طالما كانت إيران متطلعة إلى الجغرافيا السورية، في سياق التخطيط وإنفاذ مشروعها الكبير الفارسي /الطائفي للمنطقة برمتها، فقد كانت أفعالها في العراق إبان سقوط بغداد وإزاحة نظام صدام حسين مستمرة، تارة بالتوافق مع البريطانيين في جنوب العراق، أو مع الأميركان، عبر مصالحها التي كانت تتوافق وتلتقي مع مصالحهم، لكن وبكل تأكيد فقد كانت عينها على سورية حيث وجدت فيها البعد الامتدادي الأكثر جدوى، والأكثر أهمية لتطبيق وتنفيذ ذلك المشروع الخميني، الذي تمظهر أكثر وأكثر مع إعلان آية الله الخميني عن تصدير ثورته تلك أواخر السبعينيات من القرن الفائت. وساهمت سياسات حافظ الأسد في تلك المرحلة بالسماح لذاك المشروع للدخول جوانية الحيز السوري وكذلك اللبناني، إلا أنه حافظ الأسد كان متحفظًا من أن يكون ذاك المشروع منهيًا لدوره الوظيفي في المنطقة والمنوط به، ومن ثم قتل الحلم الذي عمل عليه طويلًا، وصولاً إلى انقلابه صبيحة16 تشرين ثاني / نوفمبر 1970.
لكن ومع وصول الوريث غير الشرعي بشار الأسد إلى السلطة بعد رحيل والده عام 2000، باتت التطلعات والأطماع الإيرانية أكثر مشروعية وأقرب إلى الإنجاز، في ظل وجود حاكم لسورية يمتاز بالضعف، وقلة الدراية، والتخبط السياسي، وعدم االمعرفة بمنعرجات السياسة وشياطينها في المحيط الإقليمي العربي. ثم جاءت ثورة السوريين أواسط آذار/ مارس 2011 ، لتكون الفرصة الإيرانية للولوج داخل المعترك السوري بشكل مباشر وأكبر مما كان في السابق، فكانت النصيحة الإيرانية لنظام الأسد باستخدام وسيلة العنف والحل الأمني العسكري، في مواجهة المظاهرات السلمية التي بدأت بدرعا في 18 آذار/ مارس 2011. وهو الحل الذي تلاقى وتساوق مع أفكار الكثير من القيادات الأمنية السورية، وعلى رأسهم شقيق الرئيس ماهر حافظ الأسدة وفرقته الرابعة، حيث كانت تجربة واقعة تدمير حماة عام 1982 ومن ثم زرع ثقافة الخوف في دواخل الإنسان السوري، ملاذًا وخيارًا أمنيًا سوريًا وإيرانيًا أيضًا للإجهاز على الثورة في مهدها. وكانت متوالية سقوط الشهداء السوريين بالعشرات بدءً بدرعا واستمرارًا إلى دمشق وريفها ثم كل المحافظات السورية التي امتدت إليها حال الانتفاض الشعبي في مواجهة القمع الأسدي الإيراني.
ثم راح الدور الايراني في سورية يشهد توسعًا وتمددًا شمل معظم الجغرافيا السورية، اعتمدت فيه إيران على ماينوف عن 100 ألف عنصر من الميليشيا التي استقدمتها إلى سورية من كل بقاع الدنيا، وكانت تحت مسميات كثيرة النجباء ، وحزب الله، والفاطميون، والكثير من عناصر جاءت بدافع الاستفادة المالية أولًا والدفاع عن ما أسمته إيران (المراقد الشيعية) في سورية المهددة حسب زعمها من قبل المتشددين السوريين، وكأن هذه المراقد لا حماية لها ولا رعاية من قبل كل السوريين على تعدد طوائفهم وأثنياتهم، لكن ذلك كان ذريعة إيرانية كي يكون للحرس الثوري الإيراني اليد الطولى في الواقع السوري، وهو من يقود هذه المليشيات ويمولها، ومن يقودها على مدى سنوات كثيرة الارهابي الدولي قاسم سليماني المعروف، والمقرب من حكم الملالي الإيراني ومكتب خامنئي شخصيًا. والحقيقة فقد تمثل الدور الإيراني في سورية من خلال عدة محددات نذكر منها:
_ الميليشيات العسكرية المتحدرة من الطوائف الشيعية التي تتبع إيران، في كل من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان. وهي العمود الفقري للقوة العسكرية الإيرانية في سورية، والتي تعتمد عليها في إنجاز مشروعها الإيراني الفارسي المشغول عليه منذ فترة طويلة.
- المراكز الثقافية أو المستشاريات الثقافية الإيرانية التي تعمل على تعليم اللغة الفارسية في مفاصل المجتمع السوري، وتبث فكر الخميني في جل الواقع السوري، وصولًا إلى تشييع السوريين لتكون الطائفة الشيعية السورية أوسع وأكثر عددًا، خاصة التي تتبع الدولة الايرانية.
- الدعم المالي وإنشاء الخط الائتماني الإيراني الذي عمل على ضخ الأموال في الخزينة السورية منذ بدايات عام 2013 وحتى عام 2020، في محاولة لإنقاذ الحكومة السورية من الانهيار الاقتصادي، بعد أن أدركت إيران أن سياسات الفساد والإفساد لدى النظام السوري وتغول الشبيحة على الناس في حربهم ضد الشعب السوري المنتفض سوف تؤدي إلى انهيارات كبرى في الإقتصاد السوري، ومن ثم انهيار الحكومة السورية.
- سياسة شراء الذمم في الجيش السوري التابع للنظام، وكذلك المخابرات السورية، من أجل أن تكون التبعية لإيران وليس لاي مكان آخر، وهو ما أدى إلى تمظهر صراعات بينية مع الاتحاد الروسي، والقوى الأمنية والعسكرية الروسية، المتواجدة في سورية بعد عام 2015 أي بعد التدخل العسكري الروسي في سورية أواخر أيلول/ سبتمبر.
- سياسة المحاصصة التي اتبعتها إيران في سورية لتقوم بتكوين فرقًا عسكرية بكاملها تابعة لإيران في التوازي مع أخرى تابعة لروسيا، وانتشارها في أماكن تنفذ عبرها السياسات والمصالح الإيرانية في سورية.
- استدعاء أفراد وجماعات مما كان يسمى ميليشيا الدفاع الوطني، كي يتم تدريبها في إيران ولتعود من أجل تنفيذ الأجندات الإيرانية في سورية حتى تتمكن من الربط مباشرة مع القيادات الإيرانيىة التي كان يقودها الحرس الثوري الإيراني.
- الولوج داخل كينونة المجتمع السوري، وخاصة مناطق حلب وريف دمسشق وريف دير الزور، لتكون السيطرة السياسية والثقافية الإيرانية في مناطق، كان يتعذر عليهم دخولها في فترات سبقت.
- شراء وسائل إعلام سورية وعربية، وضخ الأموال لها لتحاول الترويج للدور اليراني في سورية على أنه دورًا مقاومًا وممانعًا، وقد تمكنت من فعل ذلك واقعًا مع الكثير من وسائل إعلام لبنانية ومصرية وسورية وأردنية وفلسطينية.
- ربط بعض فصائل الثورة الفلسطينية بالمال الإيراني لتكون تابعًا حقيقياً للايرانيين تحت دعوى تحرير القدس وفلسطين، وخلق الشرخ بين هذه الفصائل، وفصاسئل الثورة السورية. ناهيك عن إقامة ألوية فلسطينية خاصة تحت مسميات لواء القدس وسواه، تتبع وتنفذ السياسة الإيرانية في سورية، وتكون في بعض الأحيان رأس حربة ضد السوريين.
- كان الوجود العسكري الإيراني في سورية في محاولات حثيثة للاقتراب من حدود فلسطين المحتلة، ليس من أجل تحرير الجولان ولا فلسطين، بل من أجل الضغط على السياسات الإسرائلية والأميركية وصولًا إلى إنجداز الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الغربية.
- التغيير الديمغرافي الكبير الذي يتحرك في الكثير من المناطق السورية والذي يعتمد على تجنيس الميليشيات الإيرانية والتابعة لها ليصبحوا سوريين، وإسكانهم في محيط دمشق ودير الزور عبر شراء المساكن أو السيطرة عليها، تهيئة لتغيرات ديموغرافية تشتغل عليها إيران ليكونوا أدوات مستقبلية لها فيما لو حصلت تغيرات ما في الواقع السوري.
- تعميق وتصعيد وانتشار الدور الإيراني في الشمال في مواجهة الفصائل السورية المدعومة من تركيا، ليكون ذلك أداة ضغط على الأتراك، فيما لو حصلت خلافات سياسية أو عسكرية بينهما، وقد حصلت في أكثر من منعطف، ونرى علائمه في أستانا ونواتج أستانا والقمم التركية الإيرانية الروسية المشتركة.
- ربط المصالح الإيرانية باستثمارات واستئجارات لموانيء ومواقع فوسفات وسواها في الجغرافيا السورية، وهو ماسينعكس إيجابًا على واقع الاقتصاد الإيراني الذي بات يعاني من صعوبات فائقة مؤخرًا، مع انخفاض سعر صرف العملة الإيرانية.
هذا الدور الإيراني السلبي المتكيء إلى المشروع الفارسي الكبير في سورية، بات يهدد المنطقة برمتها، خاصة في ظل عدم وجود مشروع آخر عربي رسمي في مواجهته ـ وغياب الوعي المطابق لدى دول الإقليم لطبيعة وماهية الخطر الإيراني في سورية وعلى المنطقة برمتها، إن لم يتنبهوا لذلك ويعيدوا حساباتهم على أساس هذا الخطر، الذي يتمدد في سورية،والمنطقة، وإلى دول الخليج وقبل ذلك اليمن ولبنان وسورية والعراق ومن الممكن أنه قد راح يتطلع إلى دول المغرب العربي. ونلحظ نتائجه عبر العلاقات المتشابكة مع الجزائر، وهو ماعرقل انعقاد القمة العربية المتوقعة وتم تأجيلها لأكثر من مرة ، عندما أصرت الجزائر بالتنسيق مع إيران، ومعها بعض الدول العربية على إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية.
المصدر: وكالة ثقة للأنباء