ضاعت العهدة الثانية في “شراء الذمم” وإبعاد الخصوم وتجاهل التقارير الأمنية التي كانت تحذر من تعاظم الفساد وانتشار رقعته.
بِرحيل الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة عن الحياة ليلة الجمعة 17 سبتمبر (أيلول) عن عمر ناهز 83 سنة، تكون الجزائر قد طوت صفحة الرجل السياسية بانتظار تسطير صفحته التاريخية، بحكم الحياة الحافلة بالأحداث التي ميزت مساره الطويل، الذي بدأه وهو أصغر وزير شاب في عهد الجزائر المستقلة إلى أكثر رؤساء البلاد مكوثاً في كرسي الرئاسة.
عشرون سنة قضاها الرئيس الراحل بوتفليقة (1999-2019) في قصر المرادية من دون احتساب السنوات التي سبقتها، تحتاج إلى وقفة وقراءة في تفاصيل الأحداث لتفكيك أسرارها وخباياها. فلقد وجد خليفة اليمين زروال في بداية حكمه شهر أبريل (نيسان) 1999 بلاد مُنهكة على الجبهات كافة على خلفية حرب أهلية حصدت قرابة ربع مليون قتيل، وهدرت أكثر من 200 مليار دولار، وكان لا بد للرئيس الجديد من توفير أرضية سليمة من أجل انطلاقة اقتصادية راهن عليها منذ البداية. ومن أجل ذلك أطلق مبادرة للمصالحة الوطنية، يتم بموجبها العفو عن المسلحين في الجبال مقابل تخليهم عن السلاح. وكانت تلك أول خطوة تُحسب للرئيس الذي قال خلال حملته الانتخابية إنه جاء “لإطفاء الجمرة”، في إشارة إلى لهيب الحرب الأهلية التي أتت على مقدرات الدولة.
كما وعد الرئيس في بداية حكمه بإنجاز مليوني سكن خلال عهدته الأولى المقدرة بخمس سنوات، مع تقديمه وعوداً أخرى من أجل إطلاق عجلة اقتصادية تعمل على تقليص حجم البطالة المتفشية في أوساط الشباب، وتسهم في حماية البلاد من التدخلات الأجنبية. ومن حسن حظ بوتفليقة أنّه صادف وصوله الحكم في سنواته الأولى ارتفاع مداخيل النفط، حيث عمل من خلالها على القضاء على مديونية البلاد التي وصلت أكثر من 200 مليار دولار، وهذا ما حدث، إذ غادر الرجل تاركاً البلاد من دون ديون.
ويمكن التنبيه إلى تفصيل مهم جداً في مسار بوتفليقة السياسي وهو أنّه كان يحظى بشعبية كبيرة، لا سيما في فترة شبابه، إذ كان يمثل في نظر شريحة واسعة من الجزائريين ذلك الشاب الطموح، صاحب الشخصية الكاريزماتية. وظهر ذلك عقب تقلده الحكم، حين كانت خطاباته مؤثرة وله قدرة كبيرة على التأثير في الجموع باختياره كلمات ومقاطع يكررها، تحمس الحاضرين للتفاعل معها، لكن هذه الشعبية بدأت في التقلص تدريجاً مع تعاظم تمسكه بكرسي الرئاسة.
التفرد بالحكم
طموح الرجل اصطدمت برجالات سياسيين رفضوا أن يستأثر بالحكم وحده، على الرغم من أن لهم الفضل عليه في وصوله إلى قصر المرادية، لتبدأ متاعب الرجل خلال عهدته الأولى بعد أن انقلب عليه رجل ثقته رئيس حكومته وساعده الأيمن علي بن فليس، الذي ترشح ضده في 2004 بإيعاز من العسكر على رأسهم قائد الأركان الراحل محمد العماري، الذي أراد التخلص من بوتفليقة وإبعاده من الحكم، فقدم بن فليس لينافس الرئيس المرشح لانتخابات 2004.
حينها كان الجو العام يُوحي بأن أيام بوتفليقة في قصر المرادية باتت معدودة، إلا أن حنكة الرجل السياسية وبراعته في المناورة مكّنته في آخر لحظة من استمالة رئيس الاستخبارات، الرجل القوي الجنرال محمد مدين المدعو توفيق، واستطاع بفضله أن يحظى بعهدة ثانية، بل واستطاع التخلص من علي بن فليس، وبعد أشهر أبعد قائد الأركان محمد العماري وأخرجه من الباب الضيق بعد إمضاء مرسوم يحيله للتقاعد.
