بروتوكولات المختبرات الصيدلانية تحت المجهر
والسباق إلى اللقاح يجري تحت ضغط الزمن والتعبئة الإنتاجية
منذ انطلاقه من عقاله، ما فتئ فيروس “كورونا المستجد” يغيّر الكثير من المُسلَّمات: سرعة انتشار فاقت أي فيروس وجد حتى الآن، طريقة خبيثة في اختراق الرئتين، تأثير غير متوقع في سلوكيات البشر الاجتماعية والاقتصادية في معظم أرجاء المعمورة. أما الطريقة الوحيدة والأكثر فعالية لوقف انتشار هذا الفيروس المميت، فتكمن في تلقيح سكان الأرض بمصل مضاد. وإلى أن يتم إيجاد اللقاح المنتظر، مع نهاية العام الحالي أو نحو ذلك بحسب تقديرات الباحثين، فإنه ينبغي توفر سلسلة من الظروف الموضوعية الصعبة: أداء بحثي- مختبري رفيع المستوى لا تشوبه شائبة، وتجارب طبية- صحية عاجلة، وتعبئة إنتاجية- صناعية عامة لم يشهدها القطاع الصيدلاني في تاريخه.
عادةً ما تستغرق المختبرات الصيدلانية لطرح لقاح جديد تماماً في الأسواق، ما بين 10 إلى 15 عاماً من العمل البحثي الجاد والمتواصل. لكن في ظل الضغوط السياسية والاقتصادية السائدة اليوم لإيجاد ترياق لفيروس “كورونا المستجد”، تعمل هذه المختبرات على ضغط الإطار الزمني اللازم وتقليصه بواقع 90 في المئة. ويبدو هذا التحدي أشبه بـ”مهمة مستحيلة”. مع ذلك، فإن شركات الدواء الصيدلانية العملاقة لا تألو جهداً لاكتشاف لقاح للفيروس؛ فقد بدأت “موديرنا”، وهي شركة لم تطلق منتجاً صيدلانياً من قبل وتتخذ من كامبريدج في ولاية ماساتشوستس مقراً لها، تجارب بشرية على لقاح يستند إلى تقنية حديثة ترتكز إلى “الحمض النووي الريبي” للوقاية من الفيروس. وتعمل عملاقة الصناعة الصيدلانية “فايزر” مع شريكتها الألمانية BioNTech، على تطوير لقاح يعتمد تقنية مماثلة. وتبني شركة “جونسون وجونسون” نموذج- لقاح تجريبياً اعتماداً على دمج لقاحين مضادين لفيروسي “زيكا” و”إيبولا”. فيما تقوم شركة صناعة الدواء الفرنسية “سانوفي” بتكييف تقنياتها المستخدمة عادة لتصنيع اللقاحات المضادة للإنفلونزا، لمعرفة ما إذا كانت قادرة على ردع “كورونا المستجد”.
سرعة غير مسبوقة
بالإجمال، ثمة أكثر من عشرين لقاحاً لفيروس “كورونا المستجد” قيد المراحل الأولى من الاختبار اليوم، بحسب ما تقول “بلومبيرغ” في تقرير أعدته مؤخراً. ويقول كليمان لوين، نائب الرئيس المساعد في سانوفي: “ليست هناك سابقة للسرعة التي تتحرك بها مختبراتنا. فخلال عقدين ونصف العقد من العمل في تطوير اللقاحات، لا يمكنني تذكر حدوث موقف مماثل لما نفعله الآن”. ويتردد مثل هذا الكلام داخل أروقة المختبرات الصيدلانية ومراكز التقنيات الحيوية حول العالم، حيث تتنافس عقول بعض من أكبر الشركات الصيدلانية الدولية على إعادة تكييف وصياغة قواعد وبروتوكولات العمل البحثي، في محاولة لإيقاف أو حتى إبطاء وتيرة انتشار الفيروس. وبالفعل بدأت المختبرات الصيدلانية في تغيير طرائق عملها، لا بل عدَّلت سلوكياتها المالية الانتهازية لتصبح أكثر مسؤولية تجاه المجتمع والبيئة وقواعد الحوكمة. فعلى سبيل المثال، وللمرة الأولى في تاريخها، تتحدث شركة “جونسون وجونسون” عن تطوير لقاح لن تتوخى من ورائه جني أي أرباح.
وقد ولّد مجرد الحديث حول تطوير لقاحات مضادة لفيروس “كورونا المستجد” الكثير من الإثارة، لدرجة أن أسهم الشركات الصيدلانية العملاقة مثل “فايزر” و”جونسون وجونسون” ارتفعت في الأسابيع الأخيرة، وفق نسب كبيرة على عكس السائد في البورصة اليوم، وهي ارتفاعات نادرة لأسهم الشركات العملاقة التي عادة ما تكون عرضة لتقلبات كبيرة. أما سهم شركة “موديرنا” فارتفع بنسبة 75 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. ويمكن اعتبار ارتفاعات الأسهم هذه بمثابة “فقاعة لقاحية”، ذلك أن الباحثين يشككون في الإطار الزمني المعلن من جانب الحكومة الأميركية لإنتاج لقاح والذي يتراوح بين 12 إلى 18 شهراً. وبهذا الصدد يقول سيث بيركلي، الرئيس التنفيذي لمنظمة غافي غير الربحية التي تساعد البلدان النامية على شراء وتوزيع اللقاحات: “للوصول إلى اللقاح المناسب يجب أن يتم الأمر بحسب الأصول. صحيح أن العلم يجترح المعجزات، لكن المعجزات لن تحدث غداً”.
