منذ نحو خمسين سنة وأكثر يتناوب العسكر على حكم السودان، ويزداد السودان فقراً وتخلفاً وحروباً داخلية تأتي في النهاية على تمزيق البلاد..
وتتراكم معاناة الشعب في شؤون عيشه، ومن فشل تنمية بلاده، رغم أنها محط أنظار المستثمرين (دولاً وأفراداً) ومن أنحاء العالم كافة، وغني عن القول التذكير بأن السودان واحد من أغنى البلاد العربية، بما يمتلكه من ثروات، وبخاصة الذهب الذي يتعرَّض، منذ زمن، للنهب والتهريب.. ناهيكم عن خصوبة أراضيه، وثروته الحيوانية، ورخص اليد العاملة.. كل ذلك يشكل بيئة مناسبة لاستثمار يحقق، وَفْق معطيات العصر من علوم وتكنولوجيا متقدمة، نتائج إيجابية تُسهم في نقل السودان من دولة فقر وتخلُّف إلى دولة رفاه وتقدم.
ذلك الحال هو ما دفع جموعَ الشعب السوداني إلى الثورة على أوضاعه ممثَّلاً بقوى الحرية والتغيير الشاملة لمعظم الحركات التي انبثقت عن عموم فعاليات مدنية متعددة، تمثل تنظيمات أهلية، وأحزاباً سياسية، ونقابات مهنية، وعمالية، وبمساهمة واسعة من جيل شاب، ودور خاص تميزت فيه المرأة السودانية، وقدمت الثورة خلال مسيرتها مئات الشهداء، أغلبهم قضى خلال “مجزرة فض الاعتصام” ناهيكم عن حالات الاغتصاب التي مارسها أفراد من العسكر دون أن ينال أحد عقابه، رغم معرفة الفاعلين، والوعود التي أُعطيت، بمحاسبة المرتكبين، مع بَدْء تقاسُم السلطة بين المدنيين والعسكريين.
لقد عجز العسكريون عن ليِّ ذراع الحركة الشعبية التي أدهشتهم بشدة زخمها، وإصرارها على تحقيق مطالبها، رغم الفظائع التي اقترفوها، إذ وجدوها حركة شعبية متجذِّرة في عمق المجتمع السوداني، ومعبرة عن وعي جيل جديد تماهَى، على نحو أو آخر، مع موجة الربيع العربي، وقد جاءت ثورة أكثر تنظيماً، وأشمل تمثيلاً لأطياف الشعب السوداني وأكثر جذرية في تطلعاتها. عند ذلك نظروا إلى الانقضاض عليها بأسلوب آخر فقاموا بانقلابهم على ولي نعمتهم..
وهكذا أُحيطت الثورة بظروف فرضت على قوى الثورة الأخذ والعطاء، والتعاطي السلمي مع الحذر الشديد ما مكَّنهم من الوصول إلى قواسم مشتركة والمضي قُدماً على طريق تحرير السودان من عوالق كثيرة تعود إلى مجمل تاريخه الحديث..
(وقد برز ذلك في الوثيقة الموقَّعة بين الطرفين، وهي نفس البنود التي عاد البرهان إلى تعليقها بانقلابه الأخير..) ورغم كل التعقيدات، استطاعت الثورة، وفي مدة قصيرة نسبياً، تمهيد الطريق أمام أهدافها متجاوزة الكثير من العثرات، وقد حققت نجاحات أهمها:
إجراء مصالحات مدنية وعسكرية على نطاق الداخل السوداني ما شكَّل شِبه إجماع حول جوهر أهداف الثورة في إطارها الديمقراطي الذي يفسح في المجال لحلول الكثير من التناقضات التي قد تحصل..
كما جرى نوع من التصالح مع الكثير من دول العالم الخارجي، بعيداً عن التكتلات والمحاور وسياسة الاستقطاب، وبما يمكن أن توفره الظروف الخاصة والعامة تلبية لحاجات التنمية، وبالتالي، لتخفيف معاناة الشعب السوداني، والسير في الاتجاه السليم.
ولا شك في أن عملية التصالح قد شابها القَبول بالتطبيع مع العدو الإسرائيلي، إذ أتت من جانب العسكر وقد بدأها عبد الفتاح البرهان بالذات الذي قاد الانقلاب الأخير إذ التقى بنتنياهو في شباط 2020.
