كان صباح الأربعاء الماضي دامياً في بقعتين متباعدتين ومتخاصمتين من سوريا. ففي العاصمة دمشق انفجرت حافلة عسكرية، تبيّن لاحقاً أنها تقل موظفين مدنيين في مؤسسة الإسكان العسكري. فلقي 14 فرداً مصرعهم، بينهم امرأتان. وبعد ما يزيد على الساعة استهدفت قوات النظام سوقاً شعبياً وطرقاً حيوية ومحيط بعض المدارس في مدينة أريحا الشمالية، مما أسفر عن مقتل 11 مدنياً، بينهم 4 أطفال وامرأة/ معلمة.
ليس هناك ما يشير إلى ترابط الحادثين، إلا في أن «الضحايا سوريون» كما يقول هواة دمج الشعر بالسياسة. فقد أتى الأول ضمن سياق متناوب من العمليات التي تتم في دمشق، أساساً، من استهداف قوات النظام أو حواشيها. وتتبناها خلايا نائمة مفترضة للثوار، كما فعلت «سرايا قاسيون» هذه المرة، أو «حراس الدين»، الفرع السوري الرسمي الحالي للقاعدة، الذي أعلن مسؤوليته عن تفجير باص مبيت للحرس الجمهوري في آب الماضي. أما القصف المدفعي الذي طال أريحا فهو مسلسل شبه يومي من التصعيد على أرياف إدلب مؤخراً، وإن بحصيلة ضحايا أقل في العادة.
كل شيء «طبيعي» إذاً، ومفجع ودام، في بلد يعيش حرباً. لولا أن تزامن الحادثين أغرى كثيراً من الكتاب والمعلقين والفيسبوكيين إلى المقارنة، أو افتعال الصلة، بينهما. واللافت أن المساواة بين ضحايا العملين بدأت قبل أن يتضح أن قتلى دمشق مدنيون. فحتى وفق الاستنتاج الأول عن ركاب حافلة عسكرية بأنهم من الجيش؛ بادر البعض إلى التسوية بين الجنود وبين الأطفال والمدنيين، مزاودين بذلك حتى على أرقى قوانين الحرب وأشدها صرامة ودقة! ولعل هذه من المساوئ القليلة للتبكير في الاستيقاظ وإبداء الرأي..
ومن جهة ثانية استمر آخرون في موقفهم المؤيد لعملية دمشق، حتى بعد أن عرف أن ضحاياها مجرد موظفين، ما داموا محسوبين، بشكل أو بآخر، على ملاك وزارة الدفاع كمستخدمين مدنيين. ولا شك أن العجز عن الوصول إلى أهداف أمنية وعسكرية، وتراكم القهر والخذلان والوجع، والرغبة غير الصحية في أي «شماتة»؛ هي الأسباب التي دفعت إلى فيض الدموية هذا، وتجاهل العدالة.
ومع ذلك تبقى لجمهور الثورة ميزة أنه رأى الحادثتين معاً، سواء عدّ ضحاياهما جميعاً شهداء، أو اعتبر أن هذه بتلك. أما جمهور النظام فقد تفجّع على ضحاياه دون أي اعتبار، وعلى الأغلب دون علم أيضاً، بما حصل يومئذ في أريحا، مما يعدّه من العمليات الحربية العادية أو من أكاذيب المعارضة. وهو موقف مألوف لهذا الجمهور الذي يرى بعين واحدة، ويعلي من شأن قتلاه وكأنهم من دم أزرق والباقين هوام!
