حرص البيت الأبيض الأمريكي في بيانه الخاص بتصفية زعيم داعش أبو إبراهيم الهاشمي القرشي واسمه الحقيقي ” أمير محمد سعيد عبد الرحمن المولى” ويكنى ب” عبد الله قرداش” على إظهار أن العملية التي نفذتها القوات الخاصة الأمريكية في محيط أطمة بريف ادلب ليل الخميس 3 / 2 / 2022 كانت بأوامر مباشرة في الرئيس “جو بايدن”، وأنه تابع من الغرفة الخاصة مجرياتها الميدانية عبر الفيديو، كما حرص على التأكيد أنه تم خلال انجاز هذه المهمة الحرص على تجنب وقوع إصابات بين المدنيين، وقال البيان إن العملية جاءت “لحماية الأمريكيين وحلفائهم وجعل العالم مكانا أكثر امنا”. وحرص البيان أيضاً على تأكيد أن أحداً من الجنود الأمريكيين الذين نفذوا العملية لم يصب، مع الاعتراف بأنه تم تدمير مروحية في الهجوم بعدما أصابها خلل فني.
واتفق المتابعون على أن عملية “أطمة ” فيها محاكاة شبه كاملة للغارة على التي نفذتها القوات الخاصة الأمريكية فجر يوم الاثنين 2 مايو 2011 في “أبوت” بباكستان مستهدفة زعيم القاعدة أسامة بن لادن. وبينما كان الإعلان أنه تمت تصفية بن لادن خلال الهجوم، فإن البيان الأمريكي شدد على أن زعيم داعش فجر نفسه وإحدى زوجتيه رافضا الاستسلام، كما فجرت الزوجة الثانية نفسها مع أولادها، وأن اشتباكات عنيفة وقعت خلال تنفيذ المهمة، وفي المحصلة قتل في الهجوم 13 شخصا بينهم من بينهم ستة أطفال وأربع نساء.
هذه هي الرواية الأمريكية في تصوير انجاز المهمة، ولم تظهر بعدُ رواية أخرى، وقد تكون الرواية صحيحة، ومن حق المتابع أن يتوقع وجود تفاصل في العملية لم يتم الكشف عنها، لكن في الرواية ثغرة رئيسية لا بد من التوقف عنها، وهي ما أشير إليه من أن زعيم داعش فجر نفسه مع زوجته الأولى، وأن زوجته الثانية فجرت نفسها مع أولادها، ومثل هذه الرواية لا تستقيم مع سلوك المعروف لقادة وعناصر داعش الذين يحرصون على إيقاع أكبر الخسائر بأعدائهم، وأن “الانتحار” ليس من صفاتهم، وأن ما يلجؤون إليه في اللحظات الحاسمة هو تفجير النفس بالخصوم. وقد تأكد أن معركة كبيرة وقعت في محيط منزل زعيم داعش، استخدمت فيها المدفعية المضادة للطائرات المهاجمة، والطائرات بدون طيار، والمروحيات التي كانت تحمل القوات الخاصة، ووفق شهود محليين فقد استمرت المعركة لنحو ساعتين.
كذلك فإن القول بحرص القوات الأمريكية المهاجمة على تجنب المدنيين قول فيه الكثير من الادعاء، فلم يعرف عن القوات الأمريكية حرصها على المدنيين أو النساء أو الأطفال، وأفعال هذه القوات، سواء كانت جوية أو برية في أفغانستان، وفي العراق، وقبل ذلك في أماكن عدة شاهد على أن هذا الأمر لم يكن مما تراعيه هذه العمليات، وأن سلامة القوات المهاجمة من جهة وسرعة انجاز المهمة من جهة أخرى هو ما يحدد “مجريات المعركة”، وقوة وكثافة النيران فيها.
أهمية تصفية القرشي
لا شك ان تصفية زعيم داعش الذي تسلم مسؤولية هذا التنظيم عقب مقتل سلفه “أبو بكر البغدادي” في غارة جوية في مارس 2019 استهدفته في مكان إقامته في قرية “قاريشا” ـ على مسافة نحو 25 كيلو مترا من موقع هجوم الخميس ـ يمثل إنجازا للقوات الامريكية ولحربها وحلفائها المستمرة تحت عنوان “مكافحة الإرهاب”.
وحِرصُ الرئيس بايدن على توكيد أن العملية نفذت بأوامر مباشرة منه، وبمتابعة ميدانية منه عبر الفيديو، يستهدف فيما يستهدف إظهار إنجاز إدارته في الوصول إلى الهدف، وتسجيل نصر لها، وهو ما حرص على فعله الرئيس الأسبق باراك أوباما في تصفية بن لادن في الثاني من مايو 2011، وكذلك الرئيس السابق دونالد ترامب عقب تصفية البغدادي.
