كتب الصديق د مهيب صالحة يذكر بأن سعر علبة الفول المدمس وصل الى سبعة آلاف ليرة سورية ، فاجترحت هذأ المقال : اولا ، ارجو ان تكون بالف خير عزيزي مهيب ، وقد قهرت الفيروس اللعين !تانيا ، بما انك ذكرتنا بالفول المدمس الذي اصبحت العلبة منه ، التي لاتسكت معدة انسان لساعتين ، بسبعة الاف ليرة سورية هذه الايام ، فلا بد من التذكير بما اورده الكاتب الكبير باتريك سيل في كتابه الثاني عن سورية الذي صدر قبل اكثر من ثلاثين عاما ، يوم كانت سورية ، بزعمه ووهمه ، تدير وتتحكم بالصراع على الشرق الاوسط ، بعد ان كانت ، حسب كتابه الاول عنها عام ١٩٥٧ ، موضوعا للتصارع عليها بين الدول الاقليمية المحيطة والمشاريع الاستعمارية العالمية _ الصهيونية ، ( وكأن التاريخ يعيد نفسه منذ عشر سنوات ولكن بصورة هزلية ساخرة ، حسب تعبير كارل ماركس ، حتى بات الكثيرون يقولون : ليتها بقيت موضوعا لتصارع الاخرين ، وحسب ، اذ ان شعبنا كان انذاك شامخ النفس قوي العزيمة ، وموحدا وطنيا ، لدرجة ثباته في مواجهة تهديدات وحصارات الاحلاف والمخططات الامبريالية الصيهيونية التي كانت تضيق عليه الخناق ولكن دون ان تضعف او تفت شيئا من عضده وتمسكه باستقلال بلده وعدم تقبل ان تدوس اية قوة على طرف ثوبه !
المهم ، باتريك سيل جاء على سيرة الحمص والفول في مطلع كتابه الثاني الكبير، وهو يروي عن نشاة حزب البعث ومؤسسيه عام ١٩٤٧ ، وقد وصفهم بالشباب المثقف الذين يعملون بشكل اساسي معلمين في المدارس ، مثل ميشيل عفلق وصلاح البيطار واخرين ، ويصور صفحة من عاداتهم الغذائية بانهم اعتادوا ان ياكلوا الفول والحمص في مطعم صغير على الزاوية في منطقة ” البحصة ” ، المنطقة التي توجد فيها الان البناية الكبيرة المسماة “المحافظة ” التي تضم مكاتب مسؤولي محافظة دمشق . وكانت ، وما زالت، اكلة الفول والحمص من اهم الاكلات الشعبية المعروفة بطيب مذاقها وقدرتها المعتبرة على الاشباع واسكات المعدة بثمن زهيد ، مقابل قيمتها الغذائية العالية ، مع رفد الفول والحمص بالبصل الاخضر والليمون والنعناع والبقدونس والفجل والخيار والمخللات من نتاج الغوطة الغناء ، واغراق الفول والحمص بزيت الزيتون السوري الوافر المميز ( وكلها قد اصبحت ، ايامنا هذه ، من المشهيات التي يستطيع فقط ان يحلم بها ثلاثة ارباع الشعب السوري ، وترتفع النسبة الى تسعين بالمئة ، اذا اضفنا الى هذا الصحن الفاخر الخبز الطازج الفواح الرائحة “راسه بعبو” ( هذا الكلام حتى هنا اضافة من عندي من مفرزات هذه الايام التي رحم الله باتريك سيل قبل ان يعاينها ويعاين الشعب السوري الحي معها ) .
يروي باتريك سيل ان مؤسسي حزب البعث المعلمين ميشيل عفلق وصلاح البيطار كانا ياكلان من تحت يد صاحب هذا المطعم بكلفة ١٥ قرشا سوريا فقط للصحن الواحد ، هذا مع اعادة تعميره مجانا غب الطلب باشارة معروفة بكلمة “صلحو”! ويضيف باتريك سيل : ان الكلفة ترتفع الى ٢٥ قرشا اذا كانت رغيف الخبز من عند المطعم ، ومن اجل توفير خمسة قروش في كل وجبة كان المعلمان يحملان معهما من البيت رغيف الخبز لان قيمته هي خمسة قروش فقط ، فقد كانا يعيشان على الراتب( الذي لم يكن يتجاوز ١٥٠ ليرة شهريا ، او اقل ، كما اظن ) ، بدلا من دفع عشرة قروش ثمنا لرغيف الخبز الى صاحب المطعم !
بالطبع ، ان الكاتب الحصيف ترك المثال الفاقع هذا بدون اسقاط على الواقع المستحدث ودون ان يقول ان احفاد ذلك الجيل المؤسس للبعث ، وقد اصبحوا ” آلهة ” ، قد تناسلوا و وتكاثروا جتى اصبحوا يفاخرون الأمم ، بالطبع ليس باكلة الفول ، وانما بثروات لم تعد السموات والارض تسعهم وتسعها ، داخل وخارج الحدود ، لشعب لم يعد راتب المعلم منه ، وانت سيد المعلمين ، يا اخي مهيب ، يشتري اكثر من عشرة علب فول في الشهر ، حسب السعر الذي تذكره ، ينذكر ولا ينعاد !
ومن العجب ان ترى اولئك المؤسسين للبعث يحرصون على توفير الخمسة قروش في اليوم ، علما ان راتبهم ، قبل سبعين عاما ، كان يشتري ١٠٠٠ علبة فول ، اي انه كان اكبر بمائة مرة من الراتب الحالي ، فقط لاغير ! ، دون حساب ثمن وفوائد المازوات والمقبلات من الخضروات والليمون وزيت الزيتون العفريني السوري البكر !
وانه ل “تقدم” لا يمكن لعقل بشري سوي ان يحيط به ، فما بالك بعقل “منحرف” ، مثل عقلنا ، نحن ، الارهابيين ، الذين دمرنا سورية واخرجناها ، دولة وشعبا واقتصادا وتاريخا وحاضرا ومستقبلا ، من التاريخ والجغرافيا ، نحن الارهابيين ، وفق تصنيف “الآلهة” ، من احفاد أولئك المؤسسين ، آكلي المدمس والاخضر من المشهيات ب ٢٠ قرشا ، فقط لاغير !
ترى ، اين كانت قد اصبحت سورية اليوم ، مقارنة بما كانت عليه قبل سبعين عاما ؟
المصدر: صفحة الدكتور عارف دليلة