أما محترفو التحليل السياسي وهواته، أو قل هواته في الحالين، فلا يصح عندهم أن تمضي الحادثتان في سبيلهما من دون رابط. لا مكان للمصادفة في العقل التآمري الذي يهمل جمع المعلومات بدقة ويرى أن «التحليل» مجرد نسج فرضيات. وعلى عادة هذا العقل في البحث عن سياق سياسي يعلّق عليه المسرحية المزعومة تلفت حوله فوجد اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف منعقدة. فلا بد أن النظام اختلق تفجير الحافلة، أو نفّذه بنفسه، ليقول للمجتمع الدولي إن المعارضة إرهابية لا تستحق أن يتفاوض معها. وإلا فلماذا الآن بالذات؟! كما يقول سؤال أثير لدى التآمرين، أعداء المصادفة وخصوم التوازي. ولا يضر هذا «التحليل» أنه عاش يوماً أو يومين فقط، بعد أن تبين عدم وجود صدى دولي ذي بال للحادثة، وأن التعطيل في جنيف مستمر بتفجير أو بدونه، فالعقل التآمري من دون ذاكرة. ولو رجع إلى أدائه المخجل عام 2012، يوم كان ينكر وجود «جبهة النصرة» وينسب عملياتها للنظام، مخترعاً تزامناً مع بعثة مراقبين هنا ومؤتمر لأصدقاء سوريا هناك؛ لفضّل السكوت.
ما الغريب في أن عاصمة في مواجهة مع ثورة مسلحة، وسّعت حدودها لتشمل مناطق كانت خارجة عن سيطرتها في محيطها؛ قد تتعرض لتفجير هنا أو هناك كل عدة أشهر؟ ألا يحدث هذا في كل بلد يشهد اضطرابات في العالم، ونتعامل مع الخبر على أنه من البديهيات حين تنقله القنوات؟ لماذا البحث عن تأويلات معقدة طالما التفسير الواضح البسيط متاح؟ هل يبدو مفاجئاً أن يقصف النظام أريحا؟ وهل من المحال أن يتوافق ذلك مع يوم استطاعت فيه خلية من بقايا الجيش الحر تنفيذ عملية كهذه، باستخدام عبوة ألصقت في قطنا، حيث تبيت الحافلة قبل انطلاقها إلى مشوارها اليومي؟ ثم تفجيرها لاحقاً عند جسر الرئيس، والذي تطل عليه حديقة فسيحة مفتوحة؟ لماذا المسارعة إلى إطلاق صفة «مربع أمني» على أي منطقة، ربما كانت بؤرة للفوضى والمارة واختلاط القادم بالمغادر؟ أصلاً أليس من مهمات المجموعات السرية، ومصاعب عملها، أن تخترق المربعات الأمنية؟
عند جمهور الثورة يمكن ردّ شيوع هذه التفسيرات إلى الهزائم العسكرية أمام النظام في السنوات الأخيرة، مما رفع صورة «الغالب» إلى مصاف من الأسطرة يبدو معها وكأنه كلي القدرة. فهو يخترق الفصائل العسكرية؛ جواسيسه في قمة هرم المعارضة السياسية؛ رجاله «يسرحون ويمرحون» في أوروبا؛ علاقاته المخابراتية وطيدة مع دول العالم؛ اتفاقياته السرية مع إسرائيل لضمان بقائه مستمرة… إلخ. وما إلى ذلك من الأوهام الصلبة المنتشرة على نطاق واسع.
لكن الصعوبة تكمن في فهم قراءة الجمهور الموالي لتفجير الحافلة. فالشائع، هناك أيضاً، أن لا خلايا نائمة ولا من يستيقظون. وأن هذه الحادثة ما كانت لتتم لولا تساهل ضباط فاسدين، أو حتى تخطيطهم وتنفيذهم. والدليل أن ضحاياها من «الفقرا»، الذين ينهضون من أسرّتهم قبل الضوء ليركبوا حافلة تقطع بهم من أقصى دمشق إلى منتهاها، ليصلوا إلى عملهم المتواضع في مخيم الوافدين. ولو أن «الجماعات المسلحة» وراء الحادث لاختارت هدفاً جدياً. أما لماذا قد يفعل هؤلاء الضباط، ومن ورائهم النظام، ذلك؟ فليس هناك جواب يستحق الاهتمام في الوسط الموالي الذي لا يبدو أقل تيهاً، تحت وطأة أزمات المعيشة، من مواطنه الثائر. ولعل هذه من المرات القليلة التي ما زال يستقيم فيها أن نقول إن الشعب السوري واحد، سابحاً في الشكوكية الخِلدية، متقلباً بين حبال المؤامرات التي لا تنتهي عليه، محشواً بالسينيكية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا