هنالك شكاوى شائعة في أوساط المؤسسات الأكاديمية العالمية لكن هذه الشكاوى تتراوح في النوع والكثافة والانتشار بين المؤسسات الأكاديمية في العالم العربي وبقية العالم، ويمكن إجمال هذه الشكاوى في المنظومة الأكاديمية العربية في عدة مشكلات.
الأولى هي مشكلة البحث العلمي في الجامعات العربية، فهنالك كثافة في المشروعات البحثية المقدمة التي تمثل ثمرة مجهود سنوات تعليمية طويلة لكن دون أن تمثل تلك الأبحاث نواة تطويرية في الحقول المعرفية سواء في العلوم الطبيعية أو الإنسانية، حيث تنتشر هنالك مشكلات شائعة في المؤسسات الأكاديمية التي تعمل في ظل الأنظمة العنفية القمعية، حين يتم تعيين الكوادر الأكاديمية غالباً بتزكيات سياسية وأمنية لا على معيار الكفاءة العلمية، يتبع هذا النوع من التعيينات جملة المشكلات التي يعاني منها حقل البحث العلمي في المؤسسات الأكاديمية العربية، حيث يسود نوع من الإقرار البحثي خارج المعايير العلمية وبناءً على مجموعة العلاقات الزبائنية بين رجال الدولة الأمنية القمعية التي تعلي من المحسوبية والواسطات في إقرار تخطي متطلبات التخرج والبحث العلمي.
هذه المشكلة في بنيوية النظام الأكاديمي المتداخل في رمته مع النظام السياسي الفاسد والقمعي، يعيد إنتاج الوجوه الأكاديمية نفسها التي ترتقي في المؤسسات على حساب الجودة والنوعية في العملية التعليمية برمتها، فخضوع بنيوية النظام الأكاديمي لعلائق وعوائق النظام السياسي القمعي ينتج شخصيات أكاديمية في مؤسسات أكاديمية تابعة للدولة العميقة بحيث تضمن تلك المؤسسات رقابة كاملة على المنتج الفكري والبحثي والمناهج التعليمية في الجامعات بحيث يضمن استمرارية النظام القمعي ويلغي أي محاولات من شأنها أن تحث الطلاب على التفكير بالتغيير بخاصة طلبة كليات العلوم الإنسانية.
تضمن مؤسسات الدولة الأمنية القمعية استقرار منظومة القمع من خلال إحكام السيطرة على المؤسسات الأكاديمية وتحويل بنيتها إلى بنية مساندة للنظام الأمني القمعي حيث تنتج تلك المؤسسات أجيال خاضعة مستسلمة للنظام العنفي القائم من خلال طرح الشخصيات الأكاديمية التسلقية والجبانة وغير المشتبكة مع مشكلات مجتمعاتها كوجوه تغيير للمرحلة بكل تحدياتها، بذلك يكون النموذج الدارج أمام جيل من الطلاب والوصفة الجاهزة للترقي السهل هو الانخراط في المنظومة الأمنية القمعية والرضوخ لمتطلباتها الفاسدة والمفسدة في بنية النظام الأكاديمي مما ينتج حالة من الضغط والعوامل الطاردة للعقول الأكاديمية التي تغرد خارج هذه المنظومة وتعيش مجهوداتها في الترقي ولا تعتمد المفسدة الدارجة كمخرج طوارئ، بالتالي تفضل تلك العقول الهجرة على مجاراة النظام الفاسد والمقاومة ضد تيار أكاديمي يعد امتدادا للنظام السياسي الأمني القائم.
