يوم الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر أعلنت قيادة مؤقتة أفرزتها معارضة انقلاب 25 تموز/ يوليو خارطة طريق للأيام والأشهر القادمة، وتهدف إلى إنهاء الوضع الاستثنائي والعودة إلى الشرعية الدستورية. يمكننا أن نطلق زفرة انفراج ونقول أخيرا أُشعل مصباح لأول الطريق/ وعلى ضوئه سيسير التونسيون المعارضون للانقلاب نحو مخارج معقولة.
المتشائمون أعلنوا النفير واستحضروا خطاب الوحدة الوطنية، وقالوا منذ الساعة الأولى بأن المعارضة ستقسم البلد. وهؤلاء لم يروا الرئيس المنقلب يغلق البلد في وجه الناس وفي وجه المستقبل، لذلك فالرد عليهم ليس موضوع هذه الورقة، بل سنزيد هنا في توسيع بؤرة الضوء ليتبين المترددون بقية الطريق.
لنصحح المفاهيم أولا
الذين التقوا في الندوة الصحفية المقموعة يوم الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر ليسوا معارضة بالمعنى الحرفي للكلمة؛ لأنهم لم يصلوا هناك بحكم الصندوق القانوني، بل هم لسان السلطة الشرعية المنتخبة وقد خرجوا لاستعادة وضع قانوني تمت قرصنته ممن وضعهم الصندوق في المعارضة.. المعارضة التي خرجت من الحكم بصندوق 2019 هي التي قامت بعمل قرصنة غير قانوني للسلطة وأكسبت نفسها صفة الحكم وقالت بأن من لم يكن معها هو المعارضة، وهذا خطأ في التوصيف وتحديد المواقع.
السلطة الشرعية وأنصارها هم من تكلم في الندوة، ولذلك فالمعارضة (القراصنة المنقلبون) هي التي منعت الندوة من الانعقاد، وهي التي تتهم مخالفيها بتقسيم البلد.
الشرعية تملك وحدها شرعية تحديد المفاهيم والتوصيفات، والشرعية تكلمت وأوجزت، وهي ذاهبة لإعادة الوضع الطبيعي طبقا لأحكام صندوق انتخابي شفاف وصريح. ندوة قائمة على شرعية الصندوق هي المرجع الأخلاقي والقانوني والسياسي الذي وجب الاحتكام إليه، وهذا لا يعني منع المعارضة (فريق القراصنة) من قول ما تريده، لكن دون أن تمنحها حق تحديد المواقع والمفاهيم.
من أشعل الفانوس في أول الطريق؟
أعني من هي القيادة التي ظهرت في الندوة الصحفية ليوم 8 تشرين الثاني/ نوفمبر؟ إنهم جماعة مختلفة المشارب متفقة على الأصل: عودة الشرعية. فيهم من اليسار طيف، وفيهم من الإسلاميين طيف، وفيهم من الليبراليين طيف آخر.. متعددون ومختلفون في الأصول ومتفقون في الخيارات السياسية حتى الآن، والخلافات مؤجلة بعد استعادة المسار، وهذا مطمئن لمراقب يشاطرهم المشروع ولا يلتزم بأفكارهم في هذه المرحلة ولا التي بعدها. لقد سقطت الشكوك حول نوعية القيادة المؤقتة للتحركات المناهضة للانقلاب، وليس مطلوبا الآن وهنا أن نبني دولة قادمة على الورق لنتجه إليها، فلكل حادث حديث.
كان من الأفضل إرفاق خطة العمل السياسي المؤقت بخطاطة (غير دقيقة) بما سيكون لاحقا، ولكن في خضم الصراع المحتدم مع الانقلاب يبدو هذا طموحا سابقا لأوانه. فالوقت يسمح بتأجيل المسائل القابلة للتأجيل، على ألاّ يتم ردمها بخطابات التوافق المغشوش في مرحلة لاحقة (هذه حظيرة عمل كبيرة في قادم الأيام).
القيادة التي ظهرت ليست من النهضة وليست من الطيف الاستئصالي، وقد استمعنا إليها وقرأنا لمن كتب منها وعاينّا مشاركتها السياسية السابقة. هؤلاء خامة ديمقراطية قادرة على العمل المشترك، وهذا مطمئن لقوة الحراك المعلن وتماسكه في تنوعه وقدرته على الاستمرار إلى حين تحقيق الإجماع الكافي لإنجاح مسار معارضة الانقلاب وإسقاطه ومسح أثره من تونس. ويمكن قراءة هذه الفقرة كدعوة إلى الإسناد السياسي والميداني في كنف الإيمان بقوة التنوع المفضي إلى التأثير الفعال في المستقبل المنظور.
