لعقودٍ خلتْ، وتأسيساً على تجارب عملية، توصل السودانيون إلى صكَّ مقولة متفردةٍ – وذائعةٍ على حدٍ سواء- بأنه لا يمكنك التنبؤ في بلادهم بأمرين: «أحوال الطقس والسياسة».
ومع وجود تقنيات حديثة وموثوقة إلى درجة كبيرة فيما يخص التوقعات الجوية، يكون السياسي السوداني اليوم، بِدعاً، يصعب قراءة تحركاته، أو محاولة استقراء إلى أين يذهب، هذا وإن كانت كل المعطيات مبذولة ومتاحة أمامك ناظريك.
عليه، فإن أي محاولة لوضع الانشقاق الذي وقع داخل قوى الحرية والتغيير «الائتلاف الحاكم» داخل أطر التفسيرات الموضوعية، لا يعدو كونه اجتهاداً لا ينبغي له أن يُقرأ بمعزل عن المُباغتة والإرباك كسلوك يسم الساسة السودانيين.
وعقب ضياع ثورتين شعبيتين (أكتوبر 1964 وأبريل 1985) ظنّ كثيرون أن ساسة السودان وبعد إنجاز الثورة التي أطاحت بالجنرال عمر البشير، وعوا الدرس جيداً، ولن يكرروا ما جرى في ثلاث ديمقراطيات سابقة، هزيلة وقصيرة الأمد، انتهت إما بتبرمهم من قواعد اللعبة الديمقراطية ذاتها، أو بقنوطهم من التجربة، حد إعلانهم تسوية الأرض أمام مرور مجنزرات الانقلابيين، وفي الصدد تبرز المقولة الشهيرة لزعيم المعارضة في البرلمان بحقبة الديمقراطية الثالثة (1986 – 1989) الشريف زين العابدين الهندي قبل أيام من انقلاب البشير: «ديمقراطيتكم دي لو شالها كلب ما بنقول ليه جر».
لكن لندع جانباً الشخصي والذاتي –على تأثيره البالغ- ومحاولة قراءة الوضع الذي وصلناه اليوم من خلال تقديم قراءة موضوعية تبحث في أين كنّا، وماذا أصحبنا، وإلام نصير.
سدرة منتهى التعقيد
على طريقة الأيقونة «ذهب مع الريح» سنبدأ بتركيب المشهد بما يجري اليوم، وننسدل في النقاشات إلى بداياته التي اعتملت والجميع قد توافق في كانون الثاني/يناير 2019 على الإطاحة بالبشير.
وطبقاً للشمهد الماثل، انشقت قوى الحرية والتغيير الحاكمة إلى شقين (المجلس المركزي – الميثاق الوطني) ويحاول كل فريق جاهداً أن تكون له الغلبة في الأمر.
يحدث ذلك تحت ظلال مكون عسكري يتحرك بعقل جمعي ودراية كبيرة بنواحي تمكين سلطاته أحياناً بنعومة وآخر باستخدام لغة عسكرية آمرة، وفي أرجاء شارعٍ ملّ مماحكات الساسة ولكنه مُتمسك بعدم الرجعة إلى حقب العسكرتاريا والشموليات، وليس بعيداً عن صراع دولي ومحاور تهدف جمعاء إلى تحقيق مصالح قد تتقاطع أو تتباين مع رؤى السودانيين.
وتتكون قوى المجلس المركزي من أحزاب (الأمة القومي، التجمع الاتحادي، البعث العربي الاشتراكي، المؤتمر السوداني) فيما تبدو الحركات المسلحة على رأس فصيل الميثاق، بقيادة حركة العدل والمساواة، وحركة جيش تحرير السودان، والتحالف الديمقراطي للعدالة (تكون حديثاً) علاوة على أحزاب كانت إلى وقتٍ قريب جزءا من مجموعة المركزي كالبعث السوداني على سبيل المثال لا الحصر.
وفي مشهد الصراع الحالي بين الفريقين تطل من المركزية أسماء وزراء وعضوية سكرتاريا المجلس وعناصر لجنة التفكيك (إبراهيم الشيخ، محمد الفكي سليمان، خالد عمر يوسف، جعفر حسن، وجدي صالح، صلاح منّاع) في المقابل تبرز قيادات الحركات المسلحة: وزير المالية جبريل إبراهيم، وحاكم دارفور مني أركو مناوي، ورئيس مسار الوسط التوم هجو، والمدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية مبارك أردول.
وبقفزة سريعة للخلاف المتفجر حالياً، نجد أن قوى الميثاق الممثلة بوزراء في الحكومة، تطالب برحيل ذات الحكومة، وكسر احتكار من تسميهم بمجموعة الأربعة للسلطة.
لكن هذه المطالب -ودونما تجريم- ذات مطالب المكون العسكري الذي تصاعدت أزمته مع رصيفه المدني، فنقل جنوده برقعة الانتقالية من عهد الشراكة، إلى عهد التهام كيكة السلطة والاحتفاظ بها في نفس الوقت، من خلال الحديث عن وصاية الجيش على أمر البلاد، والمناداة بتوسعة الحاضنة السياسية للحكومة لمعالجة إخفاقات المدنيين المكرورة.