المشكلة الثانية: مشكلة المحدودية الاقتصادية ومحدودية الموارد: تعاني المؤسسات الأكاديمية في دول القمع والاستبداد من امتداد الأزمات الاقتصادية والمديونية العامة لها، فيلاحظ على تلك المؤسسات محدودية مواردها في دول قمعية وعميقة تفرد ميزانياتها الأكبر للقطاع الأمني وشراء السلاح، وتقدم فتات الميزانيات لقطاع التعليم ولدعم المؤسسات الأكاديمية، عدا عن المشكلات الاقتصادية التي تعانيها شرائح مختلفة من الطلاب بسبب سوء النظام التعليمي العام والذي لا يقدم أي مساعدات للطلاب فيتركهم في ذلك عرضة للانكفاء عن العملية التعليمية والانصراف لسوق العمل مبكراً وهذا التوقف بحد ذاته كفيل بتعطيل أعداد هائلة من الطلاب أصحاب الكفاءات الذين لا يمتلكون مصدرا للدعم المادي لإكمال مسيرتهم الأكاديمية، بذلك يتم استنزاف جزء كبير من الطاقات في بداياتها وقتلها مع انخراطها في مجالات لا يمكن أن توظف إمكانياتها الذهنية وقدراتها في مجراها الذي يخدم حركة تطور مجتمعاتها.
المشكلة الثالثة: مشكلة سيطرة النظام الاجتماعي والديني الطائفي على مخرجات العملية الأكاديمية: يعاني كثير من الطلاب في المجتمعات التي ترضخ لسلطة العادات والتقاليد والطوائف وثقافة العيب الاجتماعي لمسألة تثبيط لمجهوداتهم الفكرية وما يتحصلوا عليه من مسيرتهم الأكاديمية سواء كان ذلك بمبادرة ذاتية منهم أو بفضل بعض الأساتذة الذين يخرجون عن منظومة الرضوخ لأنظمة القمع، فيخرج الطالب لسوق العمل أو يعود لدائرته الاجتماعية الضيقة ليعيد إنتاج المنظومة نفسها مع إهمال كل ما تعلمه وما من شأنه التصادم مع منظومة العادات والتقاليد وما يتبعها في المنظومة الاجتماعية والطائفية، وبذلك تعاني المجتمعات من نقلة بطيئة في التطور ومحاكاة مشكلاتها الحقيقية بعيداً عن المحظورات الاجتماعية والثقافية.
المشكلة الرابعة: العدد على حساب النوعية: تعاني الجامعات العربية التجارية منها على الأخص من وفرة الخريجين في كل الحقول على حساب نوعية المعرفة التي قد تقدم لهم خلال فترتهم التعليمية، كذلك في وفرة خريجي كليات الدراسات العليا من جميع التخصصات على حساب النوعية والجودة، حيث انتشرت ظاهرة التجارة بالأبحاث العلمية في أسواق أكاديمية توفر خدمات كتابة رسائل الماجستير والدكتوراه ومشاريع التخرج للطلاب، ما يحدث حينذاك أن كثرة الرسائل الجامعية المقدمة في تلك الجامعات تحول دون الاطلاع الدقيق على محتويات الرسائل الجامعية المقدمة ومقارنتها بأسلوب الطالب نفسه، حيث انتشرت ظاهرة إقرار رسائل جامعية مسروقة وأخرى يتم تسوقها في أسواق الورق التي غالباً ما تعمل في محيط الجامعات ويعلّم في نشاطها أساتذة الجامعات من أصحاب الاختصاص ويتغاضون عن نشاطها بسبب علاقات تجارية وزبائنية تربطهم مع بعضهم البعض في الدولة الأمنية العميقة التي تلقي بظلالها الثقيل على تفاصيل العقول، وتسعى لضمان قمع أي نواة فكرية قد تحرض على وضع نهايات لتلك المنظومات الفاشلة.
انتشرت في المؤسسات الأكاديمية في ظل أنظمة القمع هذه المشكلات وأكثر، وحولت جامعات عربية لساحات منازعة نفوذ للأطراف السياسية حيث يود كل طرف سياسي تثبيت حاشيته الأكاديمية في تلك المؤسسات لضمان غطاء أكاديمي لحالة الفساد السياسي المعلن وحتى تسير تلك المؤسسات على إيقاع النظام السياسي القائم نفسه، فقد سبق وشغل رئيس وزراء فلسطيني منصبه مع منصب رئاسة جامعة في الوقت نفسه.