ولا شك أيضا أن المعلومات التي قدمتها أجهزة الأمن العراقية التي تمكنت خلال الفترة السابقة من اعتقال عدد من كبار المسؤولين في داعش، والتي تملك وبلا شك أعين لها في هذا التنظيم ساهمت مساهمة فاعلة في تحقيق هذا الإنجاز الأمريكي، وقد أكدت مصادر امنية عراقية هذا الدور، كذلك ليس هناك ما يمنع من وجود ” تواطؤ ما” ولو صامت بين تنظيم هيئة تحرير الشام، أو جهات فيه، وبين الجانب الأمريكي في هذا الهجوم، إذ ينتشر مسلحو هذه الجماعة في أماكن مختلفة في منطقة “أطمة” الواقعة بين ادلب وعفرين والمجاورة للحدود مع تركيا حيث مخيمات لاجئين، ولما كانت المعركة قد استمرت لساعتين، فإن عدم مشاركة مقاتلي الجماعة في التصدي للقوات الأمريكية يحمل معنى إدراكهم لطبيعة الهدف من هذا الهجوم، وعدم اعتراضهم على الوصول إليه وتحقيقه.
وبالتأكيد ليس هناك أية علاقة بين هذا الإنجاز الامريكي وعملية “سجن الصناعة” في حي غويران بمدينة الحسكة، وهي العملية التي انتهت قبل أسبوع، وبالتالي فليس للقوات “الانفصالية الكردية”، حليفة القوات الأمريكية أي دور في عملية أطمة، فالمعلومات عن مكان اختباء زعيم داعش، والتخطيط للعملية، استغرق وقتا أطول بكثير من زمن معركة سجن الحسكة، لكن هذا لا يمنع ان تكون الاستخبارات الامريكية أو العراقية قد التقطت اتصالا من زعيم التنظيم بأحد رجاله أثناء هذه المعركة ما عجل في تنفيذ الهجوم على مقره.
لكن تصوير البيت الأبيض بأن تصفية القرشي جاء “دفاعا عن الأمريكيين” وأنها بنجاحها “جعلت العالم أكثر أمانا” فيه الكثير من التضخيم، وهذا التصوير ـ إن كان صادقا وليس فقط عملا دعائيا” بروباغندا”ـ فإنه ينم عن رؤية أمريكية قاصرة لطبيعة تنظيم داعش ولمدى خطره، ولمواطن القوة فيه.
وهذا القول كررته الإدارات الأمريكية السابقة مع كل تصفية نجحت بتنفيذها لقيادات من التنظيمات ” الجهادية”، ورددته قيادات أطلسية وأوربية، وفعلت الشيء نفسه أجهزة الإعلام والمحللون والمعلقون في معظم وسائط الإعلام العالمية والعربية، لكن بعض المسؤولين الأمريكيين، وبعض المحللين المعتبرين، ووسائل الاعلام المتزنة كانت تتحفظ في إصدار هذه الاستنتاجات، ولم يكن يمضي وقت حتى تضطر “جوقة البروباغاندا” للاعتراف بأن مقتل هذا “الزعيم أو ذاك”، لم يؤد إلى النتيجة المرغوبة، وأن التنظيم أفرز قيادة جديدة، تتبع طرقا جديدة، وتبث روحا جديدة في هذا التنظيم من شأنها أن تبعث فيه حيوية وفاعلية غير متوقعة.
قوة تنظيم دولة الخلافة الإسلامية ” داعش”
بعد هزيمة تنظيم الدولة وخسارته دولة الخلافة التي أقامها، ظن كثيرون أن نهاية التنظيم ونهاية مشروعه باتت قاب قوسين أو أدنى، ثم لما قُتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي عزز أصحاب هذا الرأي رأيهم، واعتقدوا أن مقتل البغدادي هي الخطوة الأخيرة أو ما قبل الأخيرة لانتهاء داعش، ثم تبين لهم أن هذا التفاؤل وهذا الحكم في غير محله، بل إن التنظيم تحول إلى تكتيك جديد، عوض به عن جغرافية الدولة التي خسرها بجعل كل المناطق التي يتواجد بها هو أو عناصره ” جغرافيا حيوية له”، بما في ذلك تلك المناطق التي تسرح وتمرح بها ذئابه المنفردة، التي تنتشر في مختلف اصقاع العالم، والتي لا يعرف أحد عنها شيئا.