ومع ذلك، فإن الخطوات الأولى لإنجاز اللقاح تسجل قفزات ملحوظة. وعلى سبيل المثال، لفهم الضجة المثارة حول تفوق “موديرنا”، على المرء فهم ما الذي أنجزته هذه الشركة في بضعة أشهر فقط. ففي 11 يناير(كانون الثاني)، عندما كانت قلة من الناس مهتمة بالجائحة في الغرب، نشر العلماء الصينيون التسلسل الجيني لـ”كورونا المستجد” الذي تفشى في ووهان. وقد أخذ باحثو “موديرنا” علماً بذلك. فقد كانوا أول من اكتشف تقنية لقاح جديدة تمكنت من إخماد فيروس كوروني من نوع آخر. وقد كيّف الباحثون تقنيتهم لتتمكن من إخماد “كورونا المستجد”. بحلول أواخر فبراير(شباط) الماضي، عندما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا يزال يهوِّن من خطر الإصابة بـ”كورونا المستجد”، سلّم باحثو “موديرنا” الدفعة الأولى من لقاحاتهم الجديدة المطوّرة للعاملين في “المعاهد الوطنية الأميركية للصحة”. عندما تشظَّى “كورونا المستجد” بقوة في أرجاء الولايات المتحدة منتصف مارس الماضي، تلقت أول متطوعة غير مصابة جرعة تجريبية صغيرة من اللقاح الجديد.
الحمض النووي الريبي
تعتمد التقنية التي تستخدمها “موديرنا” و”فايزر”، والعديد من الشركات الأخرى، على تحفيز خلايا الجسم لإنتاج بروتينات فيروسية. يتكون لقاح “موديرنا” الجديد من مادة وراثية تعمل على فك شفرة “البروتين الشوكي الناتئ” الموجود على سطح “كورونا المستجد” (تلك النتوءات الحمراء في صورة الفيروس المنتشرة في كل مكان). بمجرد حقنه في الجسم، تتغلغل جرعة “الحمض النووي الريبي” داخل الجسم و”تأمر” الخلايا البشرية بإنتاج بروتينات فيروسية مهمتها تحفيز توليد أجسام مضادة للفيروس. يقول ستيفن هوغ، رئيس “موديرنا”: “عندما تحقن ذراع شخص ما بالجرعة المحددة، فإن ما تضخه حقاً هو تعليمات لجسمه لإنتاج آلاف النسخ من البروتين الشوكي الناتئ”.
من الناحية العملية، يمكن تقنية “الحمض النووي الريبي” أن تختصر الوقت اللازم للتجارب، لأنها على عكس اللقاحات التقليدية، لا تشتمل على دفعات مخمّرة من البروتينات أو الجسيمات الفيروسية المعطلة داخل الخلايا الحية، وهي عملية متخصصة تستغرق شهوراً لإكثارها. وإذا كانت تقنية “الحمض النووي الريبي” تبدو غريبة وغير مثبتة عملياً، فهذا لأنها فعلاً كذلك؛ إذ لا يوجد لقاح حمضي نووي معتمد حتى الآن لأي مرض، ولا توجد مصانع تنتجه بكميات كبيرة.
إضافة إلى الرهان على التقنيات الجديدة لتسريع إنتاج اللقاح، تتخلى الشركات الصيدلانية عن سياستها الحذرة تجاه إجراء العديد من الخطوات الاختبارية في وقت واحد. إذ تأمل شركة “فايزر” في تجربة لقاح يعتمد تقنية “الحمض النووي الريبي” على البشر في وقت لاحق هذا الشهر. وتتخذ الشركة نهجاً جديداً لتحسين احتمالاتها: فبدلاً من اختبار اللقاح التجريبي الذي يُعتقد أنه أفضل من غيره بشكل فردي، تخطط الشركة لإجراء تجارب متزامنة على ثلاثة لقاحات أخرى في وقت واحد، لمعرفة أيها أفضل قبل إجراء دراسات على عدد أكبر من السكان. وعادةً ما يقوم صانعو اللقاحات بثلاث مراحل من التجارب البشرية، حيث ينتقلون بالتتابع من تجارب السلامة الصغيرة إلى تجارب السلامة الكبيرة فدراسات الفعالية الأكبر. لكن شركة “فايزر” تدرس إجراء “تجربة واسعة” تشمل المراحل الثلاث. وتأمل الشركة في مشاركة بيانات “التجربة الواسعة” مع الهيئات الطبية الناظمة، في الوقت الفعلي، لاتخاذ قرارات بشكل أسرع حول كيفية المضي قدماً. وتقول كاثرين جانسن، رئيسة قسم أبحاث وتطوير اللقاحات في شركة فايزر: “رداً على أزمة كورونا، نقترح تغيير طريقة تطويرنا للقاحات بشكل أساسي”.
