المشاركة السياسية المزيفة في سورية
تفترض هذه المقاربة أن المشاركة الحرة والمبدعة في الحياة العامة وفي حياة الدولة شرط إمكان المواطنة؛ وبصفتها هذه، هي شرط إمكان التحرر من “القصور الذاتي” (التخلف أو التأخر)؛ أي إنها شرط ارتقاء الأفراد والجماعات، ومن ثم ارتقاء المجتمع المعني، وليكن المجتمع السوري، في مدارج العمومية، إلى المعاصرة والكونية، والمشاركة الإيجابية في المعرفة والثقافة الإنسانيتين، وفي القيم الإنسانية العامة، فليس التأخر أو التخلف سوى عدم القدرة على المشاركة، في المعرفة والثقافة الإنسانيتين، أو عدم إرادة المشاركة، لأنها تفترض وجود آخر مختلف. ولقد أشرنا مرارًا إلى أن الإنسية شرط إمكان الوطنية اللااثنية واللاإمبريالية والمناهضة للعنصرية والتعصب الديني، وأن الإنسانية والمواطنة صفتان لا تقبلان التفاوت والتفاضل. فلا يستقيم أن يكون أي شخص إنسانًا أكثر أو أقل من غيره، ولا يستقيم أن يكون أي شخص قانوني مواطنًا أو مواطنة أكثر أو أقل من غيره/ـا (الشخص أنثى وذكر، وكذلك الفرد والإنسان).
تعلمنا تجربة نصف القرن الماضي، في سورية، أن نظام الحزب القائد والجبهة الوطنية، والديمقراطية الشعبية، والانتخابات الزائفة، كان واجهة سياسية لبنية تسلطية متخلفة وتافهة[1]، قوامها عسكر ومخابرات، وأيديولوجية عنصرية، وإعلام كاذب. فقد أدى هذا النظام، الذي احتكر جميع مصادر السلطة ومصادر الثروة ومصادر القوة لمصلحة عصابة من القتلة واللصوص، إلى إغلاق أي فرصة لمشاركة المواطنات والمواطنين في الحياة العامة مشاركة حرة ومسؤولة، سواء بتزييف الانتخابات المحلية والتشريعية والنقابية والحزبية، وتزويرها، أو بتضييق مراكز القرار كافة إلى الحدود القصوى، واحتكارها، حتى اقتصرت على رأس النظام وأتباعه. وما كان ليستطيع ذلك لولا السيطرة المحكمة على جنين المجتمع المدني وخنقه، وإلغاء عمومية مؤسسات الدولة، وجعلها “إقطاعات” خاصة للمحاسيب، وتدمير رأس المال الاجتماعي، ومنظومة القيم الأخلاقية.
فمن الصعب تفسير البنية التسلطية، في سورية وغيرها، بمعزل عن المركزية المفرطة في رسم السياسات واتخاد القرارات، على جميع الصعد، وتسليم مقاليد الإدارة، بمختلف مستوياتها، للأكثر فالأكثر ولاء، من رعاع الريف وحثالة المدن، وهؤلاء هم الأكثر قابلية للفساد والإفساد، والاستهانة بحريات الناس وحقوقهم وكرامتهم وحياتهم أيضًا. ولم يكن ذلك ممكنًا لولا إلغاء جميع أشكال التوسط بين الفرد و”الدولة”، أو شل فاعلية هذه الأشكال، وتحويلها -بنيويًا ووظيفيًا- إلى بنى سلطوية موازية للأجهزة الأمنية، وهذه حالة تعرفها جميع السوريات ويعرفها جميع السوريين عن كثب، وقد تعايشنا مع هذه الهندسة الاجتماعية الفظة مدة نصف قرن ونيف. حيث إن إلغاء أشكال التوسط بين الفرد والدولة يعني إلغاء جميع أشكال المشاركة، وجميع أشكال الحماية الاجتماعية، بعد إلغاء الحماية القانونية، وجعل الأفراد عزَّلًا ومُفردين في مواجهة آلة القسر والإكراه والقمع. وهذا يعني تذرير المجتمع، وتطعيم العلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات بالخوف والتوجس والارتياب والتجنُّب أو عدم الثقة وعدم الاحترام. فلا يمكن لمجتمع أن يحافظ على تماسكه وقوته إلا إذا توسطت بين الدولة والفرد سلسلةٌ كاملة من تنظيمات المجتمع المدني المساندة (والحامية) القريبة بما يكفي من الأفراد لاجتذابهم إلى فلك عملها، وإدماجهم، من ثم، في مجرى الحياة العامة، بصفتها الحياة النوعية أو الإنسانية.
