قراءة في رواية: السوريون الأعداء

أحمد العربي

فواز حداد روائي سوري متميز، وضع كتاباته في نسق التأريخ للواقع الاجتماعي والسياسي لسورية الحديثة، وللمجتمع الدمشقي بشكل أساسي؛ منذ الاستعمار الفرنسي لسوريا إلى اليوم وربيعها وثورتها، وعبر كتابة روائية مقتدره صاغت الحياة عبر عشرات السنين في سورية.

السوريون الأعداء رواية تسرد الحدث السوري الأبرز في القرن الماضي، انها احداث الصراع بين الإخوان المسلمين والنظام السوري، ومن خلال مذابح النظام للشعب السوري وخاصة في حماه، ورصد مسار الأحداث وحياة شخصيات الرواية منذ مذبحة حماة الى مذابح النظام للشعب السوري اليوم، ردا على الربيع السوري وثورة الشعب وخروجه مطالبا بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الافضل؛ الان وقبل ثلاثين عاما.

.تبدأ الرواية من القاضي في القصر العدلي  بدمشق سليم الراجي يستقبل احدهم حاملا ابن أخيه الرضيع حازم، و ابلغوه ان اخيه الطبيب عدنان مفقود أما زوجة اخيه واولاده واباه فقد قتلوا جميعا في حماه أثناء اجتياحها من قبل الجيش وسرايا الدفاع والوحدات الخاصة في ثمانينات القرن الماضي. يستعيد القاضي سليم أيامه الماضية، وكيف منع من الدخول لحماة للاطمئنان على أهله، وتذكر أهله وعيشهم في حي الكيلانية في حماه، ودراسته للمحاماة ومن ثم تحوله من محام لقاض، وتذكر اخاه الطبيب عدنان وزوجته واولاده الثلاثه وان حازم الصغير ذي الأشهر القليلة آخر من بقي من عائلته كلها، ذهل امام خبر مقتل العائلة وفقدان اخاه وقرر أن يبحث ليعرف الموضوع بدقه.

 .في مستوى آخر سنتابع النقيب سليمان ضابط الأمن في إحدى قطعات الجيش المجتاحة لحماة، والذي سيقتل عائلة الطبيب عدنان كلها، ويحول الطبيب إلى المحكمة الميدانية ليموت اعداما هناك. النقيب سليمان من الطائفة العلوية كأغلب ضباط الجيش، مقرب من الرئيس حافظ الأسد، فهو ومنذ بداية شبابه سيوشي عن خاله القيادي في حزب البعث والمختلف مع الاسد أيام الصراع بين  قيادات البعث العسكريين؛ الأسد من جهة وصلاح جديد من جهة، وكان لسليمان دور في القبض على خاله والمجموعه الاخرى وإيداعها في السجن حتى الموت. سليمان دخل في الجيش وتدرج بالرتب حتى النقيب، يبحث في حماه عن فرصة للقتل دون رادع ويحصلها، يقتل في داخله الخوف وأنه في سبيل السلطة كل شيئ مباح، سيتعرف على الرائد مروان بالاستخبارات العسكرية، الذي سيأتي لحماة ليقود حملة إعدامات جماعية لكل من تبقى في حماه من نساء واطفال ورجال، والذي يصطدم مع قيادة السرايا والوحدات، والذين سيقتلونه لاحقا. سليمان يفكر بتغيير اتجاه حياته، وبحثا عن السلطة أكثر يطالب بتسريحه من الجيش ووضعه مقربا من الأسد، ميزته دورة كمخبر للوقيعة بكل من يحاول التفكير أو العمل للاطاحة بالحكم او حتى الاساءة له، كان وراء إعدامات كثيرة؛ اقترب من الرئيس وكون جهازا خاصا، مخابرات على المخابرات واستمر ينبش في ملفات كل المسؤولين ليصنع لهم ملفات أمنية تستخدم عند الحاجه، كان مدعوما من الاسد الاب، كان لا يؤمن بوجود الله، وكان يرى أن القوة هي إلاه هذا الزمان، تصنع المال والنفوذ وكل شيء. قدر أن فكرة تحول الرئيس الأسد لإلاه ستجعله محظيا اكثر؛ واوصل الفكرة للأسد وتقبلها، وسمح له بصناعة إلاه عبر تخليد وجود واشاعة الأسد في كل شيء؛ صور كبيره وعديده ومستدامه، اصنام، اخبار تدور حوله وحول مكرماته، ومؤسسات ومدارس ومشافي وجسور وسدود وكل شيء باسمه، لقد جعل الأسد حاضرا في كل شيء، أسس القطيعية مستمرة ومتواجدة دوما في الشعب، غير أن الرئيس سيموت رغم كونه خالدا في الشعارات المطروحة، لكن خلوده عبر سلالته في الحكم فهذا هو ابنه يصير رئيسا وهذا الخلود يتجسد، ويستمر سليمان في خدمة الرئيس الأسد الابن حتى آخر لحظة من حياته.

.في مسار آخر ومتشابك مع مسار النقيب سليمان؛ الذي يلقب بالمهندس لاحقا والذي يتصرف باسم الرئاسة لفترات طويلة، سنتابع حياة الطبيب عدنان الذي لم يعدم؛ والذي حول الى سجن تدمر لنتابع معه حياة أسوأ من الجحيم، سجن تدمر سيئ الذكر حيث كان انتهاؤه هناك بعد تنقله عبر الفروع الأمنية كلها، معانيا من تعذيب شديد وبكل الوسائل عبر استنطاقه وأن يعترف بما لم يفعله، ومع ذلك يحول لسجن تدمر حيث سيعيش هناك ما يزيد عن العشرين عاما. حياة اسوأ من الموت؛ الاستقبال بالتعذيب؛ والتعذيب في الصباح وكذلك المساء، وعند أي حركة أو تصرف، الجميع مستباحون وأن يموتوا لا يهم؛ فهم مبعوثون للموت البطيء؛ يقتلهم المرض واليأس وإحساسهم بعدمية وجودهم الإنساني، سيعانون من اختلافهم وريبتهم من بعضهم، سيموتون امام اعين بعضهم دون امكانية فعل شيء، سيأتي يوم ويحولون تباعا للإعدام؛ وينتظر كل دورة، سيعدم من لم يحكم بالإعدام، وسيفرج عن البعض المحكوم، وسيخرج الطبيب عدنان ذي الرقم 77 من السجن بعد عقدين من الزمن ليجد ان الدنيا تغيرت، وليذهب لأخيه و يجد ان عائلته قتلت وان ابنه حازم الناجي صار محاميا وابنا لاخيه ايضا.

.وفي مسار آخر يتابع القاضي سليم محاولته مع أستاذه القاضي رشدي أن يحافظوا -مع غيرهم- على العدالة قدر الامكان؛ وان لم يتمكنوا، خاصة بعد أن عرف ما حصل بعائلة أخيه وفقدان أخيه الطبيب، وان الجيش والأمن والقصر الجمهوري متغلغلا في اروقة القصر العدلي، وان لهم عصبهم ومصالحهم وأن القضاء غطاء لعمليات استغلال و رشوة ونهب ومحسوبية وتهرب من القانون، وزاد الموضوع سوءا أن القاضي سليم واستاذه وزملاؤه اتهموا بعملهم ضد الدولة، ولولا تدخل النقيب سليمان الملقب المهندس، لما خرجوا من المعتقل إلا للسجن؛ المهندس انقذهم حتى يستخدمهم في جهازة الخاص لأجل فتح ملفات لكل مسؤولي الدولة في الجيش و الامن… الخ، ليكونوا تحت التهديد والاستخدام من الرئيس عند الحاجة، القاضي سليم سيطلع على ما لم يكن يتصوره عن تغلغل الفساد ومصالح رجالات الحكم المغطاة قانونا أو المقفله قضاياهم ومحاولة للارشيف والنسيان، سيتوصل مع استاذه لنتيجة ان الخراب والفساد في الدولة وأجهزتها وشبكة المصالح لا يمكن ان يتم اصلاحه ابدا ولا حل إلا باستئصال السلطة واعوانها؛ وان كل عملهم بلا فائدة؛ لم تستثمر جهودهم وبقيت في الدروج المقفله لوقت يحتاجها الرئيس وعصابته.