ولا تخلو تقنيات “الحمض النووي الريبي” اللقاحية من مخاطر، إذ لا يُعرف الكثير عن فعاليتها. وعلى الرغم من وجود كمية جيدة من “بيانات السلامة” الآمنة المتعلقة بها في هذه المرحلة المبكرة، إلا أن ثمة مخاوف من أن بعض لقاحات “الحمض النووي الريبي” قد تؤدي إلى استجابات مناعية غير مرغوب فيها. وكما تُظهر تجربة المعركة ضد فيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز”، فإنه ليس هناك ما يضمن إيجاد لقاح في نهاية النفق. ومن المرجح أن تتلاشى بعض الوسائل العلاجية المعمول بها الآن، إما بسبب آثارها الجانبية أو جراء انعدام فعاليتها. لكن الباحثين المتخصصين في الفيروسات التاجية يأملون في ولادة لقاح واحد مضاد لفيروس “كورونا المستجد” على الأقل، مع انخراط أفضل العقول الصيدلانية وأكثرها سطوعاً في المعركة.
كيف ننتج مليارات الجرعات؟
وثمة تحدٍ آخر يواجه أي لقاح منتظر مضاد لـ”كورونا المستجد”، ألا وهو إنتاج كمية كافية من الجرعات. إذ ستكون هناك حاجة ماسة لتلبية الطلب العالمي الكثيف على أي لقاح فعال. وقد بدأت شركة “فايزر” وضع خطط لتشييد خطوط إنتاجية داخل الولايات المتحدة وخارجها. وتقول “موديرنا” إنها تمتلك بالفعل القدرة على إنتاج ملايين الجرعات شهرياً في مصنع كان مُعداً لإنتاج لقاح آخر. ولكن بالنسبة إلى شركة في مرحلة الإنطلاق مثل “موديرنا”، لا تمتلك سابق خبرة في تسويق منتجاتها، فإن الأمر سيكون صعباً.
ولإلقاء الضوء على حجم المشكلة، يكفي أن نذكر “خريطة الطريق” التي وضعتها “المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها” عام 2018 لإنتاج لقاح مضاد لجائحة إنفلونزا قد تضرب البلاد مستقبلاً. فقد أظهرت الخريطة جسامة الطلب على مثل هكذا لقاح. إذ سيقف في مقدمة طابور متلقي اللقاح، ملايين الأطباء والممرضات والمسعفين وكذلك الرضَّع والأطفال والنساء الحوامل، أي 26 مليون شخص في الولايات المتحدة وحدها. يلي هذه الدفعة، ملايين الموظفين الأساسيين إضافة إلى الأطفال الذين يعانون ظروفاً صحية خاصة. بعد ذلك ستكون هناك مجموعات أوسع من المرضى الأكثر عرضة للخطر، بما في ذلك 41 مليون بالغ ممن تجاوزوا سن الـ65، ومعهم 38 مليون بالغ أقل سناً يعانون ظروفاً صحية خاصة. إذا جمعنا كل هذه الأرقام، سنحصل على أكثر من 100 مليون أميركي يمتلكون أولوية الحصول على لقاح.
تمثل هذه الجرعات حاجة الولايات المتحدة فقط، ولا تشمل مليارات الجرعات الأخرى اللازمة للصين وأوروبا والهند وأماكن أخرى. ويقول بول ستوفيلز، كبير المسؤولين العلميين لدى “جونسون وجونسون”: “من المخيف حقاً رؤية منحنى الإصابات والوفيات وهو في تصاعد مستمر. نحن بحاجة إلى لقاح يوقف هذا الوباء عند حده وبسرعة، ووحدها خبرات البشر البحثية والعلمية والإنتاجية قادرة على دحر الجائحة، شرط أن تتكاتف معها جهود الحكومات حول العالم”. ويعتقد مارك فاينبرغ، المدير التنفيذي السابق لقسم اللقاح لدى شركة “ميرك” والذي يقود حالياً المبادرة الدولية للقاحات الإيدز، أن المعضلة الحقيقية “ليست مجرد إثبات ما إذا كان اللقاح جيداً وفعالاً، ولكن مدى السرعة التي يمكن بها إنتاجه لسد الاحتياجات العالمية. لم يسبق أن وُجد لقاح يتوجب إنتاجه بهذه السرعة خلال فترة وجيزة. لن يكون بمقدور كيان واحد أو شركة واحدة التصدي لهذه المهمة بمفردها”.
المصدر: اندبندنت عربية