هل يمكن الثقة في الجيش، خصوصاً عندما يعد بأشياء لا تدخل في اختصاصه، وبالأحرى عندما يتعلق الأمر بالسياسة التي لا يجب للجيش أن يمارسها؟ مناسبة هذا الكلام ما يحدث في السودان. ولكن قبل الحديث عن الشأن السوداني، لا بد من الوقوف عند الحكم الصادر في ميانمار بسجن رئيسة الحكومة المطاح بها، أون سان سو تشي، أربع سنوات، من القضاء العسكري في بلادها، وهي التي دافعت عندما كانت تترأس الحكومة، استرضاءً للجيش، عن الجرائم التي ارتكبها جيش بلادها ضد مسلمي الروهينغا، وها هو الجيش الذي كانت تدافع عنه يحكم عليها اليوم بالسجن، بعد أن ضعفت شعبيتها بسبب أخطائها وابتعادها عن البرنامج الديمقراطي الحقوقي التي انتخبت بفضله، واستحقت، بفضل نضالها من أجله، جائزة نوبل للسلام. الخلاصة التي على كل سياسي أن يستنتجها من قصة أون سان سو تشي أنه لا يجب الثقة في الجيش، خصوصا عندما يكون الجيش يمارس السياسة.
يُطرح سيناريو أون سان سو تشي اليوم بقوة في الخرطوم، بما أن رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، الذي وصل، أول مرة، إلى رئاسة الحكومة بفضل ثورة الشعب السوداني، عاد ووضع يده وثقته في الجيش الذي انقلب عليه وزجّه وأعضاء حكومته في السجن، وذلك على الرغم من رفض الشارع شروط الجيش، ومطالبته بمحاكمة قادة هذا الجيش على أفعالهم، قد يجد نفسه غدا وراء القضبان، بقوة حكم قضائي صادر عن محكمة عسكرية، وعندها لن يجد من يخرج في الشوارع للمطالبة بإطلاق سراحه. فما حدث ويحدث في بورما قد يحدُث غدا في السودان، والجيش الذي وعد بالعمل مع قادة الاحتجاج لتوجيه العملية الانتقالية السياسية هو نفسُه الذي انقلب على ممثليهم، واعتقل قادتهم قبل أن يعود، تحت الضغط الداخلي والخارجي للتفاوض معهم، ولا شيء يضمن أنه لن يكرّر الكرّة، ويتنكّر لوعوده ويزج “شركاءه” المدنيين في السجن، وفي مقدمتهم حمدوك، عندما يشعر بأن شعبيتهم في الداخل تآكلت وضغط الخارج تراجع.
يصعب تصديق وعود قادة الجيش السوداني بأن لا طموحات سياسية لديهم، وبأنهم سيتخلّون عن السلطة، ويبتعدون عن ممارسة السياسة بعد نهاية المرحلة الانتقالية. فمن حاول الانقلاب على مسار المرحلة الانتقالية هو الجيش، ومن يرفض التناوب على رئاسة مجلس السيادة، كما تنصّ على ذلك الوثيقة الدستورية، هو الجيش، وكلام عبد الفتاح البرهان بالتخلّي عن السلطة عام 2023 يذكّر السودانيين بتجارب سابقة في عهد عمر البشير وقبله جعفر نميري، فكلاهما جاءا منقذيْن ومخلصين من فشل حكم المدنيين، ومكثا في السلطة حتى أسّسا أبشع ديكتاتوريتين حكمتا السودان زهاء نصف قرن.
إقناع قادة الجيش والقوى الأمنية التي ساهمت في الحكم مع عمر البشير، بالتنازل عن السلطة للمدنيين أمر غير مرجح، أما أن تأتي هذه القناعة من طرف قائد الجيش فهذا أمر يصعب تصوره وبالأحرى تصديقه، ولكنه لا يزال ممكنا في حالة استمرار المتظاهرين في ممارسة ضغطهم السلمي للمطالبة بحكم مدني. وسيتطلب الأمر تنازلات من القوى المدنية في الشارع لطمأنة مخاوف الجيش بشأن مكانه في أية تسوية سياسية مستقبلية. وعلى الرغم من الانقلاب الفاشل، وما ترتب عنه من انتكاسةٍ في مسار الانتقال الديمقراطي، سيتعيّن على القوى المدنية الحية أن تظلّ معبأة وملتزمة برفض حكم العسكر. قوة القوى المدنية تكمن في وحدة صفها وفي اتحادها لإحباط كل الطموحات السياسية لقادة الجيش. وكلما وجد قادة الجيش وقادة القوى الأمنية أنفسهم أمام حركةٍ مدنيةٍ قويةٍ معبّأة وموحدة من أجل الديمقراطية سيجدون أنفسهم متردّدين في قمع هذه الحركة. وقد أظهرت قيادة الحركة الاحتجاجية المدنية السودانيين مرونة ملحوظة في قدرتها على إبقاء صفوفها موحدة، وكلما كانت أكثر اتحادًا وقدرةً على تعبئة الشارع، قويت حظوظ السودانيين في العبور بثورتهم إلى برّ الأمان.
لكن في المقابل، لكي تكون للديمقراطية فرصة النجاح في السودان، لا بد من وجود مؤسّسة عسكرية مهنية قوية، تحفظ للبلاد سلامها وأمنها، وتضمن لها استقرارها، وعلى القوى المدنية أن تساعد قادة الجيش المعتدلين، وغير المتورّطين في جرائم قتل المتظاهرين، في تقوية نفوذهم داخل المؤسسة العسكرية وطمأنة مخاوفها بشأن الحكم المدني لكسب تأييدهم للتحول الديمقراطي، دون أن يؤدي ذلك إلى إحداث انقساماتٍ داخل صوف الجيش، تؤدّي إلى زعزعة الاستقرار في السودان. وهذا يعني أن الطريق الأكثر احتماليةً للعبور نحو الديمقراطية في السودان هو طريق التسوية السلمية عبر انتقالٍ متفق عليه. يتطلب تحقيق هذا العبور السلمي عدة شروط: أولها وحدة صف المعارضة وقوته، وقدرتها على تعبئة الشارع، واستمرار الضغط الدولي الداعم للتحول الديمقراطي، والحد من النفوذ الخبيث للقوى الإقليمية المعادية للديمقراطية. ولكن أهم شرط هو بناء الثقة ما بين الجيش والقوى المدنية، لأن كل تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة في العالم بنيت على أساس توافقات كبيرة. لذلك قبل التفكير في وجوب الثقة في وعود قادة الجيش يجب بناء جسور الثقة مع مؤسسة الجيش التي لا يمكن بدونها بناء دولة قوية وموحدة. والعبور نحو الديمقراطية يتطلب مستقبلاً أفضل لكل مؤسّسات الدولة، بما فيها مؤسسة الجيش الضامن وحدة الدول واستقرارها، خصوصا عندما تكون هشّة وضعيفة، مثل حال السودان.
المصدر: العربي الجديد