(الإسلام وتعبيراته الاجتماعية المتنوعة ودوره في الواقع السياسي، حاضر في المجتمع السوري منذ الاستعمار الفرنسي، للاستقلال، للان.)
.الفصل الخامس.
.تحدي الإسلام السياسي
الإخوان المسلمون والديمقراطية.
أولاً. كان الإسلام وتعبيراته الاجتماعية حاضرا في سورية منذ مرحلة الاستعمار الفرنسي، وخاصة من خلال الجمعيات الدينية الخيرية المنتشرة في دمشق وحلب وبقية المدن السورية، والتي سرعان ما سيكون لها حضورا في البنية السياسية السورية سواء في مرحلة المستعمر الفرنسي وبعد الاستقلال، وتتشكل نويات لجماعات إسلامية -في الثلاثينات من القرن الماضي- تحمل فكر الإخوان المسلمين، فكثير من الشباب تأثر بها وخاصة الذين درسوا في مصر العلوم الشرعية وغيرها، ويجتمع بعضها ويتوحد عام 1946 ويكون رسميا حركة الإخوان المسلمين، التي ستحفظ بتنوعها واختلافها حسب المدن السورية ومنتسبيها الدمشقيين ونموذجها مصطفى السباعي والحلبيين ونموذجها عبد الرحمن أبو غدة أقرب للعمل الدعوي السلمي أما الحمويين سيكونون أكثر جذرية بقيادة مروان حديد و سعيد حوى، وفي فترة الاستقلال الأولى سيكون الاخوان المسلمون جزء اصيلا من النشاط السياسي السوري يخوضون الانتخابات النيابية وسيكون لهم دور في تثبيت دستور 1950 وتعديلاته حول الإسلام كدين لرئيس الجمهورية والفقه الإسلامي كمصدر للتشريع، ويقومون بدورهم المجتمعي ضمن المتاح الديمقراطي في سورية ما قبل الوحدة السورية المصرية، ويؤيد مصطفى السباعي الوحدة وينتصر لدورها في موضوع العدالة الاجتماعية، ويصدر كتابه “اشتراكية الإسلام”، ولكن بسقوط الوحدة و بعد قيام حركة آذار 1963 ومجيئ البعث للحزب، سينتقل الجناح المتشدد الى مرحلة المواجهة المبكرة ضد حكم البعث حيث اعتصم الاخوان المسلمين بقيادة مروان حديد وسعيد الحوى لاقل من شهر في جامع السلطان وأنهي الاعتصام بالقوة من قبل السلطة البعثية، ومع مرور الزمن بدأ يتبلور داخل جماعة الاخوان المسلمين موقفين متناقضين احدهما متشدد جذري يطالب بحاكمية الاسلام يتزعمه حديد وحوى وهو امتداد لتيار سيد قطب، والاخر دعوي سلمي يتزعمه عصام العطار وعبد الفتاح ابوغده، ووصل الخلاف لمرحلة الاعلان العلني لكل طرف لخطأ مسار الطرف الآخر.
(الاخوان المسلمين السوريين حملوا نفس صفة الاختلاف بين تيار دعوي سلمي، وآخر متشدد عنفي يطالب بحاكمية الاسلام).
