حقق الليبيون في 2021 ما لم يُحققوه منذ أكثر من عشر سنوات، أي وقف المعارك العسكرية والشروع في تنفيذ خريطة طريق، مدعومة من الأمم المتحدة والدول الكبرى، لإنهاء الأزمة وبناء مؤسسات الدولة، بواسطة الاقتراع العام. وبعد فشل الهجوم المسلح لـ»لقيادة العامة» على العاصمة طرابلس، بأمر من اللواء المتقاعد خليفة حفتر، تم تفادي خطر مواجهة عسكرية في محيط مدينة سرت، حيث يتواجهُ المقاتلون والمرتزقة من الجانبين. لكن ابتعاد شبح الحرب لم يكن كافيا لإيجاد الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة وشفافة ونزيهة، أواخر العام الجاري، مثلما كان مقررا في خريطة الطريق.
فقد قامت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، برئاسة غسان سلامة، قبل استقالته من منصبه، بتنسيق الجهود الدولية، نحو إرساء حوار ذي مسارات سياسية واقتصادية وعسكرية بين الغريمين. ونجح المسار العسكري في جمع الأطراف المحلية في جنيف، للتوقيع على اتفاق وقف إطلاق نار في 23 تشرين الأول/اكتوبر 2020 وتشكيل لجنة عسكرية مشتركة تشرف على تنفيذ الاتفاق، وهي اللجنة التي باتت معروفة بـ«لجنة 5+5». وتمكنت اللجنة من فتح طريقين من أصل ثلاث طرق استراتيجية كانت مغلقة، هما الطريق الساحلي الرابط بين سرت ومصراتة، في حزيران/يونيو 2021 والطريق الجنوبي الرابط بين غريان والشويرف، فيما بقي الطريق الرابط بين الجفرة وأبوقرين مغلقا.
وتقضي المادة الثانية من الاتفاق بإخلاء البلد من القوات الأجنبية والمرتزقة، وإعادة تمركز القوات العسكرية المحلية. غير أن إمدادات السلاح لم تتوقف، بالرغم من التقدم الذي تم إحرازه مع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، في اذار/مارس الماضي. وأشارت معلومات الأمم المتحدة إلى أن حوالي 70 رحلة شحن وإمداد وصلت إلى المطارات الشرقية، منذ 8 تموز/يوليو الماضي، دعماً للجيش الذي يقوده اللواء حفتر، في حين تم تسيير 30 رحلة شحن وإمداد إلى مطارات في غرب ليبيا، دعماً لحكومة الوفاق الوطني السابقة. وبحسب البيانات الأممية، وصلت ثلاث سفن لدعم قوات حفتر، وتسع سفن شحن لدعم حكومة الوفاق الوطني، التي كان يقودها فائز السراج، في انتهاك واضح لسيادة ليبيا. كما أن تخزين الأسلحة والعتاد الحربي المتطور يعد أيضًا انتهاكًا لحظر إرسال الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة، منذ الانتفاضة التي أطاحت بنظام معمر القذافي في العام 2011.
وأفاد تقرير أعدته الرقابة الحكومية الأمريكية أن أنقرة أرسلت إلى ليبيا ما لا يقل عن 5000 مسلح من سوريا. وتوقع التقرير أن يساهم وجودُهم هناك في التأثير سلبًا على الوضع الأمني العام. وفي وقت سابق من هذه السنة أكد تقرير للأمم المتحدة أن ما يصل إلى 1200 متعاقد عسكري من شركة الأمن الروسية الخاصة «فاغنر غروب» يعملون في ليبيا لدعم قوات حفتر. لكن مصادر أخرى قدرت عددهم بأكثر من ثلاثة آلاف مرتزق.
وكشفت القيادة المركزية الأمريكية أن موسكو أرسلت 14 طائرة مقاتلة على الأقل إلى ليبيا، وأن الطيارين الروس يحلقون بها. ونشرت القيادة صوراً إضافية للأقمار الصناعية لقاعدة الجفرة الجوية في وسط البلاد. وقدمت تلك الصور أدلة على أن الكرملين أرسل الطائرات لتعزيز الميليشيات التي تقاتل الحكومة المعترف بها دولياً، تحت قيادة حفتر. وسلط موقع «ذا درايف» المهتم بالشؤون الدفاعية والعسكرية، الضوء على التدخل الروسي مع تركيز خاص على الأدلة التي نشرتها القيادة الأمريكية، لتوضح أن الطائرات من نوع «اس يو- 24» ومقاتلات «ميغ 29» قد غادرت روسيا على مدار عدة أيام، وكانت جميعها تحمل علامة سلاح الجو الروسي. وأوضحت أنه تم طلاء الطائرات مرة أخرى في قاعدة حميميم في سوريا، لتظهر بدون علامات وطنية. وبعد ذلك تم نقلها إلى ليبيا، حيث سُلم ما لا يقل عن 14 طائرة روسية غير مميزة إلى القائمين على قاعدة الجفرة الجوية.