كذلك الأمر حين تصدرت فضيحة رئيس جامعة القاهرة محمد عثمان الخشت في نيسان عام ٢٠١٩ الرأي العام، وظهر الخشت في فيديو خلال حفل غنائي بالجامعة، معلناً عن “مفاجآت” للطلاب وتسهيلات على التخرج وهو يهتف “تحيا مصر”، الأمر الذي اعتبره معارضون مصريون “رشوة” من الجامعة للطلاب للتصويت لصالح التعديلات الدستورية التي تسمح بتمديد حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي حينذاك، الذي عادة ما يستخدم هتاف “تحيا مصر” في خطاباته.
أيضا تعد الجامعات السورية في عهد حافظ الأسد ذات أدوار تكاملية مع مجهودات الدولة الأمنية العميقة حيث عانت من سطوة المنظومة الأمنية على مدخلاتها التعليمية لضمان استمرارية فكرة القائد الخالد والمعلم الأول للجمهورية السورية، واستمر تعرض المؤسسات الأكاديمية السورية لعملية توجيهية تسيطر على تفاصيلها وتمنع الأساتذة والطلاب عن انتقاد النظام القائم بل الترويج له على أنه أفضل ما يمكن أن تكون عليه المؤسسات التعليمية، وخيم شبح الطالب عنصر الأمن كذلك الأساتذة عسس النظام الحاكم على عملية التعليم داخل تلك المؤسسات، مما خلق حالة من إعادة إنتاج العقول الخائفة من التغيير والراغبة في الحفاظ على الوضع القائم واستمر الأمر عند مجيء خليفته بشار.
في المنظومات الأكاديمية القائمة على تلك البنى لا بد من ثورة أكاديمية في المؤسسات الأكاديمية تكون موازية مع الثورة السياسية والاجتماعية، لا يمكن أن يعاد تصويب دور تلك المؤسسات بعيدا عن تصويب النظم القائمة برمتها بجانب التعامل بشكل صارم مع الانتهاكات البحثية التي يقترفها الطلاب، كذلك التي يقترفها الأساتذة الجامعيين من أجل الحصول على ترقيات أكاديمية، حيث يتم نظام الترقيات الأكاديمية ليس وفق المجهودات البحثية المحكمة وإنما على أساس الارتباطات والعلائق بين المؤسسة الأكاديمية والسياسية، كذلك يجب أن يتضمن قانون الجامعات منظومة قواعد سلوكية يتم على أساسها أيضاً عدم الاستغلال البحثي للطلاب من قبل الأساتذة وعدم توظيف الأساتذة لسلطتهم الأكاديمية من أجل استغلال طلابهم بحثياً أو من أجل خدماتهم الخاصة، حيث انتشرت ظاهرة تجميع الأساتذة للأبحاث الأكاديمية لألمع طلابهم وتقديمها لحصولهم على الترقيات الأكاديمية.
المؤسسات الأكاديمية العربية لا يمكن أن تؤدي مهامها الوظيفية والتغييرية تحت النظم القمعية الحاكمة ووفق مشكلاتها البنيوية التي تفتك في أروقتها من محسوبيات وواسطات وترقيات المحاصصات السياسية، وضمن منظومة الاقتصاد الذي يخضعها لمشكلاته وارتباطاته السياسية، ولا بد من عملية تغيير شامل تستهدف إسقاط البنيات القمعية حتى يمكن للمؤسسات الأكاديمية أن تنهض بكفاءاتها بعيداً عن خضوعها لأدوار تكميلية في المنظومات العقلية عن طريق إعادة إنتاج العقول التي تقصي الفكر النقدي والتفكير والتفاكر والجدل والتجادل في ما يواجهها من ظواهر سياسية واجتماعية وثقافية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا