هددت الولايات المتحدة بأنها ستنسحب من المفاوضات وتلجأ إلى خطوات أخرى ضد إيران. في الموروث الشعبي، على الأقل في الجنوب اللبناني، عندما تتحلق النساء حول العروس في ليلة خطبتها، يطلبن منها ألّا تعلن موافقتها على توكيل “الشيخ – العاقد” من المرة الأولى أو الثانية، بعقد قرانها على العريس الذي تقدم لخطبتها، ويتبرعن بالردّ على الشيخ بأنها ذهبت إلى “العين” لتأتي بالماء.
ومن ثم يعود الشيخ ليكرر صيغة العقد – الاتفاق، فتردّ النساء وأترابها بأن العروس ذهبت للبحث عن “حطب للشتاء”. عندها يلجأ العاقد وقبل تكرار الأمر للمرة الثالثة إلى التهديد بالانسحاب وتفويت الفرصة عليها بالزواج، ليصدح صوتها المرتجف بالموافقة قبل أن ينهي الشيخ كلامه، فترتفع زغاريد النساء المحتفيات بالقادم الجديد إلى عالمهن.
أما إذا كانت العروس لا ترغب بالعريس المتقدم لها، وكان هذا العريس من الميسورين، فإن كل امتناع عن استجابتها لطلب الشيخ العاقد وتأخير التوكيل الذي يكون في بعض الأحيان عن استغلالها للفرصة ومحاولة ابتزاز العريس، فإنه يلجأ إلى تقديم مزيد من الهدايا والعطايا ليغريها بالموافقة والقبول، مع علمه أنها مجبرة على الموافقة وعدم قدرتها على الخروج عن إرادة والدها وولي أمرها الذي وافق بداية على هذا الزواج والاقتران بين العريس وكريمته.
عندما تحدثت الإدارة الأميركية عن أواخر شهر يناير (كانون الثاني) المقبل، كموعد نهائي للتوصل إلى اتفاق مع النظام الإيراني حول الملف النووي وإنهاء مفاوضات فيينا، وهددت بأنها ستنسحب من المحادثات وتلجأ إلى خطوات أخرى ضد طهران، سارعت هذه الأخيرة إلى الإعلان أنها لا تقبل أي تهديد أو تحديد مواعيد للمفاوضات، وأنها لن تخضع وتستسلم للابتزاز ولن تذهب إلى اتفاق لا يلبّي مطالبها برفع العقوبات والحصول على ضمانات تؤكد الالتزام الأميركي بتنفيذ الاتفاق. إلا أنها في الوقت ذاته، أعلنت أنه في حال وافقت واشنطن وتعاملت بإيجابية مع الهواجس الإيرانية، فإنها ستعمد إلى تعويض ما ترتب على تقليص التزامها بتعهداتها في مجال أنشطة تخصيب اليورانيوم التي استأنفتها عام 2019.
بهذا التصعيد، عادت الأطراف الدولية في مجموعة 4+1 وواشنطن من جهة، وإيران من جهة أخرى إلى طاولة التفاوض في الجولة الثامنة التي من المفترض أن تشهد تطوراً حاسماً، يؤدي أو ينتهي إلى إعلان الاتفاق أو وضع الأزمة النووية على سكة الحل.
وهو ما لم تتأخر بلورته وترجمته في الخطوة التي قام بها رئيس الفريق المفاوض الإيراني علي باقري كني الذي حَمَّلَ ممثل الاتحاد الأوروبي في المفاوضات إنريكي مورا رسالة مكتوبة إلى نظيره الأميركي في خطوة غير مسبوقة منذ عودة المفاوضات غير المباشرة مطلع هذا العام، عندما حصل وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف ومساعده كبير المفاوضين عباس عراقجي على الضوء الأخضر من المرشد الأعلى بالعودة إلى التفاوض مع المجموعة الدولية من دون مشاركة أميركية.
توجيه رسالة إيرانية مكتوبة إلى المفاوض الأميركي، وإن كانت تحمل الرؤية الإيرانية للمسار الذي ترغب بالوصول إليه في المفاوضات والآليات التي يجب اعتمادها، إلا أنها تشكل مؤشراً إلى تغيير جدّي في موقف النظام من المحادثات. وتشكل نقلة نوعية وكسراً لكل المعايير التي حرص الخطاب الرسمي للنظام والمرشد الأعلى على رسمها في الأشهر الأخيرة حول الحوار مع واشنطن، ناهيك عن العلاقة معها.
ولعل المتغير الأبرز والأخطر في سياق البراغماتية الإيرانية المحكومة بالبحث عن مخارج لما يواجهه النظام من أزمات اقتصادية وضعت الدولة والمجتمع على الجهة الأخرى من حافة الانهيار، أن هذه الانفتاحة غير المباشرة وعبر الرسائل بين طهران وبمبادرة منها وواشنطن، تأتي على بعد أيام من الذكرى الثانية لمقتل قائد قوة القدس والمسؤول عن الامتداد الإيراني في المنطقة ورأس المشروع الإقليمي قاسم سليماني الذي اغتيل بأوامر مباشرة من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الذي أعلن أمام الملأ تحمّل المسؤولية عن عملية القتل.
ما شهده اليوم الأول من الجولة الثامنة من المفاوضات، يؤكد أن باقري كني لم يذهب إلى فيينا من دون الحصول على موافقة مسبقة على الخطوة التي قام بها والمبادرة باتجاه نظيره الأميركي غير المباشر في المفاوضات، الأمر الذي يؤكد أن المفاوض الإيراني هذه المرة يدخل الجولة الجديدة بخطة عمل وضعتها الجهات التي ترسم السياسات العليا للنظام والتي وصلت إلى قناعة واضحة بأن تحقيق أي اختراق في جدار الحصار الاقتصادي والسياسي الذي يواجهه النظام لا بد من أن يمرّ عبر التنازلات، بخاصة أن هذه القيادة قادرة على تقديم المسوغ الشرعي – الديني لهذه الخطوة على قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”.
عدم استخدام الشكليات الرسمية في التواصل بين الطرفين الإيراني والأميركي، تحديداً توصيف الرسالة بأنها غير رسمية ولا تحمل عنواناً “ترويسة” رسمية تعبّر عن هوية الجهة المُرسلة، لا يلغي أنها خطوة يمكن تصنيفها في خانة التنازلات التي لجأت إليها طهران في الشهرين الأخيرين، بإعلانها الموافقة على إعادة تركيب كاميرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في منشأة “تسا” في كرج (40 كلم غرب طهران)، وبعدها استعدادها لتقديم تعهدات بعدم رفع مستوى التخصيب إلى ما فوق مستوى 60 في المئة. ومن ثم الموافقة على مبدأ “خطوة مقابل خطوة” الذي سبق أن أكد النظام رفضه بشكل قاطع وأن عودة طهران إلى الالتزام بتعهداتها لن يكون قبل التأكد من إلغاء جميع العقوبات الأميركية القديمة والجديدة.
التنازلات الإيرانية قد تكون مثل تمنّع العروس عن إعطاء وكالة عقد زواج من المرة الأولى أو الثانية، فالمفاوض الإيراني والنظام من ورائه يبيعان الأميركي والترويكا الأوروبية ما في جعبتهما من بضاعة، لأن مبدأ المراقبة على المنشأة جزء من التزام إيران اتفاقية منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وهي تتضمن أيضاً مراقبة أنشطة التخصيب بحيث يُمنع على الأعضاء الذهاب إلى الاستخدام العسكري. إلا أن العامل الذي دفع الإيرانيين إلى تسريع هذا المسار قد يكون الهدف منه قطع الطريق على التهديدات الإسرائيلية بضربة عسكرية، إضافة إلى محاولة إفشال الحراك السياسي والدبلوماسي الإسرائيلي لمنع أي تقارب أميركي إيراني أو إعادة إحياء الاتفاق النووي وما يعنيه من اعتراف بإيران النووية، فضلاً عن رغبتها بالانتهاء من هذا الملف وتفكيك أزمتها الاقتصادية والتفرغ لمعالجة ما أصاب نفوذها الإقليمي من تصدعات وتحديات، سواء في العراق وأزمة تشكيل الحكومة، أو سوريا وإشكالية التعامل مع الحليف الروسي في مرحلة الحل السياسي وما بعده، فضلاً عن أزمة اليمن التي باتت تفرض على طهران القيام بخطوات جدّية وعملية تساعد على حلها. فيما يبقى الملف اللبناني معلّقاً على حبال الانتظار.
المصدر: اندبندنت عربية