ولأن طموح الرجل كان كبيراً جداً بأن يكون الزعيم الأوحد من دون أن يشاركه أي كان في الحكم، فقد بدأ في سياسة جديدة من خلال “شراء الذمم” على حد قول البعض، وهنا ربما ارتكب الرئيس خطأه الكبير الذي سيجني عليه بعد سنوات. واستطاع بوتفليقة فعلاً التخلص من خصومه الأقوياء خصوصاً على مستوى الجيش، فبدأ هيكلة كبيرة داخل المؤسسة العسكرية بعد أن وضع على رأسها الراحل أحمد قايد صالح قائداً للأركان، خلفاً لمحمد العماري الذي تمت إحالته على التقاعد.
البترول يقف في صفه
وبفضل عائدات النفط الكبيرة، استمال بوتفليقة لصالحه أحزاباً سياسية وتنظيمات جماهيرية، لدرجة أن ألد خصوم النظام صاروا وزراء في نظام بوتفليقة، مثل القيادية في حزب “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” خليدة تومي، التي مُنحت لها حقيبة وزارة الثقافة، وزميلها في الحزب عمارة بن يونس الذي تولى حقائب وزارية عدة، ليصيرا من أكبر أنصار الرئيس. كما فتح الباب للأحزاب الإسلامية خصوصاً “حركة مجتمع السلم” (حمس) ليُصبح أعضاؤها جنباً إلى جنب مع وزراء من حزب سعيد سعدي العلماني.
وبدلاً من أن تبدأ عجلة التنمية التي وعد بها الشعب، ضاعت العهدة الثانية في “شراء الذمم” وإبعاد الخصوم من دون انطلاقة حقيقية. وعلى الرغم من أن بوتفليقة يعود له الفضل في إطلاق مشاريع واعدة مثل الطريق السيار شرق – غرب، وميترو العاصمة والكثير من السدود ومشاريع الإسكان، إلا أن كل هذا لم يرقَ لما كان يطالب به الشعب المتعطش إلى الإصلاحات والنمو والعيش الكريم، بل أكثر من هذا، فقد ظهرت طبقة حقيقية من رجال الأعمال رفعت القيمة المالية لهذه المشاريع العملاقة إلى أرقام فلكية بسبب فساد في إبرام الصفقات، حيث عمَّ الفساد ووصل للوزراء والولاة وأبنائهم، وظهرت الشركات الوهمية وارتفع عدد المستوردين إلى أرقام غير معقولة، يتقدمهم أقرباء مسؤولين وسياسيين وحتى رؤساء أحزاب، كل ذلك من أجل تبييض الأموال وتهريب العملة.
“شهوة” السلطة
كان من المفروض أن تنتهي عهدة الرئيس الثانية والأخيرة في 2008، وتوقع الجزائريون أن يسلم بوتفليقة مفاتيح الحكم، لجيل جديد يأخذ على عاتقه تطوير البلاد والانتقال إلى محطة جديدة من تاريخ الجزائر.
وبدل أن يختار الخروج من الباب الواسع على الرغم من كل مظاهر الفساد والتخلف، إلا أنه ارتكب أكبر أخطائه حين طالب بتغيير الدستور وفتح العهدات، وقد اجتمع حوله في تلك الفترة “شِلّة من المنتفعين” من كل حدب وصوب، وفقاً لبعض المتابعين. وعرض مشروع الدستور للتصويت على البرلمان وليس على الشعب، بعد أن رُفعت أجور النواب 200 في المئة. ولم يستطع وقتها أن يعارض هذا المنعرج السياسي، بل على العكس، كانت كل القرارات تجابه بتأييد منقطع النظير من محيطه، بينما يلعب الشعب دور الرقيب فقط.
حُكم الشقيق خلف الستار
ومع العهدة الثالثة، بدأت تبرز قوة شقيقه الأصغر سعيد بوتفليقة ومستشاره الشخصي، الذي دخل بدوره عالم المال والأعمال، وبات كل من يبحث عن منصب أو ثروة يسعى للتقرب من شقيق الرئيس. وهنا بدأت تحدث خلافات في السر بين الرئيس ومدير جهاز الاستخبارات الجنرال محمد مدين (توفيق)، هذا الأخير الذي بدأ يشعر أن منصبه بات مهدداً في ظل تفاقم نفوذ الشقيق الأصغر للرئيس، وعدم إيلاء الرئيس نفسه أهمية للتقارير الأمنية التي كانت تحذر من تعاظم الفساد وانتشار رقعته.