خسائر الحرب
سيكون ممكنا في الأمد المنظور إحصاء الأضرار البشرية والمادية لتلك الحرب الأهلية، التي استمرت عشر سنوات، فبحسب إحصاءات غير رسمية، قُتل ما يصل إلى 43000 شخص خلال فترة الحرب الأهلية. ومن بين 7 ملايين ساكن في ليبيا، هناك 392 ألف نازح و1 مليون آخرين بحاجة إلى المساعدة. كما أن المنظومتين الصحية والتربوية مُتهالكتان، مما جعل البنك الدولي يضع ليبيا، خلال تصنيفه للدول التي تعاني من أوضاع هشة متأثرة بالصراع، ضمن فئة الصراع «عالية الشدة» أي تلك التي لديها احتمالية أكبر لتجربة الفقر المزمن (تشمل الدول الأخرى في هذه المجموعة أفغانستان وجمهورية أفريقيا الوسطى والصومال وجنوب السودان وسوريا واليمن). وما زاد الوضع صعوبة أن أجهزة الدولة الليبية الأمنية والعسكرية، انهارت في أعقاب انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011 ما يستدعي اليوم بناء مؤسسات جمهورية حديثة. كما أن التدفق الكبير للسلاح من الخارج وانتشار عصابات التهريب والجريمة المنظمة عبر الحدود غير المحروسة، جعل هذه الأخيرة خارج السيطرة في كثير من مناطق ليبيا. وقد سارع أمراء الحرب إلى ملء الفراغ الذي أعقب انهيار النظام في 2011، بينما عجزت السلطات الجديدة، نظرا لضعفها وقلة خبرتها عن إصلاح أسلاك الأمن والجيش والقضاء والمخابرات والادارة.
تداعيات أمنية على الإقليم
في هذا المناخ صارت ليبيا موئلا لحركات التمرد بدءا من تنظيم الدولة و«القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي» والحركة الوطنية لتحرير أزواد وحركة العدالة والمساواة وانتهاء بجماعة بوكو حرام. وساعد تدفق المهاجرين على ليبيا من بلدان الساحل والصحراء على زيادة أعداد المنتسبين إلى تلك الجماعات، التي تصرف رواتب شهرية للمنضمين إلى صفوفها. لكن غالبية الليبيين برهنت على تشبثها الكامل بالانتخابات، بوصفها الوسيلة الوحيدة لإنهاء الصراع سلما.
ومع حلول ميقات الانتخابات الرئاسية، تم تسجيل قرابة ثلاثة ملايين ناخب، فيما بلغ عدد المرشحين للرئاسيات قرابة مئة مرشح من مختلف المناطق، إلى جانب أكثر من خمسة آلاف مرشح للانتخابات البرلمانية. بيد أن حل الخلافات القانونية لم يكن ممكنا في ظل الظروف الحالية، وخاصة الطعون في بعض الترشُحات «الحساسة» مثل حفتر وسيف الاسلام القذافي. لذلك تقرر إرجاء الانتخابات، من دون الاتفاق على ميقات بديل، فيما ثار جدل حول بقاء الحكومة المؤقتة أم إنهاء مهامها. وهناك من يقترح الابقاء على المجلس الرئاسي من دون تغيير، وهذا هو الموقف الذي أعلنه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لدى استقباله رئس المجلس الرئاسي محمد المنفي، من دون أن يسأله أحدٌ عن رأيه في الموضوع.
ومن ثم بات الليبيون مُعلقين بين خيارين، فإما تأجيل قصير، من أجل التوصل إلى حلول للخلافات القانونية، أو تأجيل أطول، لمعاودة تشكيل خريطة الطريق السياسية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى إبدال الحكومة الحالية بأخرى تقود البلد في فترة انتقالية ثانية.
الاطفائية وليامز
في هذا المناخ المُعقد أُرسلت رئيسة البعثة الأممية بالوكالة، الأمريكية ستيفاني وليامز مجددا، وعلى وجه السرعة إلى ليبيا، لحلحلة التأزم الذي أدى إلى إرجاء الإعلان عن اللائحة النهائية للمرشحين المقبولين، واستطرادا تأجيل الانتخابات برمتها. وكانت موسكو وضعت فيتو على تسمية وليامز موفدة خاصة للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، خلفا للسلوفاكي المُستقيل من هذا المنصب، يان كوبيش، فتحايل الأمين العام غوتيريش على القانون، وعينها مستشارة خاصة له مكلفة بالملف الليبي. لذا لعبت وليامز، التي كانت شغلت منصب قائمة بأعمال السفارة الأمريكية في ليبيا، دورا دافعا في تبريد الصراعات بين الزعماء الليبيين ومنع الانزلاق مجددا إلى الحرب. ولخص غسان سلامة هذا الوضع بقوله «جوهر الأزمة في ليبيا هو صراع على الثروة، يتخذ شكل الصراع على السلطة». على أن هذا الصراع، خاصة في بُعده الليبي-الليبي، لا يخضع إلى ضوابط ولا يحتكم إلى قوانين، مما يستدعي أولا وقبل كل شيء تخليص القرار الليبي من الولاءات الخارجية، وتحصين البلد والمجتمع من الصراعات العنيفة، بعد سنوات من تصفية الحسابات القديمة العقيمة. وإذا كانت ليبيا خسرت نصف سكانها في حروب أهلية مطلع القرن الماضي، فليس جائزا اليوم أن يُقتل رُبع الليبيين أو عُشرهم، أو حتى ليبيٌ واحدٌ، في صراع أهلي مُتجدد، أيا كانت مُبرراته وعناوينه.
المصدر: القدس العربي