرانيا، مؤكدا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس الزعيم الوحيد الذي لم يستطع فهم كيف ستقوم القومية الأوكرانية بإحباط محاولاته لإحياء النفوذ الروسي. وقال “لو طلب رئيس دولة أو وزير خارجية نصيحتي، فلا تقلق، لأن هذا لن يحدث أبداً. وربما بدأت بالقول “احترم قوة القومية”، لماذا؟ لأنني كلما نظرت إلى معظم القرن الماضي وفكرت بما يحدث اليوم، اكتشفت أن الفشل في فهم هذه الظاهرة القوية قد قاد عددا من القادة (وبلدانهم) إلى الكوارث المكلفة”.
وقال إنه ذكر بضرورة فهم القومية في 2019 و 2011 و 2021. إلا أن الأحداث الأخيرة تستدعي التذكير به من جديد. ما هي القومية؟ الجواب يتكون من شقين. الأول، يبدا بالاعتراف أن العالم يتكون من جماعات اجتماعية تشترك بملامح ثقافية مهمة- لغة مشتركة، تاريخ، نسب، وأصول جغرافية وغير ذلك. ومع مرور الوقت بدأت بعض هذه الجماعات بالنظر إلى نفسها على أنها تمثل كيانا خاصا- أمة. ولا تحتاج الأمم لأن تكون دقيقة في سيرتها وتاريخها، وبالتأكيد فالسرد القومي عادة ما يكون نسخة مشوهة من الماضي. وما يهم هو أن أفراد الأمة يعتقدون بأنهم كل واحد. أما الشق الثاني، فهي عقيدة القومية التي تؤكد على حق كل دولة حكم نفسها وألا يحكمها ناس من الخارج. وفيما يتعلق بهذا فإن الأمم الموجودة عادة ما تشعر بالقلق من الذين لا ينتمون إليها، أي اللاجئين والمهاجرين من ثقافات أخرى ممن يحاولون الدخول والإقامة في المنطقة. ومعظم الدول لديها مهاجرون وهي ظاهرة قديمة، وعادة ما تحدث عمليات اندماج، لكن وجود أشخاص لا يعتبرون جزءا من الأمة يظلون مصدرا للنزاع.
وما دمنا نعرف الآن معنا القومية، فما علينا الآن إلا النظر في القادة الذي فشلوا في فهم معناها وقوتها. ولنبدأ ببوتين الذي لم يفهم كيف ستحبط القومية الأوكرانية خططه لإحياء التأثير الروسي في أوكرانيا عبر عملية عسكرية سريعة. وكانت الجهود الروسية تعاني من الأخطاء من بدايتها، إلا أن المقاومة الأوكرانية الشرسة كانت العقبة التي وقفت في طريق الروس. ونسي بوتين ومن معه أن الأمم مستعدة في العادة لتكبد خسائر وقتال الغزاة الأجانب مثل النمور، وهذا ما فعله الأوكرانيون. إلا أن بوتين ليس الزعيم الدولي الوحيد الذي قام بعملية فاشلة كهذه، ففي معظم القرن العشرين خاضت الإمبراطوريات الاستعمارية حربا مكلفة وغير ناجحة في النهاية لكي تحكم الغطاء على الأمم الثائرة وإبقائها في مجالها الاستعماري. وفشلت هذه الجهود في كل مكان تقريبا من الهند إلى الهند الصينية وأيرلندا والشرق الأوسط ومعظم إفريقيا، وبثمن إنساني باهظ. كما لم تكن جهود اليابان في غزو وتوسيع مجال تأثيرها في الصين بعد عام 1931 ناجحة.
وعندما يتعلق الأمر بفهم معنى القومية، لم تكن الولايات المتحدة جيدة في هذا أيضا. ورغم فهم الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان وبقية المسؤولين الأمريكيين عن القومية وأنها أقوى من الشيوعية وأن المخاوف من الكتلة الشيوعية مبالغ فيها، إلا أن معظم المسؤولين الأمريكيين ظلوا خائفين من أن الحركات اليسارية ستضحي بمصالحها القومية وتقوم بمتابعة موسكو لأسباب أيديولوجية.
وفي حرب فيتنام، قاد عمى مشابه القادة الأمريكيين لإساءة تقدير الثمن الذي كانت شمال فيتنام مستعدة لدفعه من أجل توحيد البلد. وندم الاتحاد السوفيتي على غزوه أفغانستان عام 1979 لأنه فشل بمعرفة الشراسة التي سيقاتل الأفغان فيها القوات الأجنبية. ولم يفهم قادة الولايات المتحدة بعد 9/11 أيا من الدروس، وظن جورج دبليو بوش أن من السهل الإطاحة بالأنظمة واستبدالها بأنظمة ديمقراطية براقة، لأن إدارته افترضت أن الأفغان والعراقيين يحنون للديمقراطية والحرية وأنهم سيرحبون بالقوات الأمريكية كمحررين. وما حصلت عليه الإدارة بدلا من ذلك مقاومة عنيدة وناجحة في النهاية، لأن السكان المحليين لم يريدو تلقي أوامر من الأمريكيين ولا تبني القيم الغربية ومؤسساته.
ولا ينحصر الفشل في فهم القومية على الحرب والاحتلال، فالاتحاد الأوروبي أنشئ كمؤسسة تتعالى على الروابط القومية ومن أجل تعزيز الهوية القومية المشتركة وتخفيف ضغوط التنافس التي قادت إلى حروب مدمرة في الماضي. ويمكن للواحد أن الاتحاد الأوروبي كان له تأثير المهدئ، مع أن الكاتب يرى أن هناك عوامل أخرى أهم. ذلك أن الهويات القومية لا تزال موجودة في الفضاء السياسي الأوروبي وتعمل على إرباك توقعات النخبة. فمن ناحية تقوم بنية الاتحاد الأوروبي على منح الأولوية للحكومة الوطنية التي تكره التنازل لبروكسل. وهو ما يفسر فشل الاتحاد الأوروبي في تشكيل “سياسة خارجية وأمنية مشتركة”. وفي كل مرة يواجه فيها الاتحاد الأوروبي أزمة لا يلتفت المسؤولون فيه إلى بروكسل ولكن لحكوماتهم المنتخبة. ولم تكن الوحدة موجودة أثناء أزمة اليورو عام 2008 ولا كوفيد-19، بل كانت كل دولة لنفسها. كما أن فشل المراقبين في فهم قوة القومية جعلهم يقللون من مخاطر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو صعود الأحزاب اليمينية القومية مثل حزب القانون والعدالة في بولندا والرئيس الهنغاري فيكتور أوربان وحزبه. وفاز الحزبان في الانتخابات مرة وثانية بطريقة تناقض القيم الليبرالية للاتحاد الأوروبي. كما أن صعود دونالد ترامب نابع من تسويقه لنفسه على أنه وطني أمريكي على تناقض مع نخب العولمة الفاسدة التي اتهمها ببيع أمريكا.
ووضع منبره السياسي وشخصيته القومية الأمريكية في الصدارة، سواء من شعاره “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” أو “أمريكا أولا”. وأي شخص اندهش من صعود ترامب فما عليه إلا أن يدرس الكيفية التي استند فيها على مفهوم القومية وفهمه لها أكثر من أي سياسي أمريكي معاصر.
ولأن القومية حية وقوية، فالسؤال هو عن السبب الذي يجعل قادة أذكياء التقليل من أهميتها؟ وربما كان هذا راجعا إلى المفهوم نفسه. فالأمم لا تنظر إلى نفسها على أنها مهمة واستثنائية بل ومتفوقة ولهذا فقدرها الانتصار في النزاعات عندما تحصل. ومن الصعب اكتشاف هذه النقطة العمياء في أمم أخرى. ولم يستطع الأمريكيون التعرف عليها وأن الفيتكونغ أو طالبان سيكبدونهم الهزيمة. وربما كان من الصعب على بوتين أن يكتشفها في الأوكرانيين وأنهم سيقفون ضد الغزو الروسي. وعادة ما تتجاهل النخب قوة القومية لو عاشت في فقاعات كوزموبوليتية. ولو شاركت في المنبر الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا كل عام وعقدت صفقات حول العالم والتقيت مع أشخاص من دول مختلفة ويشتركون معك في الرأي ويرتاحون في العيش خارج بلادهم مثل عيشك في بلدك الأصلي، فمن السهل أن يفوتك أن أشخاصا خارج دائرتك الاجتماعية يتمسكون بأماكنهم ومؤسساتهم المحلية وحس الانتماء للأمة. وتؤكد الليبرالية على الفردية، وحريتك الفردية أو حريتها هي نقطة عمياء أخرى لأنها تحرف نظرنا عن الروابط الاجتماعية والالتزامات بالجماعة ونجاتها والتي يراها الكثيرون أهم من الحرية. وفي النهاية لو طلب قائد سياسي من الكاتب النصح حول مناورة في السياسة الخارجية، فأول سؤال هو عن القومية وإن أخذوها بعين الاعتبار. ويذكرهم بمخاطر تجاهلها. وربما لا تكون مهتما بالقومية لكنها مهتمة بك.
المصدر: “القدس العربي”