في المقابل، تعتقد قوى المجلس المركزي بوجود مساعٍ حثيثة للانقلاب على الوثيقة الدستورية المؤسسة للفترة الانتقالية من قبل العسكر، برعاية حاضنة سياسية بديلة للحكومة قوامها كيانات إما انتهازية وإما على صلة بالنظام المعزول، وفي أحسن الحالات متكتلة على أسس قبلية وجهوية.
ويصحُ بشكلٍ كبيرٍ، القول إن العسكر وقوى الميثاق يجدان الدعم من مناصري النظام المعزول الذين يعملون على زيادة اصطراع أجنحة السلطة، علّهم ينتهوا وقد استعادوا فردوسهم وعرشهم المفقود.
مغاليق موصدة
وعودة للمشهد الحالي، تجده وأنّا قلبت وجهك، مُنسداً ومغلقاً، فالعسكر جمدوا شراكتهم فعلياً في السلطة وينتظرون اختناق حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بفعل أزمات الاقتصاد لا سيما مع دخول إغلاق موانئ البلاد على البحر الأحمر شهره الأول.
قوى الميثاق، اصطفت هي الأخرى إلى جوار العسكر. وإن أنكر قادة الجماعة مساعيهم لتفويض أصحاب الياقات المرصعة بالنياشين والدبور؛ فإن مواقفهم تضع عملياً مزيدا من العصى في دواليب الحكومة المدنية، لا سيما بنصبهم لاعتصام أمام باحة القصر الرئاسي منذ أسبوع تقريباً، لحل الحكومة القائمة والإتيان بحكومة جديدة.
وخلال أسبوعٍ الاعتصام، انشغل دعاته بذّم أقرانهم في السلطة من المدنيين، أو في تقديم مبررات لأسباب استمرارهم في الحصول على امتيازات المناصب الحكومية أو التعبير عن سياسات من يريدون العمل على إسقاطهم، متحاشين الإجابة على تساؤلات من شاكلة من يعنونهم بالمشاركة الواسعة، أو النسب التي يراد لها أن تظهر في عملية اقتسام السلطة.
الأفدح، أن الاعتصام المقام حالياً، يتحول مع مرور الوقت إلى مهدد أمني خطير. دعك من تعويقه لمسارات حركة المرور، ولنمر إلى تصريح رئيس مسار الوسط، التوم هجو، حين سئل عن الجهة التي تحمي مسيراتهم، فقال بكل عفوية إنهم لا يحتاجون إلى حماية من أحدٍ، فغالبهم جنود مدربون!
وفي اعتصام الجند المدربون، وملاذ عناصر النظام المعزول ممن يحملون أضغاناً على الثورة والحكومة المدنية، يمكن أن نقرأ التفلتات التي تجري سواء على هامشه أو حتى داخل أسواره، وفي الصدد يكفينا ما رشح عن اعتداءات تمت بحق عددٍ من الزملاء الصحافيين وآخرهم طاقم «بي بي سي» لتبيان كيف تتم معاملة الآخر المختلف.
لكن الأهم من ذلك كله، إن الاعتصام ما يزال منعقداً، رغم أنف الشارع الذي خرج في مليونيات هادرة الخميس الماضي لتأييد الحكم المدني، وذم سلوك العسكريين وجماعة الميثاق.
وفي محاولة لقراءة هذا الموقف مع طرق عمل تكفير السياسي السوداني، نجد أن قادة الميثاق ظهروا قبل أن تكتمل عودة الثوار إلى منازلهم من مليونيات الحكم المدني، بمحطات التلفزة العالمية قائلين بأن هذا الخروج كله أو جله لصالح جماعتهم، ولصالح إبراز تبرم الشارع من قوى الائتلاف الحاكم وحكومتها الفاشلة المتضعضعة!
وإن صحَّ إن الشارع فيه تضجر وتململ من أداء المكون المدني في الحكومة، فإنه من الخطأ بمكان قراءة ما يجري بأنه استدعاء للعسكر، أو قوى شبه عسكرية وأصحاب صلات بالنظام المعزول.
في مقابل هذا المشهد شديد التعقيد، يواصل قادة المجلس المركزي وبشكلٍ كبير، استهلاك خطاب المظلومية وتصوير كل دعوة لتوسعة الحاضنة الحكومية أو نقد لأدائها بأنه صوت الفلول.
وهذا لعمري، أمر يحتاج إلى وقفة، فمنذ الإطاحة بالبشير لم تستطع هذه القوى التوافق على الحد الأدنى من اشتراطات العمل التحالفي، وكان نتاج ذلك تجميد حزب الأمة القومي لنشاطه بالتحالف قبل أن مزوالته أخيراً، وخروج الحزب الشيوعي المؤثر بأرصدته السياسية وقدراته في تعبئة الشارع، والأنكى بشق صف تجمع المهنيين السودانيين الذي يعد رأس رمح الثورة السودانية، ثم أخيراً بأهمال الدعوات المنادية بإصلاح التحالف وتخوين أصحابها الذين باتوا لقمة سائغة لجماعة الميثاق ومن ورائهم العسكر.
أيضاً، من خلال فترة تحالفهم مع العسكر، برز التناقض غير ما مرة في سلوك وتصريحات المدنيين، إذ يصدرون الموقف وعكسه، من دون معرفة ما إذا كان ذلك يتم عن جهل أو من باب تبادل الأدوار.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فوزراء المكون المدني كثيراً ما يضفون عبارات الانسجام والتناغم لتوصيف علاقاتهم بالعسكر في مقابل خطاب تعبوي ثوري يشكو من استيلاء عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان حميدتي على كثير من الملفات هذا مع التأكيد على أن دورهم في مجلس السيادة لا يعدو كونه تشريفياً لا أكثر ولا أقل.
وزيادة في الاستدلال، نجد عدة خطابات للمدنيين الحاكمين بشأن مسألة التطبيع مع دولة الكيان، وشركات الأمن والجيش، وكذلك تبرز معضلة تعاطيهم مع ملف العدالة ضد مرتكبي مجزرة فض الاعتصام، حيث يرى كثيرون بأنه ينطوي على كسل يحول دون تسريع وتيرة التحقيقات، وعجز قد يكون ناجما عن مخاوف من تبعات تسمية المدانين بين ردة فعل العسكر والشارع، زد على ذلك الرأي القائل باستخدامهم لهذا الملف ككرت ضغط يُلجا له عند الحاجة، أسوةً بما جرى في الصراع الأخير بنداءاتهم للمسارعة في إزاحة الستار عن نتائج تحقيق اللجنة المستقلة التي يقودها المحامي نبيل أديب.
العودة للعقل والمنطق
هذه بعض التعقيدات التي تمور في المشهد السوداني، ويمكن حلحلتها عبر اجتراح تسوية مرضية لكل الأطراف.
ومع إقرارنا ابتداءً بصعوبة استمرار الحلول القائمة على تسويات سياسية، أو استمرار تماسك الأجسام التحالفية، لأسبابٍ جلها ذاتية أكثر منها موضوعية، سيكون الحل في إعادة ترسيم المشهد بصورة عقلانية بأنه: صراع بين دعاة التحول المدني الديمقراطي والانقلابين على حد قول حمدوك.
لو وصلنا إلى هذا الأمر، سنجد أن جميع الأطراف داعمة لهذا الموقف، طوعاً أو كرهاً وبدرجات متفاوتة.
المجلس المركزي تجد هذه الأطروحة دعمه المطلق، لكون جزء مقدر من الشارع يرى إن تصحيح المعادلة القائمة يكون بتصحيح مسار المكون المدني، وما عليهم هنا سوى العكوف على إنجاز هذا الأمر بالسرعة المطلوبة، وهو أمر هين، لكن إن تحلو بالشجاعة والصرامة في تعاملاتهم مع نظرائهم العسكريين.
الميثاق الوطني، وإن كانت لديهم ميول للعسكر أو الحلول العسكرية، فلن يقدروا على التصريح بهذا الرأي بواحاً، خشية من ذات الشارع الذي يرى أن العسكر لا صلة لهم بالسياسة، وينحصر دورهم فقط بحماية النظام الدستوري، والبلاد من الغزو الخارجي. بالتالي فإن هذا المعسكر يبدو مؤيدا للأطروحة من منصة براغماتية، ولكنه في نهاية المطاف تأييد ودعم.
العسكر، وإن كانت لهم أطماعهم في السلطة، فإن مخاوفهم مُضاعفة من الشارع المحلي والمجتمع الدولي الذي لن يرضى إلا بتنفيذ الوثيقة الدستورية كاملةً من غير سوء بالمدنيين. لذا مهما علا صوتهم فإن مصالحهم تكمن في أجواء شراكة معافاة مع المدنيين قادرة على تغيير الصورة الذهنية عنهم في الشارع السوداني.
إذاً ومع الاتفاق على هذه النتيجة القائلة بأنه لا مجال للعودة إلى الانقلابات والديكتاتوريات، يمكن أن يبدأ أطراف المشهد في إيجاد صيغ مناسبة للحكم تبقي على الحق التاريخي لقوى المجلس المركزي، وتتوسع ولو قليلاً في المجلس لقوى الميثاق، كما وتعطي تطمينات للعسكر بأن أدواراهم أساسية وغير سياسية في المعادلات الجديدة، شريطة أن يجري ذلك كله مع خطى سريعة الوتيرة لتحقيق أهداف الثورة المُعطلة، ولتكن البداية بحل الضوائق المعيشية.
هكذا هو منطق الأمور، ومنطق الشارع البسيط الذي لا يزال يبز الساسة بآلاف السنوات الضوئية من خلال تبني مواقف غاية في المبدئية والنصاعة. هذا هو المنطق الذي يعد أبرز أداة ووسيلة غائبة تقريباً عن الفعل السياسي السوداني منذ عقودٍ خلت وتصرمت.
المصدر: القدس العربي