من الصعب أن تجد بين السوريين من كان لا يحتفي، في 17 أبريل (نيسان)، بذكرى يوم الاستقلال وجلاء المحتل الفرنسي عن أرض الوطن، وقد درجت العادة أن يتجلى الاحتفاء في مدينة دمشق مثلاً، بتنظيم رحلات مدرسية وشبابية أو نزهات عائلية إلى روابي ميسلون حيث يرقد يوسف العظمة، لكن، الآن، تبدو غالبيتهم غير مكترثة بهذه المناسبة، وكأن الحديث عن الاستقلال والخلاص من مظالم الاحتلال لم يعد يعنيها، وهي التي ذاقت الأمرين مما هو أشد وطأة وقهراً على أيادي شركائها في الوطن، حتى بدا أمراً مألوفاً أن تسمع كلمات تترحم على أيام الاستعمار، في معرض إدانة الواقع القائم وإظهار حقيقة أن حيوات البشر وحقوقهم لم تصل على يد الأجنبي إلى هذا الحد من الانتهاك والاستباحة.
لكن، ما الذي بقي من الاستقلال؟ يعترضك السؤال بعفوية ومرارة، تحدوه حقائق عما جرى من هتك لسيادة الدولة السورية وقرارها المستقل، عن تعدد القوى الخارجية التي استجرّتها أطراف الصراع إلى البلاد، عن التفريط في وحدة الوطن وتسهيل استباحته وتطويع مكوناته في صراع النفوذ بين مختلف الأطراف الإقليمية والدولية على المنطقة. الأمر الذي لم يقف عند الحضور السياسي والعسكري الفاضح لداعمي السلطة، روسيا وإيران، وميليشياتها، بل امتد ليشمل تدخلاً أميركياً ما يزال يحاول الإبقاء على نفوذه في مناطق مهمة من شرق البلاد، وسبقه التمدد العسكري التركي وما انتزعه من مواقع على طول الشريط الحدودي، ليغدو الشعب السوري في يوم استقلاله كأنه أمام مهمة وطنية ملحة تقتضي إخراج قوى الاحتلال الجديدة من البلاد.
وأيضاً، أين صار الوطن الذي يفترض الاحتفاء باستقلاله؟ أهو في ذاك المشهد الذي لا يصدق من شدة الدمار وأعداد الضحايا والمغيبين قسرياً والمعتقلين والمشردين، وما خلفه العنف المنفلت من انزياحات واسعة ولنقل انهيارات في منظومة القيم والمبادئ الوطنية، التي حوربت وهتكت بكل السبل، أم فيما حصل بين المكونات الوطنية من شروخ وعداء، وتجذر الاستقطابات الثأرية والإقصائية، وما كرسته من تخندقات حادة وتغذية للعصبيات وأثمان تدفع من حساب تعايش الشعب الواحد ومستقبله ومقومات استمراره، منذرة بتفكيك هويته الجامعة وأسس العيش المشترك، ودفع المجتمع إلى روابط ما قبل سياسية، وما قبل مجتمعية، تجلت بعودة كل مكون اجتماعي إلى أصوله كي يضمن بعضاً من الحماية والوجود الآمن؟
ثم أي معنى للوطن واستقلاله يبقى عند سوريين يتعرضون لقمع تمييزي ويرون بعيونهم كيف تحولت دولتهم من سلطة عمومية لإدارة مصالح مختلف الفئات إلى أداة لحماية أصحاب الحكم والامتيازات وتسعير حربهم على المجتمع، أو حين يلمسون كيف تقتل هذه السلطة غنى المجتمع الإثني والديني والمذهبي عبر محاولات التغيير الديموغرافي التي تجري على قدم وساق، مسهلة استيطان المهاجرين من الميليشيات الإيرانية الذين احتلوا؛ حيث تمكنوا، البيوت وأراضي العائلات الهاربة من جحيم الحرب؟ وأيضاً أي معنى للوطن واستقلاله حين يحظى السوريون بمعارضة رفعت علم الاستقلال ربما كي تؤكد رغبتها في العودة إلى الجذور الوطنية، لكنها سرعان ما انزلقت بدورها لطلب العون والنجدة من أطراف خارجية وارتهنت لإملاءاتهم واشتراطاتهم، زاد الطين بلة انتشار الشعارات الإسلاموية المتطرفة وتمكن بعض القوى المذهبية من تشويه المجتمع والعبث بمكوناته وفرض منطقها البائد بالقوة والغلبة من دون اعتبار لحقوق البشر وحرياتهم وخياراتهم؟ واستدراكاً، أي معنى للوطن واستقلاله لدى ملايين اللاجئين الهاربين من أتون العنف، وهم يراقبون من وراء الحدود خراب أرضهم وممتلكاتهم، ويتحسرون بحرقة وألم على حياتهم الضائعة، أو عند من لم يعرف وطنه من مئات ألوف الأطفال الذين غادروا ديارهم صغاراً أو ولدوا في بلاد الغربة من دون انتماء وهوية؟
حزن السوريين في يوم الاستقلال على ما حل بوطنهم عميق، وقد فقد قراره الحر وبات مسرحاً لتدخلات عسكرية خارجية تتنافس على تطويع مكوناته واستثمار الصراع الدموي فيه لتحقيق مراميها، وقلق السوريين عميق أيضاً من احتمال تطور الصراع نحو الإيغال في التقسيم الجغرافي تبعاً لمناطق النفوذ أو المحاصصة العرقية والطائفية، ليس فقط لأن ذلك يتعارض مع أبسط مبادئ الاستقلال، بل أساساً بدافع من رغبة صادقة بوقف دوامة الأحقاد وحمامات الدم، ولأنهم يعرفون جيداً المصير البائس الذي ينتظرهم إذا ما فشلوا في بناء وحدة وطنية واجتماع ديمقراطي يحتضنان تنوعهم وتعدديتهم.
صحيح إنهم سوريون من أفشلوا مشروع الاستعمار الفرنسي بتقسيم بلادهم إلى 5 دويلات، وحافظوا عليها كياناً واحداً تحت الانتداب، وصولاً إلى الاستقلال، وهم السوريون أنفسهم الذين حاولوا تعزيز بناء دولتهم وبلورة شخصية وطنية جامعة، وتمكنوا في محن سابقة من الحفاظ على تماسكهم، وسارعوا ما أن مرت السنوات العجاف إلى العض على الجراح وتجاوز ما حصل من عنف ودماء لتأكيد تعايشهم في إطار وحدتهم الكيانية والسياسية، وهم السوريون أيضاً الذين باتت توحدهم معاناة قهر مشتركة، أياً كانت نوعية الظالم، كما تعضدهم شروط حياة بائسة وتسير، أينما كانوا، نحو التردي، يوماً تلو آخر، وكذلك هم من يوحدهم التوجس من حاضر غامض ومن مستقبل مفتوح على الأسوأ؛ حيث لا حلول عملية مرتقبة توقف دوامة الفتك وتضع البلاد على سكة المعالجة السياسية، ما دام النظام يستمر في خياره العنفي حتى آخر الشوط، ويرفض أي تسويات، وما دامت المعارضة السياسية تعجز عن تجاوز ضعفها وتشتتها واجتراح الحلول، وما دام ثمة مجتمع دولي لا يزال يأنف التوافق لإخراج البلاد من محنة طال أمدها.
ويبقى أن نظرة متأنية في يوم الاستقلال لما آل إليه الوطن السوري، تعيد تأكيد حقيقة أن جلاء المستعمر ليس سوى عتبة الإقلاع نحو الاستقلال الناجز، وأن المعنى الحقيقي للاستقلال يتأتى مما درجت تسميته الاستقلال الثاني الذي ينهي ظواهر العنف والقهر والتمييز واندفاعات التعبئة الآيديولوجية العمياء، ويكرس قيم الحرية والمساواة وبناء دولة المواطنة، كطريق مجربة لتمكين المجتمع من امتلاك قراره المستقل ولحضّ مختلف مكوناته على تجاوز حساباتها الضيقة وجعل انتمائها إلى الوطن هو الأقوى والأرقى، ومن دون ذلك سيبقى الوطن السوري في مصافّ المجتمعات الضعيفة والهزيلة، وربما الآيلة للتفسخ والانحطاط!
المصدر: الشرق الأوسط