تكاد قضية المعتقلين والمغيّبين في سورية – كقضية مجتمعية إنسانية – أن تكون هي الأكثر تعقيداً في المسألة السورية، بل ربما بلغت درجة من التشعّب والاستعصاء تتجاوز الاستعصاءات التي تشهدها المسارات الأخرى، كالمسار السياسي أو الدستوري … إلخ. وفي البحث عن أسباب الأزمة لن يكون ثمة شك في أن ظاهرة الاعتقال والتغييب القسري بتداعياتها الراهنة الموجعة هي المُنتَج الأبرز والأشدّ شناعةً لنظام الأسد، عبر حقبتي – الأب والإبن – ما يعني أن جانباً من جوانب تعقيدها ينبثق من مسارها التراكمي منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة، بل وما تزال تنحو صعوداً في تأزّمها وازدياد تداعياتها على المستوى الإنساني.
ربما لا يحتاج المرء إلى مزيد من الإيضاح عن موقف نظام الأسد أو تعاطيه مع قضية المعتقلين، ذلك أن ذهنية السلطة الأسدية أو منهج تفكيرها بعيد كل البعد عن مفهوم المعارضة السياسية أو الآخر المختلف أو حتى خصومة الرأي، بل إن مبدأ ( الولاء المطلق) هو المعيار الناظم لسلوك المواطن، ومن خرج ولو بدرجة بسيطة خارج هذا المعيار فهو عدوٌّ بالمطلق، وإن طبيعة التعاطي مع هذا ( العدو) لا تحتمل أيّ درجة من درجات المهادنة، بل إن مبدأ الإجهاز على العدو واستئصاله هو السلوك الممنهج للسلطة منذ الانفجار الذي حصل في بداية الثمانينيات وحتى الوقت الحاضر، ولعل هذا ما يفسّر بعض الأسباب التي جعلت من حالة الاعتقال قضيّة مستعصية على الدوام، إذ ما تزال السجون والمعتقلات السورية مكمناً لأسرار رهيبة هائلة لم يُكشف النقاب عنها بعد، ولعلّ أكثر هذه السجون إيغالاً في السرّية هو سجن تدمر العسكري الذي كان قد جعله حافظ الأسد مسرحاً للتصفيات الجسدية لآلاف المعتقلين دون أن تبلغ السلطات ذويهم بمصير أبنائهم، بل تؤكّد التقارير الصادرة حديثاً عن جهات حقوقية سورية ودولية، بأن عدد المفقودين من معتقلي أوائل الثمانينيات فقط يزيد على نحو ( 17000 ) مفقود، وما تزال السلطات السورية تمتنع عن الإدلاء بأي معلومة تكشف عن مصير هؤلاء.
ولعلّ ما عزّز حالة التعتيم على قضية المعتقلين في فترة حكم الأسد الأب، هو ندرة النشاط الحقوقي أو انحساره في نطاق محدود، وذلك بسبب ارتفاع منسوب البطش والتوحّش الذي تمارسه السلطة حيال أي مسعى من شأنه أن يسلّط بعض الضوء للكشف عن الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان في سورية، بل غالباً ما كانت الجهات الحقوقية، سواء أكانت جماعات أو هيئات أو أفراداً، هدفاً للسلطة ( سجناً وتصفيةً وتعذيباً )، فضلاً عن اتهام النظام لتلك الجهات بالخيانة والعمالة لجهات خارجية.
لم تأتِ الحقبة الأسدية الثانية بمنهج أمني مغاير لسابقتها، بل يمكن التأكيد على أن نهج التوحّش قد ازداد وحشيةً، سواء من حيث الارتفاع الهائل لعدد المعتقلين والمغيبين، أو من حيث التصفيات الجسدية في السجون، واستمرار التعذيب كتعبير عن نزعة انتقام السلطة ورغبتها بالتنكيل بخصومها،ولكن الجديد الذي لم تتمكّن سلطات الأسد أن تحول دون حصوله هو ( الوعي المقاوم ) الذي ولد ضمن سياقات الثورة السورية، ولعل من أبرز أشكال هذا الوعي هو النشاط المدني على مستوى حقوق الإنسان، بما في ذلك ممارسات النظام بحق المواطنين وتوثيق حالات الإعتقال والتغييب والاختفاء، والكشف عن كل ما يُعدّ مساساً بحقوق المواطن السوري، وتكفي الإشارة إلى أنه خلال السنوات العشر التي خلت، أصبحنا نشهد عدداً وفيراً من الكيانات والأطر التي تعمل في الحقل الحقوقي والإنساني، إضافة إلى الجهود التي تبذلها شخصيات حقوقية وازنة لدعم القضية السورية، ولكن على الرغم من هذا الفارق النوعي فيما يخص الحراك الحقوقي بين الحقبة الأولى والثانية من الحكم الأسدي، فإن قضية المعتقلين ظلت تعاني من حالة الاستعصاء والانسداد ذاته، وبعبارة أدق يمكن القول: لئن لم تتغيّر طريقة تعاطي السلطة الأسدية مع ظاهرة الاعتقال، فذلك يعود إلى استمرار المنهج الأمني ذاته، ولكن ما الذي يجعل طريقة تعاطي المعارضة السورية مع ظاهرة الاعتقال ثابتة لم تتغيّر هي الأخرى؟ وإن نجدها تغيّرت من طرف الأداء وبعض الوسائل، إلّا أنها ظلت معدومة النتائج، هل سبب العطالة أو العقم هو عدم تفاعل المجتمع الدولي؟ لعل هذا صحيح، بل من الصحيح أيضاً أن الجهات الحقوقية العالمية لا تملك القدرة على إلزام أي طرف بقراراتها، ومن المهم جداً أن نؤكّد على الدور المعطل لمجلس الأمن الذي بات يخضع لنفوذ الدول الكبرى ومصالحها قبل أي اعتبار إنساني، ولكن على الرغم من جميع هذه المعوقات والمسببات، فإنه لا يمكن أن نغفل العقم الكامن لدى أصحاب القضية، أعني دور الكيانات والأطر السورية المعَارِضة.
لا أحد ينكر أن لدى السوريين اليوم من المصادر وقواعد البيانات وأسماء المعتقلين الكثير بل الهائل من المعلومات، ولكنها موزعة بيد عدة جهات لا تعمل موحدةً، ولم تستطع ، أو ربما لم تشأ هذه الجهات أن تميّز بين توجهاتها السياسية والإيديولوجية التي تتيح لها الاختلاف والتباين، وبين العمل على قضية إنسانية – كقضية المعتقلين – هي فوق الإيديولوجيا والسياسة، ولمزيد من الإيضاح يمكن الإشارة إلى الآلية التي تنبثق عن رؤية كل من الإئتلاف ومنظمات المجتمع المدني وهيئة التفاوض بخصوص ملف المعتقلين، فالأول لديه هيئة تُدعى ( هيئة المعتقلين) تعتبر نفسها المرجعية الأساسية باعتبارها منبثقة عن كيان سياسي سيادي، وتشتكي على الدوام من شح المعلومات وقلة المصادر بسبب عدم تفاعل منظمات المجتمع المدني مع الائتلاف، بينما تبرر منظمات المجتمع المدني عدم تعاونها أو تنسيقها مع الائتلاف بسبب تعامله الاستعلائي ونظرته التي لا تخلو من النزعة التسلطية، في حين تسعى هيئة التفاوض إلى استغلال هذا الشرخ القائم بين الائتلاف ومنظمات المجتمع المدني لتؤكد أحقيتها في الإمساك بهذا الملف باعتبارها هي الجهة التي تفاوض النظام. أليس ما يبعث على الريبة والاستغراب مرور عشر سنوات، أعتُقل خلالها أكثر من مئة ألف من السوريين ومثلهم من الذين قضوا نحبهم في المعتقلات، دون تبلور رؤية وبرنامج عمل وطني واضح وموحد بخصوص قضية المعتقلين والمعتقلات؟ ولعلّ ما هو أدهى وأمرّ هو ظهور عدد من الجماعات والأفراد تدّعي أنها تقوم بتشكيل لجان وهيئات للمطالبة بالمعتقلين، دون أن يمتلكوا أدنى مقوّمات العمل من أجل هذه القضية، بل واقع الحال يؤكد أنهم أبعد ما يكون عن التفكير بالمعتقلين، في مسعى واضح ووحيد هو التسوّل والبحث عن جهات مانحة للتكسب والارتزاق، فهل سيتحوّل وجع السوريين وفجائعهم إلى وسيلة للاعتياش المشبوه لدى معدومي الضمير؟.
المصدر: تلفزيون سوريا