ثانيا. لم يتوقف الجناح المتشدد من الإخوان المسلمين عن مواجهة السلطة البعثية في سوريا، بدءا من اعتصام حماة 1964 وما بعد حيث اعتقل رمزهم مروان حديد وافرج عنه وقتها، وزادت الاحتجاجات عندما تفرد حافظ الأسد بالسلطة 1970، وحاول أن يحكم من خلال شخصية سنية “احمد الخطيب” تجاوز علويته، ولكنه سرعان ما أعلن رئاسته لسورية عبر استفتاء عام، ولم يمر الموضوع دون بعض الاضطرابات في مدينة حماة واخوانها المتشددين، وأصبح الصراع علني بعد إعلان الدستور الجديد 1973 الذي لم ينص على دين رئيس الدولة بأنه الاسلام، وحصلت مناوشات أدت لاعتقال مروان حديد الذي قتل بالمعتقل 1976، وأصبح الخلاف بين جماعة الإخوان المسلمين السورية عموما وفرعها في حماة الذي سمي “الطليعة الإسلامية المقاتلة” علنيا، وبدأت الطليعة المقاتلة بالعمليات العنفية افتتحتها باغتيال رئيس مخابرات في حماة، وامتدت لكل سورية حتى الثمانينات، وكان من تداعياتها على مستوى الاخوان المسلمين انفسهم بانهم بعد اشتداد العمل الأمني ضدهم أن التحقوا بالعمل المسلح ضد النظام، وأعطى للنظام المبرر للعنف المسلح الشديد ضد الاخوان المسلمين وحاضنته الشعبية وضد القوى السياسية المعارضة وضد هيئات المجتمع المدني عموما، بحيث كان حصيلتها اغتيال مجال العمل السياسي والمدني المعارض في سوريا، وبدأت في الثمانينات السنوات العجاف للسياسة في سورية. وعلى مستوى الاخوان المسلمين فقد اعتقل اغلبهم وقتل بعضهم وهرب الباقي، أصبحوا مجرمين القانون 49 الذي حكم بالإعدام على الانتساب للإخوان المسلمين، ودخل الإخوان المسلمين في لعبة الاستقطابات الإقليمية و توزعوا بين السعودية والعراق والأردن، وانعكس ذلك عليهم في توجهاتهم وقراراتهم وعملهم المسلح وتحالفاتهم ايضا، فدخلوا في خلافات داخلية شتتهم وبعثرت جهودهم وحولتهم لمجرد وجود خارجي ورقة في يد الآخرين، وكان النظام قد انتهى وجودهم العملي على الأرض في سورية، وكان أسوأ تداعيات تصفيتهم مجازر حماة وبعض المدن السورية وكذلك مجازر تدمر بعد محاولة اغتيال حافظ الأسد الفاشلة. ومنذ الثمانينات اصبح الاخوان المسلمين جسما تنظيميا يعيش في دول الشتات، وبدأ مرحلة نقد ذاتي أدت لعودته للنهج السلمي والقبول بالخيار الديمقراطي للتغيير الاجتماعي والسياسي في سوريا، استفتحها “بميثاق الشرف الوطني” عام 2000 ، وبعدها في “المشروع الحضاري لسورية” وتوجها بالتحاقه ب”إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي” عام 2005. كل ذلك وفاعليتهم في الداخل السوري شبه معدومة.
(قامت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين بعمليات عسكرية ضد النظام السوري، الذي استثمرها النظام لتصفية الإخوان و المعارضة السياسية والمجتمع المدني في سورية كلها)
ثالثا. لم يكن حافظ الأسد ونظامه ليترك المجال الديني دون أن يضع يده عليه، خاصة بعد تأكد من انغراسه مجتمعيا وفي وجدان الناس، وخاصة بعد أحداث الصدام مع الإخوان المسلمين و طليعتهم المقاتلة ونتائجها الكارثية على المجتمع السوري والحياة السياسية فيه، فوضع الشيخ “أحمد كفتارو” مفتي الجمهورية الذي أعلن ولاءه المطلق للأسد، و سمح له ببناء جامعة وله جامع يدرس به، ونفس الشيء حصل مع الشيخ “محمد سعيد البوطي” الذي تحول بوق دعائي تبريري من منظور إسلامي لكل سياسات الأسد ونظامه، وكذلك الشيخ “حسون” ..الخ، لقد وضع الأسد يده على المساجد وتوسع فيها، وعلى الأئمة وتغلغل بهم أمنيا، وعمم الخطب المعدة سلفا في المراكز الأمنية، وافتتح معهد “تحفيظ القرآن الكريم” لخلق جيل مسلم مدجن.. الخ. بالمختصر سيطر الأسد وسلطته على المجال الديني بالكامل ولم يعد هناك اي فرصة او منبر لصوت إسلامي معارض علني ابدا.
(أصبح المجال الديني في سورية حافظ الأسد مدجنا تابعا للسلطة بالمطلق، ومبررا لسياساتها ومنفذا لها في المجتمع.)
رابعا. صحيح أن الأسد وسلطته هيمنت على المجال الديني في الكامل في سورية اعتبارا من الثمانينات من القرن الماضي، لكن لم يستطع أن يؤثر على الوجدان الديني وتأثرها بالمتغيرات الإقليمية والدولية، التي ظهرت كلها إعتداء على العرب والمسلمين، سواء في أفغانستان و فلسطين والعراق ولبنان، ودفع لعدد كبير منهم للذهاب إلى مناطق الصراع تلك والمشاركة فيها، وبهذا الشكل سيتشكل تيارا جهاديا جديدا متشربة أفكار “سيد قطب” و”المودودي” و”سعيد حوى” و السلفية الجهادية، التي ستنتج تزاوجها الفكري والتنظيمي وفي مواقع الصراع خاصة أفغانستان “تنظيم قاعدة الجهاد الإسلامي العالمي” “القاعدة”، وسيتم استثمار النظام السوري في مرحلة حافظ الأسد وابنه بشار لهذه الظاهرة عبر التغلغل بها، واستخدامها عند الحاجة، وبيعها معلومات أو أشخاص للغرب وخاصة أمريكا. ومنعكس ذلك على الداخل السوري ان تم تجييش أعداد كبيرة من الشباب المسلم المتحمس لمواجهة أمريكا خاصة بعد احتلال العراق، وذهابهم إلى هناك واختراقهم استخباراتيا، وتبنيهم فكر القاعدة وعودتهم كخلايا نائمة في سوريا، او الى السجون السورية حيث اعتقل اغلبهم، وسيكونون هم الإمداد الأساسي لأغلب قيادات وكوادر داعش والنصرة وأحرار الشام وجيش الاسلام.. الخ، حيث سيكون لحضورهم وفعلهم دور أساسي في رسم صورة واقع سورية السياسي الآن بعد الربيع السوري وتحوله إلى ثورة، وفي المستقبل المنظور أيضا.
(أن إسلاميي القاعدة الذين جيشوا في أفغانستان والعراق والسجون السورية والعربية، سيكونون قادة العمل العسكري في داعش والنصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام في الثورة السورية.)
اخيرا. إن تكامل مجال الهيمنة السياسية على المجتمع السوري في مرحلة حافظ الأسد وبعده ابنه بشار، اغلق دائرة الحياة العامة على السوريين جميعا، فهناك مجال حزبي سياسي وحيد يهيمن على المجتمع هو حزب البعث، كسلطة رمزية ممسوكة من قوة أمنية استخبارية متغلغلة بتفاصيل الحياة الاجتماعية كاملة، وجيش مدجن “عقائديا” و”طائفيا” ، ومجلس شعب تابع للسلطة بالمطلق، وقضاء فاسد وتابع للسلطة، واعلام يمثل بوقا لسياسة النظام، وعلاقات إقليمية محكومة بدقة وفق تحالفات “الاعداء والاصدقاء”، تتحرك استراتيجيا وفق مصلحة الأسد وعائلته وعصابته، سواء في خلق الاتباع، أو بيع المواقف والتحالفات، والانضباط” في التعامل مع قوى الهيمنة الدولية خاصة أمريكا. كل ذلك جعل سورية جمهورية قمع يستحيل فيها أي تغيير ضمن قواعد السلوك السياسي التقليدي “ثورة أو انتفاضة” ، وهذا ما جعل الكاتب ينهي الكتاب (المكتوب في 2010 قبل الربيع السوري بسنة) بتوصيات؛ أهمها دفع النظام يقدم “تنازلات” في مجال الديمقراطية للشعب السوري، وهذا الواقع جعل بشار الأسد يستبعد امتداد الربيع العربي إلى سورية، لإدراكه حجم السجن الكبير الذي يعيش فيه السوريين، لكن واقع الربيع السوري وتحوله إلى ثورة سيغير من كثير من القناعات والاستنتاجات.
.وهذا موضوع حديث قادم كنقد عام للكتاب، وقراءة (مركزة ومختصرة) في وضع الثورة من بدايتها للان.