بينما ربط حمدوك هذا الأمر بحكومة منتخَبة ديمقراطياً، أي بعد ثلاث سنوات وانتهاء المرحلة الانتقالية، في الحقيقة كانت نوعاً من الابتزاز، وأحدثت خللاً بين أطراف الثورة السودانية.
وخصوصاً أن وفداً إسرائيلياً زار السودان والتقى ببعض عسكره.. وقد يكون لانقلاب اليوم علاقة بهذا الأمر فلإسرائيل عين على السودان، إضافة إلى قضايا معقَّدة في السودان لا تُحَلّ بين ليلة وضحاها.
فهل يمكننا اليوم تصديق كل من شكّك بنوايا العسكر منذ بداية ذلك التحالف القائم على توازُنات لا تقرها النظم الدولية المعاصرة، (المتحضرة طبعاً بنظمها الديمقراطية)، فللسياسي دوره، وللعسكري دوره الآخر، وإن أبدى لنا ظاهر واقعنا العربي غير ذلك.. فوهج الثورة السودانية لم –ولن- ينطفئ ولن تذهب آمال كثيرة، سواء داخل السودان أم في محيطه العربي..
إنها ثورات حديثة لكنها، جذرية.. وهي انعكاس لحالة انقلابية في المنطقة كلِّها وفي كل البلاد التي دارت زمناً في فلك استبداد العسكر وسياسة الحزب الواحد والقائد الأوحد والرأي الذي لا يأتيه الباطل أبداً. وتبين التجارب أن النضال من أجل الحرية والديمقراطية أصعب من أي هدف سياسي آخر.
الحقيقة أن مستقبل السودان يرتبط اليوم بسؤال محدد هو: هل سينجح البرهان بانقلابه، مهما زعم وادَّعَى، بأنه سيتقاسم السلطة مع المدنيين، وهل سيجد بين الشعب السوداني في هذه الظروف المعقَّدة مَن يتحالف معه على غرار ما كان يحصل في كل انقلاب سابق فهذا غير مستبعَد.
على الرغم من مُضِيّ أسبوعين على الانقلاب، لم يتمكن البرهان من تكوين مجلس السيادة الذي يبحث عنه، وما زال طبعاً يدفع عنه ضغوطاً كثيرةً داخليةً وخارجيةً، ويُجري اتصالات لعزل حلفاء الأمس. فالواقع يشير إلى أن جُرْحاً بليغاً أصاب ذلك الجسم الذي قاد السودان خلال السنتين الماضيتين.. وأن العودة إلى ما قبل 25 أكتوبر 2021 قد غدت بعيدة المنال.. صحيح أن الأمور لم تُحسم بعد، وأن الانقلاب يعاني تعقيدات كثيرة فثَمة رفض شِبه تامّ من الإجماع العربي والدولي له.. إضافة طبعاً إلى جماعة الحرية والتغيير التي تُعيد ترتيب صفوفها.
أخيراً إن هدف الانقلاب وكل غايته: هو عدم تسليم السلطة إلى المدنيين كما نص الاتفاق قبل سنتين، فشهوة الحكم عند العسكر فتنة نائمة وقد واتاها الظرف المناسب فاستيقظت بكل وحشيتها.. ولدى البرهان ورفاقه مخاوف كثيرة من تسليم البشير للمحكمة الدولية خوفاً من أن ينكشف تواطُؤ بعضهم في مجازر دارفور.. إضافة إلى دور التطبيع مع إسرائيل الذي أُشير إليه فقد زار السودانَ وفدٌ عسكريٌّ إسرائيليٌّ ضِمنه عناصر من “الموساد” والتقوا بعسكر السودان ومنهم “أحمد حمدان دقلو” وقبل الانقلاب بأسابيع زار وفد عسكري سوداني إسرائيل فيه “دقلو” أيضاً..
ولكن ومهما يكن من أمر فالمراهنة على ثقة الشعب السوداني بنفسه، وبتعاضُده، وباحترام تضحياته، وبما حققه خلال السنتين الماضيتين من إنجازات باتجاه حُلم الديمقراطية المؤمَّل.
المصدر: نداء بوست