فقد تبين باكرًا أن نسبة الأصوات، التي كان ينالها حافظ الأسد، في كل استفتاء على رئاسة “الجمهورية”، وما من جمهورية، أو التي ينالها وريثه، هي نفسها نسبة تآكل الدولة الوطنية، وتموُّت المجتمع المدني، وقوة رعاع الريف وحثالة المدن، الذين أطلق النظام أيدي بعضهم على بعض، في الأحزاب والمنظمات الشعبية، وفي مؤسسات الدولة، بما يشبه “حرب الكل على الكل”، التي أنتجت تنافسًا ضاريًا على الولاء، وأطلق أيدي “الواصلين” منهم في الثروة الوطنية، والمال العام، فأسس الاصطفاءَ الاجتماعيَّ و”إعادة الإنتاج”، أي إعادة إنتاج النظام التسلطي، على مبادئ الولاء والوشاية والكيد والانتقام والإكراه والكراهية.
بهذا وبغيره، يكون نظام البعث وسلطة الأسد قد دمرا رأس المال الاجتماعي السوري، بتدمير الثقة المتبادلة بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية و”المنظمات الشعبية”، وتدمير الثقة بالدولة ومؤسساتها، وهدر الحريات والحقوق الخاصة والعامة، وقمع أي شكل من أشكال التعاون والتواصل الإنساني الخلاق، وقد حال ذلك، ولا يزال يحول، دون توافق الأفراد والجماعات، ولو على وصف الواقع القائم، ناهيكم عن شروط تحسينه أو تجاوزه؛ ما يعني أن التذرر أو التنثر المجتمعي، وما ينجر عنه من انحطاط أخلاقي، قد بلغا ذرى غير مسبوقة، عبّرت عنها حرب التدمير الذاتي، التي لا تزال مستمرة.
فلعل الهندسة الاجتماعية المتوحشة والهندسة الثقافية والسياسية والأخلاقية أيضًا، الناتجة من آليات “الاصطفاء الاجتماعي”، وفقًا لمعايير الولاء الحزبي والاثني والديني والمذهبي والعائلي والشخصي.. وآليات إعادة إنتاج النظام، على نحو يجعله أكثر توحشًا وتفاهة مرة تلو مرة، نتيجتان كارثيتان من نتائج عدم تمكن المواطنين والمواطنات من المشاركة الحرة والمبدعة في الشؤون العامة وفي حياة الدولة، ولا تزال آثار هاتين النتيجتين قائمة ومرافقة للسوريين والسوريات حتى في مخيماتهم وملاجئهم.
المشاركة، في مغزاها الأعمق، الذي تستند إليه المشاركة السياسية، هي مشاركة الفرد في النوع، على الصعيد الوجودي (الأنطولوجي)؛ أي إن الفرد، أيّ فرد على الإطلاق، يحمل جميع خصائص النوع الذي ينتمي إليه؛ والفرد الإنساني (الأنثى والذكر) يحمل جميع خصائص النوع الإنساني، ويموضعها في العالم وفي التاريخ، بالتعاون والتشارك الحر والمبدع مع الآخرين والأخريات. على هذا المعنى للتشارك الحر، نهضت العمارة الأخلاقية، ونشأت الإنسانيات التي تفتقر إليها ثقافتنا؛ وهي مشاركة الجزء في الكل، والخاص في العام، على الصعيد المعرفي. أما على الصعيد السياسي، فهي ترجمة لحق المواطن والمواطنة في الاقتراع العام والترشُّح لعضوية البرلمان، ولأي منصب في الإدارة المدنية والقضاء، وفق مؤهلاته/ـا العلمية، ومدى كفايته/ـا المعرفية والثقافية والأخلاقية، ووفق مبادئ المباراة أو المسابقة، وتساوي الشروط، وتكافؤ الفرص، ومبادئ العدالة والإنصاف، علاوة على حقه/ـا في مراقبة أداء الحكومة ونقدها ومساءلتها.
جوهر المشاركة، بحسب موسوعة لالاند الفلسفية، هو “أن تكشف لي عملًا يتراءى لي، في لحظة قيامي به، كأنه عملي، وليس عملي في آن. كأنه كلي وشخصي في آن. بدلًا من القول شيمةَ العامة: إننا جزء من العالم، سنقول إننا نشارك في العملية التي لا ينقطع العالم عن القيام بها (نشارك في إنتاج العالم).. فلا توجد مشاركة في كون متحقق، متكوِّن، يمكنها أن تجيز لنا إطلاقَ مثل هذا القول بامتلاكنا جزءًا منه.. فالمرء لا يشارك إلا في عمل هو في طريقه إلى التحقق، لكنه يتحقق فينا وبنا أيضًا، بفضل عملية أصلية”. وعلى الدوام، تحتفظ المشاركة في ذاتها بطابع شخصي، لا لأنها تفترض فعل الشخص فقط، بل لأنها تصلنا بكائن آخر حي وعيني، نعترف بحضوره في كل مكان، ونكوِّن معه جماعة، ونعقد أواصر صداقة، بدلًا من وصلنا بمبدأ كلي ومجرد”[2].