وأثبت هجوم ديالي الذي استهدف يوم 21 / 1 / 2022 أحد مقار القوات العراقية، وهجوم سجن الصناعة في الحسكة يوم 24 / 1 / 2022 أن التنظيم قادر على القيام بهجمات يشارك فيها مئات من مقاتليه، وأن يستهدف مراكز عسكرية ومراكز يحتجز فيها الآلاف من مقاتليه، وأن تكون هذه الهجمات في مناطق تنتشر فيها قوات معادية له من مختلف الأصناف والجنسيات، وكذلك أثبت قدرته على الحركة بحرية في مناطق شاسعة داخل سوريا والعراق، وأن امتداده خارج هذين البلدين في أفريقيا وأسيا يوفر له مساحة من الحركة ومرونة في الانتقال يصعب الإحاطة بها. وتذكر مراكز الرصد أن للتنظيم 12 ولاية غير المركز المتمثل في سوريا والعراق، وتغطي هذه الولايات مساحة ممتدة من المغرب العربي والصحراء الكبرى وسيناء، الى القوقاز وشرق آسيا، مرورا باليمن والصومال وغرب افريقيا، ويتوقع المراقبون ومراكز الأبحاث المختصة أن تشهد المرحلة القادمة هجمات لداعش على مراكز ومواقع مهمة تؤكد كلها حضوره القوي والمتصاعد.
من أين تأتي قوة هذا التنظيم؟
تنظيم الدولة شأنه شأن كل تنظيم عقدي، ترجع قوته إلى عاملين اثنين:
العامل الأول: التأهيل الشخصي لقياداته وكوادره
وهو تأهيل يتمثل بالأساس العقدي، والخبرة التنظيمية والحركية، وعلى عكس ما تحاول “البروباغندا” تصويره فإن قادة داعش وكوادره الرئيسة ليسوا مجموعة جهلة، محدودي التفكير والرؤيا، وإنما هم أصحاب فكر وعلم لا يستهان به، لكنه يمتاز ب”التطرف والغلو وبالتالي بالدموية” ـ وله في تاريخنا نظائرـ، والسجون التي تخرجوا منها، والتجارب التي مروا فيها، صقلتهم بما يكفي ليكونوا قادة فعليين يستطيعون قيادة العمل الفكري والإعلامي والإداري الذي يحتاجه تنظيمهم؟.
ورغم أن فقدان الرئيس / الزعيم / الخليفة / القائد الأعلى، يعتبر أمرا جللا في مثل هذه التنظيمات إلا أن إمكانية تعويضه تصبح متاحة، بل لعلها تفسح المجال لتجليات جديدة في عمل التنظيم لم تكن ممكنة الظهور أو متاحة في عهد القائد السابق أو التشكيلات الجهادية السابقة.
ويعتبر تنظيم داعش أو تنظيم الدولة الإسلامية نتاج تطور الجماعات “الجهادية” في العراق وبلاد الشام المتوالدة منذ الزرقاوي والتي تمايزت تدريجيا وصولا إلى الانفصال التام عن القاعدة، ويبرز من قادتها بعد الزرقاوي أبو عمر البغدادي ومعه أبو أيوب المصري، ثم أبو بكر البغدادي الذي أعلن قيام دولة الخلافة، وآخرهم القرشي، والذي يدقق في التكوين الفكري والتأهيل العملي لهذه الشخصيات سيجد نفسه أمام نماذج من القادة لا يستهان بتكوينهم الفكري والعقدي، فجميعهم خرجوا جامعات شرعية، وتميز أبو بكر البغدادي بحصوله على درجة الدكتوراة، كما لا يستهان بقدراتهم القيادية والنضالية والفنية، فكلهم دخلوا تجربة السجن وأداروا معارك عسكرية على مستو عال من الحرفية، ونفذوا عمليات على عدة جبهات بآن واحد، أما انجازاتهم في مجال الدعاية والاعلام فلا شك بأنها كانت في معظم الأحيان ناجحة ومثمرة لأهداف التنظيم.
ولهذا الواقع لم يكن غريبا ان تشبه وزير الخارجية الأمريكي السابقة كونداليزا رايس المهارات العسكرية للزرقاوي بأنها في مصاف جنرالي الحرب الاهلية الأمريكية “أوليس غرانت، وروبرت إدوارد لي”، والأول صار وزيرا للدفاع قبل أن يصبح في العام 1868 الرئيس الثامن عشر للولايات المتحدة ويعاد انتخابه لدورة ثانية، والثاني من مشاهير الحرب الأهلية الامريكية وقاد جيش القوات الكونفدرالية.
ولهذا الواقع يفهم وصف الكاتب وليام ماكنت مؤلف كتاب ” يوم القيامة تنظيم الدولة: التاريخ والاستراتيجية ورؤية تنظيم الدولة لنهاية العالم ل” أبو بكر البغدادي ” بأنه وسيط بارع، وسياسي لا يرحم”، وأن تطلق وكالات الأنباء على القرشي وصف “البروفيسور والمدمر” وهو الذي قاد المفاوضات مع الجانب التركي في حادث اختطاف موظفي القنصلية التركية في الموصل عام 2014، ومكنهم من العودة الآمنة إلى بلادهم.
العامل الثاني: البيئة الحاضنة
إذا كانت النخبة العقدية الفنية المهيئة تمثل العامل الأول في قوة التنظيم ـ أي تنظيم فإن البيئة الحاضنة تمثل المصدر الثاني الذي لا يقل أهمية عن المصدر الأول، بل إنه يعتبر شرطا لفاعلية العامل الأول، وحين لا يتوفر هذا العامل، تبقى النخبة مجرد مجموعة أشخاص عشرات أو مئات تشدهم الفكرة / الإيديولوجيا، والحلم، لكن لا يستطيعون فعل شيء مؤثر، وتدريجيا ينزوي ويتراجع أثر الأفكار مهما كانت قوية أو مقدسة، وفي خضم أجواء الصراع مع العدو يأكلها الزمن بتجلياته ( الفقر في العضوية، الخلافات، الإخفاقات، والاجتهادات المتباينة في تفسير هذا المآل).
بشكل أولي ومدرسي يمكن القول:
** إن الفقر والقهر الاجتماعي والفساد المالي والاقتصادي وفرت البيئة المناسبة لنمو الأحزاب الاشتراكية والشيوعية وحركات التغيير الاجتماعي.
** وإن التجزئة والضعف الوطني، وتحدي الاستعمار، والاختراق الثقافي والسياسي والهيمنة الخارجية وفر البيئة المناسبة لنمو الشعور القومي.
** وهذا الخنوع لقوى الهيمنة الدولية، وللكيان الصهيوني، ولمشاريعها في تدمير أوطاننا، هذه الطائفية المدمرة التي تضغط بقوة على البنية الاجتماعية في كل بلد عربي، وتعمل على تفتيتها، وهذا الاستهتار بالقيم الدينية الجامعة للأمة، وهذا التعدي بالصوت والصورة على ثوابت الأمة ورموزها وتاريخها، والذي تعج بها وسائل إعلامنا، وهذا الهوان الذي يكتسح كثيرا من علماء الأمة وأعلامها في هذا العصر ليكونوا أبواقا “للسلطان”، وهذا الاستبداد الداخلي غير المسبوق الذي يستبيح كل شيْ، الحياة، والأعراض، والثروات، دون حدود ودون أي وازع.
هذا كله واقع تعيشه الأمة في معظم مجتمعاتها، وهو يمثل عتوا في التطرف يستخدم قوة الدولة وجبروتها، وهو ما وفر البيئة الحقيقية الحاضنة للتطرف المقابل الذي تجسده الحركات المدعوة ب “الجهادية” والذي يعتبر داعش ونظرائه التجسيد الراهن لها، ولأن حال النظام العربي الموصوفة إلى ازدياد فإن نمو داعش وأمثاله إلى ازدياد أيضا.
وفي هذه البيئة لا يثمر كثيرا قتل هذا الزعيم “الجهادي” أو ذاك، ولا يثمر كثيرا زج الالاف من أعضاء هذه التنظيمات في السجون، ومن المؤكد أن هذه السجون تتحول إلى مصادر دعم لهذه التنظيمات، وإلى مدارس لتخريج قادة لها.
خاتمة
والمعركة ضد داعش مظهر من مظاهر الأزمة الحقيقية التي تعيشها مجتمعاتنا، وتعيشها أمتنا، ونحن لو دققنا النظر في البيئة الشعبية العربية لن نجد صعوبة في اكتشاف أن الناس على غير قناعة بشعار” محاربة الإرهاب”، المرتفع كل مكان في العالم، والمقتصر عمليا على مواجهة” تطرف” الجماعات الإسلامية، وأن الناس يرون أن محاربة الإرهاب حقيقة يقتضي مواجهة لإرهاب الدول قبل التصدي لإرهاب الجماعات والمنظمات، وأن الوقوف في وجه عتو الغرب الإمبريالي وعدوانيته، وعتو الحركة الصهيونية وعنصرية كيانها الغاصب، وعتو نظم الاستبداد والطائفية والقتل في سوريا والعراق وإيران والعديد من دولنا العربية والاسلامية، هو الميدان الحقيقي والفاعل في الحرب على الإرهاب، وفي تأمين السلام والأمن على امتداد المعمورة. وهو حين يتحقق سيؤدي إلى تجفيف منابع المنظمات والجماعات الإرهابية وانتهاء فاعليتها، ودون ذلك فستبقى مثل هذه المعارك مفتوحة بلا افق، ومن هذه الزاوية قد يكون استمرار هذه المعارك على النحو الذي نراه مطلوبا لأغراض أخرى تتصل بإجهاض أي فرصة لنهوضنا، والتمكين لمزيد من التخريب لمجتمعاتنا، ولتحقيق المزيد من الهيمنة علينا.