وبفضل توزيع الثروة على الفاسدين من قبل الرئيس وشقيقه، بدأ رجل الاستخبارات القوي يبتعد رويداً رويداً عن المشهد، في سابقة لم تحدث له منذ تعيينه في 1989، مسؤولاً عن جهاز الاستخبارات، وبدا أنّ البلاد كلها تحت سيطرة آل بوتفليقة، حتى أن كل من كان ينوي الاستوزار لم يعد يقصد شقيق الرئيس فقط، بل حتى والدة الراحل التي لا يرد لها طلب، فصار جمال ولد عباس وزيراً في حكومات عدة بفضل وساطة من والدة بوتفليقة، وصار رشيد حراوبية وزيراً بفضل صداقته القديمة.
بداية المرض والحكم بالوكالة
استمر بوتفليقة ومحيطه في الحكم، على الرغم من إصابته بوعكة صحية في 17 أبريل 2013، استدعت نقله على جناح السرعة إلى مستشفى “فال دوغراس” العسكري في ضواحي باريس العاصمة الفرنسية، حيث مكث 81 يوماً حتى يوليو (تموز) 2013. وظل الجزائريون طول تلك الفترة لا يعرفون شيئاً عن رئيسهم في ظل شح المعلومات وتكتم الرئاسة، فتحول مرضه إلى سر.
حينها طالبت المعارضة، بإعلان شغور منصب الرئيس، إلا أنّ تلك الأصوات لم تجد من يسمعها، وهناك خرجت مسيرات لنشطاء وطلاب ضيقت السلطات على حركاتهم الاحتجاجية، لغاية حدوث ما كان غير متوقع، وهو ترشح بوتفليقة الرسمي لعهدة رابعة على الرغم من وضعه الصحي وفقدانه القدرة على الحركة والكلام. لكن محيطه حاول إيهام الجزائريين بأن القدرات العقلية لبوتفليقة ممتازة، وأنه سيحكم برأسه وليس برجليه، وذلك مع استمرار المناوئين لترشحه.
أحس الجزائريون بالإهانة وهم يشاهدون حملة انتخابية يغيب عنها المعني المباشر بالترشح، ولا يخاطبهم إلا من خلال رسائل وبرقيات يقرأها محيطه من وزراء ومستشارين، ويبثها التلفزيون الحكومي في الأعياد والمناسبات، واستمر الوضع كذلك لغاية تنحيته عن الحكم.
وكما كان متوقعاً، فاز بوتفليقة بعهدة رابعة، وازداد نفوذ الكارتل المالي والسياسي، الذي استقوى من خلال شبكة علاقات نسجت مع السعيد بوتفليقة الذي تحوّل إلى الرئيس الفعلي للبلاد، والقابض على ختم الجمهورية، والممضي على جملة من القرارات، منها صدور مرسوم يحيل الجنرال توفيق المعروف بمحمد مدين على التقاعد خريف 2015، إذ عرفت تلك المرحلة “بسطو القوى غير الدستورية” على الحكم، وهو مصطلح تم تبينه بعد اندلاع الحراك الشعبي.
ظل بوتفليقة متمسكاً بالحكم، على الرغم من تدهور حالته الصحية، وقد نُقل مرات عدة إلى مستشفيات أوروبية لتلقي العلاج، بينما ظلت الرئاسة تتكتم تارة وتطمئن تارة أخرى بأنّ حالته مستقرة وهي في تحسن مستمر، بينما كانت الصور التي يبثها التلفزيون الحكومي توحي بغير ذلك، وتظهر رئيساً غير قادر على أداء مهامه الدستورية التي تتطلب حضوراً.
انتظر الجزائريون نهاية عهدة بوتفليقة الرابعة، ظناً منهم أنّ الانتخابات التي ستجرى في فبراير (شباط) 2019، ستضع حداً لفترة حكمه، لاسيما أنه لم يخاطبهم لقرابة سبع سنوات كاملة. إلا أنّ الصدمة وقعت بإعلان ترشحه لولاية خامسة، فكانت تلك النقطة التي أفاضت الكأس، حينها شعر الجزائريون بالإهانة.
وبشكل مفاجئ، انتشرت نداءات مجهولة على مواقع التواصل الاجتماعي، تدعو إلى التظاهر يوم الجمعة 22 أبريل 2019، وشعارها الأبرز “مكاش عهدة خامسة) (لن تكون عهدة خامسة)، سبقها خروج مواطنين للشارع للتنديد بالوضع. وهو ما حصل بالفعل باندلاع مسيرات حاشدة في مدن عدة، تطالب برحيل بوتفليقة من الحكم، ومع ذلك أودع ملف ترشحه بالوكالة (رئيس حملته الانتخابية عبد الغني زعلان) لدى المجلس الدستوري في مارس (آذار) 2019، لكنه اضطر بعدها إلى إعلان إلغاء الانتخابات في 11 مارس من السنة نفسها، مقترحاً عقد ندوة وفاق وطني نهاية العام لوضع خطة انتقال للسلطة. إلا أنّ ضغط الشارع زاد بحدة، وتراجع الجيش عن دعم بوتفليقة بدءاً من منتصف مارس، قبل أن يطلب قائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح تطبيق المادة الـ 102 من الدستور (إعلان حالة الشغور)، ما دفع بوتفليقة إلى تقديم استقالته في الثاني من أبريل 2019.
رسالة وداع وطلب غفران
آخر وسيلة للتواصل بين الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة والجزائريين، كانت رسالة وداع مكتوبة طلب فيها “المسامحة على الأخطاء، والمعذرة والصفح عن كل تقصير ارتكبه في حقهم سواء كان بالكلمة أو الفعل”. اعتبر فيها بوتفليقة نفسه “بشراً غير منزه عن الخطأ”.
ومنذ ذلك الوقت، اختفى بوتفليقة من المشهد العام في البلاد، ولم يتم تداول أي صور له ولا حتى مشاهد فيديو، إلا اسمه الذي ظل متداولاً في المحاكم، على لسان رجالاته والمسؤولين السابقين، الذين حمّلوه مسؤولية كل القرارات التي اتخذها، غير أنهم وجدوا أنفسهم يواجهون مصيرهم وحدهم عقب اتهامهم بملفات فساد انتهت بسجنهم.
وفي كل مرة يجري الحديث عن إمكانية استدعاء عبد العزيز بوتفليقة كشاهد في قضايا فساد، لكن ذلك لم يحصل، وهو ما فتح الباب أمام التأويلات والتي منها إمكانية وجود تفاهم سياسي مع المؤسسة العسكرية، تقضي باستقالته مقابل ضمان عدم إقحامه في أي معركة قضائية، احتراماً لسنه ولظرفه الصحي.
وطوال السنتين الماضيتين ظل الجزائريون يتعاطون إشاعات وفاته، ويطرحون تساؤلات عن كيفية تعامل السلطات مع جنازته في ظل الاستياء الشعبي من فترة حكمه، وما تبعها من احتجاجات عارمة أزاحته من قصر المرادية، لكن مع وفاته أعلنت الرئاسة الجزائرية تنكيس العلم الوطني لمدّة ثلاثة أيام ابتداء من السبت 18 سبتمبر (أيلول) في كامل البلاد، على أن تقام له جنازة رسمية، وسيدفن في المقبرة الرسمية العالية، بعدما ستتم مراسم إلقاء النظرة الأخيرة عليه في قصر الشعب.
رحيل منقوص
وطوال مساره لم يخف بوتفليقة رغبته في الخروج من الباب الواسع، وهو القائل يوماً “لا أحب أن أكون ثلاثة أرباع رئيس”، وتمنى رئاسة بصلاحيات مطلقة مدى الحياة، تحت شعار من “القصر إلى القصر”، حتى أن معارضيه دائماً ما كانوا يربطون مشروع جامع الجزائر، وهو ثالث أكبر مسجد في العالم، الذي ضخّ فيه مليارات الدولارات من خزينة الدولة، برغبة بوتفليقة في أن تقام جنازة رئاسية به، لكنه رحل من دون أن يدشنه حتى.
واللافت أيضاً أنّ سجل بوتفليقة المتخم بالأحداث، لا يتحفظ بأي حوارات سياسية مع وسائل إعلام محلية، التي لم تحظ بأي تصريحات حصرية، وكانت تنقل فقط ما كان يقوله في المنابر الإعلامية الدولية، ما اعتبره البعض تعالياً من بوتفليقة وعدم تقدير للإعلام الجزائري.
وبينما صدرت مؤلفات عدة لكتّاب معروفين، تنتقد فترة حكم بوتفليقة وتحمّله مسؤولية تخلف البلد وعدم تطورها، وذلك بسبب خلفيات وسياقات تعود إلى رغبته الجامحة في الرئاسة خلفاً لهواري بومدين، الذي توفي في 27 ديسمبر (كانون الأول) 1978، وتولى بوتفليقة تأبينه في الجنازة الرسمية، لكن قيادة الجيش والاستخبارات اختارت العقيد الشاذلي بن جديد رئيساً للبلاد عام 1979، لا نجد أي كتب أو مذكرات لبوتفليقة تدافع عنه أمام الأجيال المقبلة، على الرغم من أنّه من الساسة الجزائريين الذين عايشوا أغلب فترات الحكم منذ استقلال البلاد عام 1962.
المصدر: اندبندنت عربية