تتبدى لنا، في هذا التعريف الفلسفي والنصوص التي تؤيده، القيمةُ المعرفيةُ والأخلاقيةُ للمشاركة، التي نعتقد أنها الدلالة الأعمق والأهم لمفهوم الفاعلية/ الانفعالية الاجتماعية والسياسية، إذ يقوم الشخص (الرجل والمرأة) بعمل يتراءى له بأنه عمله الشخصي الخاص، وليس عمله الشخصي الخاص في الوقت ذاته. أي إن العمل في الحقل العام، من أجل منفعة عامة، هو عمل كلي وشخصي في الوقت ذاته. فالمشاركة هي الرابطة التي لا تنفصم بين الفردي والكلي. نذهب، في هذا السياق، إلى اعتبار القابلية للمشاركة واحدةً من الخصائص الوجودية للإنسان، وأساس ممكناته المعرفية والأخلاقية، على اعتبارها مشاركة في الوجود الإنساني، الذي تختلف أشكاله من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر. فالكينونة الإنسانية، كينونة الفرد الإنساني، في جوهرها، هي مشاركة، في الوجود، متساوية أنطولوجيًا، ومتكافئة أخلاقيًا. فليست كينونة الفرد الإنساني سوى حرية فاعلة في الوجود. وليست أفعال الإنسان في الإرادة والفكر والحب سوى التعبير التاريخي عن أثر هذه الحرية في الكينونة الإنسانية.
“بين المعرفة والعمل أو السلوك روابط وثيقة، بها يخضع العمل أو السلوك للمعرفة؛ فلا يكون العمل إنسانيًا خالصًا إن لم يأت نتيجة معرفة واسعة تستوعب الأسباب الدقيقة، ونتيجة حرية اختيار ترتفع على أسس هذه المعرفة؛ وبذلك تضحي المعرفة والحرية شرطي العمل الإنساني القويم[3]. ربما تكون قد اتضحت العلاقة الضرورية بين المشاركة والمواطنة، وكون المشاركة شرطًا لازمًا لإمكان التحرر من “القصور الذاتي”، والارتقاء المطرد في مدارج العمومية ومراقيها: من الأسرة أو العائلة إلى الجيرة فالحي فالبلدة أو المدينة فالمجتمع والدولة، فالجماعة الإنسانية، بلا تراخٍ، بل لعل المشاركة الحرة والمبدعة، بالمعاني التي أشرنا إليها، شرط لازم للاستقلال الذاتي والتمكن الكياني للمرأة والرجل على السواء.
بقي أن نقول: إن لغتنا تعلمنا أن المشاركة في أي أمر أو فعل غير الاشتراك فيه؛ إذ المشاركة ذات طابع ديناميكي، تفاعلي، تقتضي الثقة والتعاون بين أفراد أحرار وحرائر، مستقلين ومستقلات، وتقتضي التكافؤ، في الجدارة والاستحقاق؛ أما الاشتراك فذو طابع إستاتيكي، سكوني. المشاركة لا تكون إلا في عمل يحتاج إلى إنجاز، بالتعاون مع آخرين وأخريات، كما تقدم، أو في قرار يحتاج إلى اتخاذ، بالتشاور والنقاش والحوار، أما الاشتراك فلا يكون إلا في أمر مُنجَز أو مؤسسة قائمة. لذلك نفرِّق بين المشاركة، التي تؤسس المواطنة المتساوية، وبين الاشتراك السلبي أو الهامد، الذي تبنى عليه مقولة “العيش المشترك”، التي يتلمظ بها زعماء الطوائف والعشائر والاثنيات، والتي تنفي استقلال الأفراد وحريتهم، وتهدر إنسانيتهم، وتفترض أنهم كالأنعام، التي “تتمتع” بالعيش المشترك في مراعيها وحظائرها، في كنف الرعاة ورعايتهم.
[1] – الحكم بالتفاهة، على النظام التسلطي السوري، ناتج من مقارنة ضمنية بالتسلطية الستالينية أو النازية، لأن ثمة خصائص مشتركة بين هذه النظم الثلاثة، وأمثالها.
[2] – أنديه لالاند، الموسوعة الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت – باريس، الطبعة الثانية، 2001، ص 944 – 945، بتصرف.
[3] – راجع/ي، مجموعة من المؤلفين، الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان، تحرير مشير باسيل عون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2017، ص 286.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة