كثيراً ما حيّرني البحث عن إجابة لهذا السؤال وهو: هل يتّعظ الإنسان من تجاربه؟ أو: هل تتعظ المجتمعات من خلال تاريخ المجتمعات الأخرى؟ حتى الآن لم أجد جواباً شافياً، ولا أعتقد أني سأجد، لأن الشعوب تكرر تجارب الآخرين وربما بالحرف! في شهر آذار (مارس) عام 1994، صدر كتاب في سلسلة “عالم المعرفة” ألّفه المرحوم إمام عبد الفتاح إمام، أستاذ الفلسفة وقتها في جامعة الكويت بعنوان “الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي” (متاح على الإنترنت). وقتها أثار الكتاب بعض الضجة، ولكن تم تجاهله بسرعة، وقد شرح بإسهاب عوامل تكوين الطغاة، وحمل الكثير من تاريخنا العربي وزر ذلك، إلا أن الموضوع يتجاوز التاريخ العربي ليشتبك مع التاريخ العالمي.
أخيراً، على شبكة نتفلكس السينمائية، بُثّ مسلسل بالعنوان نفسه “الطغاة” تناول سيرة، أو بالتحديد بعض سيرة، كل من جوزف ستالين في الاتحاد السوفياتي وأدولف هتلر في ألمانيا وصدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا وسلالة كيم التي تحكم كوريا الشمالية منذ عام 1948. العجيب هو التشابه في السلوك العام لهؤلاء، وإن اختلفت التفاصيل، من التشابه (عبادة الفرد) من خلال خلق خرافات حول شخص (القائد)، وتحويلها مع الزمن الى حقائق ثابتة، شخصية ملهمة ذات مهمة ربانية أو تكاد، مع تصفية مبرمجة، ليس الخصوم فقط، ولكن أيضاً الرفاق، مع تلك الخطوة، يحتاج الطاغية الى أن يخلق له عالماً إعلامياً خاصاً به، ولهذا فإن كل وسائل الإعلام المتاحة في المجتمع يجب أن تكون مبرمجة بحسب ما يرى القائد، ويمنع الجمهور من الاطلاع على أي شي آخر، وكل ما يأتي من الخارج هو (إعلام مضلل وضد مصالح الشعب يجب نفيه في التو واللحظة)، أي يفرض العزلة على شعبه ويفصله عن العالم، بحجة أن العالم يحاربه، ثم يتحول الطاغية الى التعليم، وبخاصة في السنوات الأولى، كي يرى الأطفال صورة القائد ويعرفوا مناقبه، وعندما يخرجون الى الشارع تواجههم صوره المنتشرة وتماثيله الكثيرة في الساحات والمدن المختلفة والطرق العامة.
ستالين خلق نظامه خرافة طفل مراهق، من كثرة حبه للنظام أبلغ السلطات أن والده يتعاطى تخزين السلع الاستهلاكية ويبيعها في السوق السوداء، فقُبض على الوالد وأُعدم بالطبع، إلا أن أقرباء الطفل قتلوه بسبب فعلته، فتم إعدام كل العائلة عن بكرة أبيها، وسمّت وسائل الإعلام الطفل “غريغوري”، وأصبحت القصة درساً في المواطنة الحقة تدرّس للطلاب، وبعد انتهاء عصر ستالين تبين أن القصة برمّتها لم تحدث، وأنها اختلاق من الأجهزة لتخويف العامة وإرهابهم.
في طرابلس الغرب تم في يوم حشد جميع الطلاب الصغار في سيارات، ونُقلوا الى ملعب كرة القدم، وظن الأساتذة أن هناك خطاباً مهماً للقائد، ليتبين أن أحد الشباب مقيد في وسط الملعب، وأعلن أنه خائن، وقد تعلم في الولايات المتحدة ونُصبت المشنقة، إلا أن الشاب لم يفارق الحياة على الفور، فركضت إحدى الفتيات وسحبته من رجله حتى فارق الحياة! كوفئت بعد ذلك بأن أصبحت وزيرة في الجمهورية العظمى!
يتحكم الطاغية في ما هو علم وفي ما هو ليس علماً، وهكذا أعدم الكثير من العلماء في روسيا في العصر الستاليني، لأنهم قرروا أن يسيروا في تجارب العلم الحديث، ذلك ما فعله هتلر عندما وجه كل الجهد العلمي لخدمة أغراضه العسكرية، وقد استخدم الغاز الذي اكتشفه ألماني \ يهودي في الحرب العالمية الأولى لمساعدة الجيش الألماني كي يقتل به اليهود والغجر! كما يعرف جيلنا ذلك الراعي العراقي الذي أسقط ببندقيته القديمة طائرة فانتوم!!
من الظواهر المشتركة للطغاة أنهم يجهدون في ترك خليفة لهم من صلبهم، حتى ستالين حاول أن يؤهل ابنه، وصدام حسين، والقذافي وآخرون كثر، لم ينجح منهم غير عائلة كيم التي هي اليوم في الجيل الثالث، وتربط وجودها بالتقديس واغتيال الخصوم المحتملين بالمدافع. التجويع صفة من صفات الطاغية، فهو لا يأبه أن يترك شعبه في حالة الفاقة ويطعمهم التهويل بالمؤامرة الخارجية واستهدافهم من الآخر البشع! الجوع في روسيا الستالينية وعراق صدام حسين، وهو اليوم متفش عند كيم إيل يونغ.
كل هذا التاريخ الذي أشرت الى القليل من بعضه هو تاريخ أسود في مسيرة البشر، فماذا يعنينا اليوم؟ لعلنا نلاحظ أن كل تلك المساوئ التي ارتكبها ويرتكبها الطغاة لا تردع آخرين في مكان آخر بعيد عن أن يؤمنوا بهؤلاء الطغاة ويمجدوهم. قد يتعجب البعض من أن الحزب النازي الألماني، على كل ما اقترفه ضد البشرية، وجد له مناصرين، فشكل حزباً نازياً في الولايات المتحدة وآخر في بريطانيا، مستفيداً من الحريات في تلك البلاد لبثّ أفكاره. واتّبع الكومترن التنظيم الدولي الشيوعي الذي اخترعه ستالين مجتمعات عديدة، منها مجتمعات عربية، بل ما زالت بعض الجماعات في دول عديدة تؤمن بتلك الأفكار على الرغم مما كشفت عنه ومن أهلها من انحطاط إنساني هائل، واليوم تصر بعض الجماعات العربية على الهتاف باسم صدام حسين، ويبني بعضها التماثيل له في وسط ساحات مدنه، كما يحاول بعض الليبيين إعادة التاريخ قسراً الى الخلف بإصرارهم على تنصيب رجال الماضي لقيادة المستقبل وتحقيق (الخليفة) للقائد!!
تلك الحقائق لا تقبل الشك، وهي أن المجتمعات تكرر أخطاءها، وأن البعض يصر على ربط نفسه ومصيره ووطنه بتجربة تحقق فشلها الإنساني والتنموي والأخلاقي، كما يفعل البعض اليوم في محاولة تكرار تجربة الحكم الإيراني في مجتمعاتهم، وهو حكم لا يبتعد كثيراً في نتائج ما تم على الأرض عن كل من الستالينية أو الهتلرية أو الصدامية، إلا أن المجتمعات بسبب عوامل كثيرة، وبخاصة إن تداخلت فيها المصالح مع الخرافة، لا تتعظ، وهكذا يُخلق الطاغية وتزيد آلام البشر!! فتش حولك هل ترى أحدهم؟؟
المصدر: النهار العربي