.تتقاطع مسارات المهندس والقاضي والطبيب العائد من السجن للحياة، عندما يعرف المهندس أن الطبيب الخارج من تدمر هو من كان يجب ان يعدم قبل أكثر من عقدين، وأن ابنه الطفل الناجي هو حازم المحامي ابن القاضي، وإن موت الاسد الاب سيلغي خلوده ويجعله  مركونا جانبا لوقت حاجته، وأن الطبيب عدنان سيتعرف على المهندس وسيرى به النقيب قاتل عائلته، وسيدرك ذلك المهندس وسيعمل على قتله مجددا، لكن الطبيب عدنان يصل للمهندس وسيضع المسدس في رأسه، وسيقر المهندس بجرمه ولكنه يبرر، لن يقتله الطبيب لأنه لا يوجد ثأر يوفي حقه بأهله المعدومين وعمرة الذي أفناه في جحيم تدمر، لقد قرر ان الحل هو استئصال السلطة الحاكمة من جذورها وعودة الحقوق كاملة للناس؛ يتركه ولا يقتله.

. وفي تطور جديد يحصل الربيع العربي، ويمتد الى سوريا، ويقوم الشعب مطالبا بالحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والحياة الافضل؛ رافضا عقود من الذل والعبوديه والقهر والظلم والفساد والطائفية وضياع الحقوق، ويكون رد النظام باطشا يختار طريقة معالجة مشكلة حماه بالعنف المطلق، وسيعود المهندس ليكون محركا للحل الأمني في مواجهة الربيع السوري، وتأجيج الطائفية واستعداء الطائفة العلوية وتوريطهم بدم الشعب السوري والعمل العنفي في مواجهة الشعب، بدءا من قتل أطفال درعا؛ لاجتياح الجامع العمري؛ لمواجهة المتظاهرين بالسلاح؛ لتحول خطاب السلطة بلسان الأسد الابن الحرب على الشعب عبر اتهام الناشطين بالعمالة والطائفية والإرهاب والارتباط بالأعداء. و ستتحول سوريا الى مواقع حرب على الشعب السوري في كل مكان، فلا حل عند النظام إلا بقتل المتظاهرين وعودة الشعب كله للذل والقطيعية والعبودية السابقة، ولا حل عند الشعب وأبنائه الثوار إلا استمرار الربيع الذي أصبح ثورة.

.تنتهي الرواية عندما يتحول الطبيب وابنه المحامي. ليكونوا جزء من الثوار يقومون بدورهم قدر إمكانهم، ويكون مصير المهندس ان يقتل بيد الجهاز الخاص لأنه تجرأ يوما وفكر ان يغتال الاسد ان اختار الاستسلام لمطالب الناس، وهكذا يقتل نفسه فداء للسلطة التي امضى عمره يخدمها بأسوأ السلوكيات اللا إنسانية.

.الرواية تأريخ مجتمعي كامل لمرحلة ماضيه وما زالت مستمرة في سوريا المعاصرة، وهي مطلوبة ولازمه للذاكرة الجماعية لشعب كشف واكتشف حقيقة السلطة الطائفية الاستبدادية الوحشية الحاكمة؛ والتي لا حل أمامنا إلا استئصالها؛ ليتسنى للشعب أن يعيش إنسانيته وأن يكون جزء من العالم في هذا الزمان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى