“النظامُ السيِّئُ سيهزم الشخصَ الطيب في كل مرة” “ضع شخصًا صالحًا مسؤولاً عن نظام سيَّئ، فإنَّ الغلبة ستكون للنظام السيَّئ، لا مجال هنا للمنافسة”
“94٪ من المشاكل في الأعمال مدفوعة بالأنظمة، و6٪ منها فقط مدفوعة بالأشخاص”
وليم إدواردز دمينغ (W. Edwards Deming) 1900-1993
السؤال الذي لطالما طرح نفسه: من أهمُّ،الأشخاصُ، أم الأنظمةُ الضابطة للحياة عموما وللمؤسسات خصوصاً؟ الغرب يقدس الأنظمة، بينما يراهن الشرقُ على الأشخاص!
تقول العديدُ من المؤسسات، وخاصةً الربحيةَ منها التي تعمل في العالم النيوليبرالي؛ إنَّ الأشخاص هم أعظمُ مواردنا. فهم من يبنون العلاقات مع العملاء، وغالبًا ما يمكن لمواهب هؤلاء الموظفين إعطاءُ تميُّزٍ للمؤسسة عن منافسيها. هذه هي النقاط التي لطالما ثبتت صحتُها؛ ومع ذلك، فإن الأنظمة في الواقع هي من تقوم بتوجيه وتأطير نجاح الأعمال، في حين يلعب الأشخاص دورًا في إدارتها وتنفيذها، لكن تظل الحقيقة الساطعة هي؛ أن الأشخاص لا يستطيعون التغلبَ على النظام السيئ، ولو كانوا يتمتعون بمواهب غير اعتيادية.
أنظمةُ الإدارة هي طريقة تخيلية للشرح بإيجاز عن كيفية الإدارة الفعالة لمجموعة من العمليات التجارية والإجراءات من خلال أساليب التحكم والقياس المختلفة. لقد رأيتُ بعضَ أنظمة الإدارة “الجيدة” جدًا، وبعض أنظمة الإدارة “السيئة جدًا” طوال مسيرتي المهنية، وغالبًا ما يكمن الاختلاف بين تحقيق أيٍّ منهما في الالتزام التنظيمي بإضفاء الطابع المؤسسي على استخدامها / ونشرها داخل المؤسسة بالتزام واضح من أصحاب القرار، لكن هذا وحدَه لا يكفي!
أعمار الأنظمة الضابطة بطبيعتها أطول من أعمار الأشخاص، لذلك فإن أولئك النخب التي تبتدع الأنظمة الضابطة للدول والمؤسسات، وتحاولُ دائمًا التحكم وعمل القياس والمتابعة، تظل عنصرًا حاسمًا في نهضة الأمم، وصناعة التغيير فيها. لكن لكي ترى جهود تلك النخب النور في تطوير الأنظمة، لابد أن تتبناها حكوماتٌ ودولٌ، أو على الأقل بأن تجعلها مجموعاتٌ بشرية معينة كنماذج ضابطة للحياة والعمل، ولو بعيدا عن إجراءات السلطات الحاكمة! وهنا نعود للمقولة التي تقول: بأنك إن لم تساهم في صنع النظام فأنت تصنع الفوضى!
مع بداية ثوراتِ الربيع العربي صُرفت ملايين الدولارات على ما يسمى بناء القدرات، لكنَّ جزءًا كبيرًا منها، كان بهدف تدجينِ الشعوب العربية على الأنظمة النيوليبرالية، وليس لتطوير نظام يناسبُ واقعَهم وينطلقُ من إمكانياتهم، والسبب وراء هذه النتيجة السلبية التي وصلنا إليها، هو استبعادُ النخب الحقيقية وصناعةُ نخب وقيادات كرتونية ومؤسسات على المقاس الذي خطط له صانعُها. ولذلك أُغْرِقت مؤسساتٌ حديثة النشأة في مجالات مختلفة -سياسية، إنسانية، اجتماعية ثقافية -بكمٍّ هائلٍ من السياسات والإجراءات التي لا يمكن فهمُ مغزاها أو إلى أين تريد الوصول. وأصبحتِ النخبُ المُصنعة لا تستطيع رؤية العالم إلا من خلالها لعدة أسباب، على رأسها فقدُ التخصصِ والشخصية المستقلة وغياب مرجعية جماعية تحدد الأهداف وتقيسها بدقة. وقد وجدتُ كثيرًا من العاملين يصابون بالشلل عند خروجهم من هذه الديناميات والسياسات الموضوعة، مما يجعلهم يتَّهمون أصحاب الاختصاص بالهرطقة ونقص الخبرة إذا أرادوا تعديل أو تصحيح المسارات، ذلك لأن من أرسى تلك السياسات والإجراءات بناها بما يشبه لعبة متاهة الفئران.
لقد تطورتِ الأنظمة وأصبحتْ أكبر في نطاقها وأكثر اتساعًا في ترابطها. وهي تتغير بشكل أسرع مما يمكن أن نفهمَه، كأشخاص، في بعض الأحيان. وقد يبدو أن الأنظمة تشير إلى شيء من طبيعة تكنولوجيا المعلومات (وغالبًا ما تكون كذلك)، ولكن يمكن أن تكون أشياء كثيرة. يمكن أن تكون الأنظمة يدوية التصميم ولكن في النهاية، يجب أن تكون قابلة للتكرار ويمكن التنبؤ بها. تسمح الأنظمة “الأفضل” للناس بالتفكير بشكل أسرع، ورؤية الأشياء بشكل أكثر وضوحًا والمساعدة في اتخاذ القرارات “الصحيحة”. لكن عندما يفقد مشغلُ الأنظمة قدرته على العمل خارج تلك الصناديقِ والأطرِ، يصبح آلةً موجَّهةً من قبل صانع النظام ويفقد السيطرة على مصيره ومصير المؤسسة، وعندها يصبح آلةً طيِّعةً في هدم وطنه بدلًا من بنائه تحت حجج واهية منها الالتزام بالأنظمة والسياسات. لحل هذه المعضلة في الغرب، ركزوا على عملية انتقاء صانع السياسة والنظام، وأعطوها مساحة واسعة من جهودهم وتفكيرهم، لأنها عمليةٌ دقيقةٌ وخطيرةٌ للغاية فهي تحكم مصير أمة؛ لذلك تولى تلك العملية عناية خاصة، وتوضع لها جدرانُ حماية عالية ومتعددة، فمن يصنعِ النظام فسوف يتحكم بمصير الأجيال القادمة، ولا تقتصر القواعد التي يرسيها على عمره الزمني!
الناسُ عابرون في الصورة الكبيرة للأشياء. أنا أصدق أننا كأفراد نريد المساهمة في نجاح المؤسسات والأنظمة التي نعمل بها وسأعتقد دائمًا أننا، كأفراد، نسعى دائمًا إلى الشعور بالرضا تجاه عملنا. ومع ذلك، لا يمكن للأشخاص استكمالُ الأماكن التي لا يوجد فيها نظام، ولا ينبغي توقُّع قيام الأشخاص بملء هذه الأنواع من الفراغات، وإلا سنكون عندها صناع للفوضى كما هو حالنا هذه الأيام.
كمؤسسات، نتطلع باستمرار إلى التقدم سواءً كان ذلك في النمو أو الربحية أو الكفاءة أو حتى بالنهوض بالأمة وانتشال الناس من الفقر والجهل ورفع الظلم وتحقيق العدل والازدهار، ولكن ما لم نفكرْ به من منظور الأنظمة مقابل الأشخاص؛ بأننا سوف نحقق نهوضنا فقط عندما نصنع أنظمةً ومؤسساتٍ أصيلةً، وليست مستوردةً نجهل أهداف صانعيها وأجنداتهم. هذه الأنواعُ من التطلعات جوهريةٌ ناهيك عن الحفاظ عليها بمرور الوقت، وهذا لا يتأتى إلا بالعلم والعقل مغلفًا بالإيمان والإرادة. ستأخذنا الأنظمة دائمًا إلى ارتفاعات أعلى، لكن رغبةَ الأصالة في تبني أنظمة تدير وتحكم حياتنا تأتي من الإرادة الجمعيّة للناس، وليس تكرمًا من الحاكم؛ لأن الإرادةَ الجمعيّة هي كذلك أطول من عمر حاكم عادل، ذلك لأنها مفهومُ حياة يتطور عبر أجيال وليست نزوةً عابرة.
في النهاية لا تقديسُ النظامِ ولا تقديسُ الأشخاص هو الحل، بل الرهان يجب أن يكون على صناعة وعيٍ جمعيّ، وإرادةٍ جمعية للنهوض وصناعة التغيير. ليس بقدرة أي شخص إبداعُ نظام ومؤسسة فاعلة بغض النظر عن نوعها، فهذا علمٌ تخصصي دقيق، وليس كلُّ فردٍ قادرٍ على خلق نظامٍ ومؤسسة فاعلة له نوايا سليمةٌ وسامية، إيجادُ الخلطة الصحيحة المبنية على قواعدَ سليمةٍ معلنةٍ يُتفق عليها، هي مفتاحُ النجاح في نهضة الأمم التي تريد بحق أن تتحكمَ بواقعها وتصنعَ مستقبلها، وعلينا ألا نتركَه للمؤسسات الدولية والنظام المنتصر دوليًا والذي لم يكن انتصارُه يومًا إلا على حساب المستضعفين، ونحن في مقدمتهم.
جوابًا عن سؤالٍ كيف نصنعُ التغيير في أعمارنا القصيرة؟ فلا يظن القارئ أننا نروج لتكون من النخبة المتخصصة الصانعة للنظام وللمؤسسات فأولئك بطبيعتهم قلة، لكن لك عزيزي القارئ دورٌ أخطرُ من دورهم وهو صناعة الوعي الجمعي الذي يوصل هؤلاء ويراقبهم ويمنع انحرافهم…. وهذا دورٌ لا يمكن أن تصنعَه في صومعتك، أو من خلال سلوكك الفردي فقط، بل بقدرتك على تكوين سلوكٍ جماعيٍّ منضبطٍ بقواعدَ متفقٍ عليها، وهذا يكون بغض النظر عن مقدار علمك وتخصصك، بل يحددُه إخلاصك وإيمانك بدورك في هذه الحياة. يُعَدُّ حزبُ المحافظين البريطاني أقدمَ وأعرقَ حزبٍ سياسي في العالم، ومشهورٌ عنه أنه يضحي بأفضل شخصياته، إذا تعرضتِ المصلحةُ الجمعية للحزب للخطر، وقد فعلها مع مارغريت تاتشر وتيريزا ماي. لذلك إذا خُيرنا بين نخب رائعة ووعي جمعي ناضج، فالميل يكون إلى الوعي الجمعيّ الذي فقدناه منذُ ارتضينا ألا يكونَ لنا دورٌ في حاضرنا ومستقبلنا أي منذ الملك العضوض إلى يومنا هذا! لذلك إذا أردت أن يكونَ لك عملٌ يستمر في ميزان حسناتك حتى بعد مماتك، فهو أن يكون لك دورٌ بحسب إمكاناتك في إرساء مفهوم الوعي الجمعي، وهذا يحتاج إلى قليلٍ من العلم وكثيرٍ من الإخلاص والأخلاق، أما صناعةُ وبناء الأنظمة، فهو يحتاج إلى كثير من العلم ولو قل الإخلاص.