منذ الساعة الأولى رجم الإعلام الموالي للانقلاب والسائر في ركابه – وهو إعلام يقوده استئصاليون محترفون منذ زمن ابن علي – الحاضرين بأنهم ممتص صدمات النهضة وأنهم مجرد غلاف خارجي لحزب النهضة الخاسر الأول من الانقلاب. ولكن الواقع ينفي ذلك نفيا مطلقا، لقد كانت النهضة هي الأضعف حضورا في الندوة وقيادتها لم تظهر في الصورة. وقد غاب خطابها التصالحي المهادن وصدر خطاب يتجاوزها، لقد سمعنا خطابا جذريا رغم بقائه تحت سقف القانون والدستور.
إن قيادة جديدة للشارع الديمقراطي تولد وتتكلم باسم قطاعات واسعة ارتقت فوق الشحن الأيديولوجي والاستئصالي، وهي مؤهلة للمزيد من النجاح. ربما عليها أن تبلور في سياق المعركة الديمقراطية الجارية بحماس بدائل الحكم القادم ضمن نفس العقل المنفتح على مكونات سياسية وفكرية مختلفة ولكن متفاعلة، وهذا أفق مفتوح يقتضي تجاوز النضالية الظرفية إلى إنضاج البدائل. لا شيء يمنع هذه القيادة المؤقتة من أن تتحول إلى نواة لقيادة دائمة بعد تأسيس تنظيمي يحمل مشروعا بعيد المدى للمستقبل. هذا بعض ضوء الفانوس الذي أوقد يوم 8 تشرين الثاني/ نوفمبر.
والآن ماذا بعد الندوة؟
أعدنا تحديد المفاهيم والمواقع، ووصفنا القيادة والاحتمالات المحمولة عليها، ولنا حق السؤال عن المستقبل المنظور. هناك حديث عن تحرك شعبي يوم 14 من الشهر الجاري يتجه إلى محاصرة البرلمان لفرض الأجندة المعلنة في الندوة الصحفية، وخلاصتها استعادة الشرعية ومسح آثار الانقلاب، لكن دون ذلك خرط القتاد (أي معركة كسر عظم مع الانقلاب). فالقوة الصلبة لم تغيّر مواقعها، وهي باسم حماية الدولة من الانهيار تقف إلى جانب الانقلاب (حتى أن الرئيس أعلن مباشرة عدم علمه بالندوة ولا يضيره إنجازها، وقد يكون ذلك تنصلا متأخرا من تبعات عمل معاد للحرية أمام رقابة دولية تتابع عن كثب).
الخطة (A) واضحة السير نحو البرلمان في جمهور واسع وطلب استعادة البرلمان لعمله الشرعي ومسح أثر الانقلاب بتشريع جديد، لكن في حالة توظيف الانقلاب للقوة الصلبة ماذا يكون رد فعل الجمهور الذي يعمل على محاصرة البرلمان؟ أين الخطة (B) والخطة (C)؟ هل يملك هذا الجمهور السلمي قدرة كافية على مواجهة قوات الأمن والجيش الذي يحاصر البرلمان؟
قد يكون في رأس القيادة الظاهرة خططها، لكن الجمهور (ونحن منه) حق السؤال عن الخطط الموازية. وها هو السؤال: من سيتحمل كلفة المواجهة الدموية؟ وهو سؤال يأتي لاحقا لسؤال آخر (كم سيكون الثمن؟) وكيف جرى الاستعداد له؟ هل يكفي القول بغرور نضالي شبابي أقرب إلى خطاب الطلبة أن من أسقط ابن علي قادر على إسقاط قيس؟
لقد أخذ ابن علي في طريق سقوطه 400 شهيد، فهل هذه القيادة جاهزة لهذا الثمن؟ أم أنها ستدفع ثمن الدم من جمهور النهضة الذي يحيط بها من بعيد؟ هذه الأسئلة ضرورية وتستبق خطاب التكتيك النهضوي وخطاب التوافقات النضالية حول مهام مؤقتة ثم (يكون خيرا إن شاء الله).. لا خير إلا في الرؤية الواضحة.
الخير في الرؤية الواضحة، وعلى من أشعل القنديل في أول الطريق أن يكون قادرا على تبيين بقية الخطوات أو التلميح لها على الأقل، ليسير من سار على بيّنة، أما دفع كلفة الوليمة من دم المضطهدين فممكن لكن ثمنه اللاحق مرير.
لقد اتضح الطريق ولا عذر لمن تخلف عن الخروج ضد انقلاب، لقد صار للشرعية خط سير واضح والمصباح يضيء طريق الجميع، وإنه فرز تاريخي ومستقبل وطن.
“عربي21″المصدر: