يبدو أن خطوات تعزيز التحالف الإقليمي بين مصر والأردن والعراق تسير في خطوات ثابته، وعلى مسار صحيح يعزز مكانة الدول الأعضاء إقليمياً على المستويات السياسية والاقتصادية. وآخر إنجازات هذا التحالف هو الحصول على الدعم الأميركي لمد لبنان بالغاز المصري لتشغيل محطة دير عمار لتوليد الطاقة الكهربائية. وهذه خطوة لا توسع نفوذ هذا التحالف اقتصادياً وسياسياً الى داخل لبنان فحسب، بل أيضاً الى داخل سوريا التي تمر بها أنابيب الغاز المصري. وكان هذا التحالف قد وقع على اتفاقيات اقتصادية وتجارية متنوعة خلال قممه السابقة التي عقدت في عواصم الدول الثلاث، وهي ستؤدي مباشرة وغير مباشرة الى تعزيز مكانته في بلاد الشام وحتى بعض أجزاء الخليج العربي. لكن أهم شيء هو أن هذا التحالف سينافس إيران في منطقة نفوذها الممتدة من حدودها مع العراق باتجاه سوريا ولبنان وشواطئ البحر الأبيض المتوسط.
ولم يكن الدور المصري بعيداً من المساعي الفرنسية التي أنتجت ولادة الحكومة الأخيرة برئاسة نجيب ميقاتي نتيجة تفاهم مع إيران. فمعادلة الس – س القديمة (سوريا – السعودية) التي طالما كان يتحدث عنها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري استبدلت بها اليوم معادلة أ-ف (إيران-فرنسا). ويمكن جمعها بكلمة “أف” نظراً الى معاناة اللبنانيين الحالية. فمع كل تأزم سيشهده لبنان في الفترة المقبلة سيحتاج الى “تأفؤف” للوصول الى حل بجهود لاعبين ليسا عربيين، ستضفي عليهما مصر العمق العربي. فلقد بات واضحاً للعديد من المراقبين أن القاهرة التي كانت الراعي للمسلمين السنّة في لبنان حتى فقدانها هذا الدور نتيجة التوقيع على اتفاق كامب ديفيد عام 1979 لتحل مكانها المملكة العربية السعودية، تعود اليوم بخطى ثابتة الى الساحة اللبنانية نتيجة فقدان السعودية الاهتمام بلبنان ومشكلاته. ومن المتوقع أن تشهد الأشهر المقبلة تحركات ذات أبعاد دبلوماسية واقتصادية تعزّز دور مصر في لبنان، وتكون عاصمتها محطة للعديد من السياسيين والمسؤولين اللبنانيين.
سيكون هذا التحالف العربي – الإقليمي أكبر منافس لطهران في المنطقة، كونه يعترض جغرافياً هلال النفوذ الإيراني، وله روابط اجتماعية وعرقية وإسلامية وجغرافية وتاريخية ومذهبية أكبر وأمتن وأقدم من تلك التي تملكها إيران مع سكان مناطق نفوذها في بلاد الشام. فهو يشكل، مجتمعاً، قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية وحتى بشرية أكبر وأقوى من إيران. وبما أنه يمتلك، مجتمعاً، علاقات استراتيجية مهمة مع القوى العظمى في الشرق والغرب، يستطيع أن ينافس إيران في المحافل الدولية كافة، بخاصة إذا وحد أهدافه الاستراتيجية واستخدم مقاربة تغلّب مصالحه المشتركة على تلك الفردية. وسيؤدي حسن استخدامه قواه الناعمة (الدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية) الى تسويق سياساته وأهدافه على حساب منافسيه، ومنهم إيران.
لا يبدو أن إيران تمانع دور مصر وتحالفها الإقليمي، أقله حتى الآن. فهي تدرك نتيجة تجاربها في مناطق نفوذها أنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً لإدارة الدول المعنية وحدها، بخاصة مع الضغوط والعقوبات الأميركية عليها وعلى ميليشياتها وعلى النظام السوري (أي محور الممانعة). وما دام هذا التحالف لا يتحدى حالياً دورها الأمني ويسهّل لها التوصل الى اتفاقيات مع دول مثل فرنسا وأميركا تستفيد منها بشكل أو بآخر – مثل إرسال شحنات البنزين والمازوت الى لبنان عبر سوريا – فهي ستتعاون معه. كما أن شريكها في محور الممانعة، النظام السوري، يأمل أن تساعده دول التحالف على استرجاع مقعده في الجامعة العربية واسترجاع شيء من دوره في العالم العربي. هذا هدف مهم تعرف دمشق أن إيران لن تستطيع تحقيقه لها. كما أن فرص التعاون الاقتصادي مع هذا التحالف وفوائده أنجع لسوريا من تلك التي يمكن أن يقدمها النظام الإيراني المفلس مالياً.
ولا شك في أن مصر تريد أن ترى هذا التحالف ينمو في المرحلة المقبلة ليضم دولاً تجمعها مصالح وجغرافيا مشتركة، وتحديداً تلك في الحوض الشرقي للبحر المتوسط الغني بالنفط والغاز، وبالتالي فإن انضمام سوريا ولبنان الى هذا التحالف سيكون طبيعياً، وهذا أمر ينافس طموح طهران الذي كان تحدث عنه سابقاً الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله عندما دعا الى حلف اقتصادي يضم إيران والعراق والأردن وسوريا ولبنان تحت مظلة الصين. فالحلف العربي الإقليمي المنافس يملك مظلات دولية عدة، تشمل أوروبا وأميركا وحتى روسيا ولا يعادي الصين. وبالتالي، يملك فرصاً أكبر للنجاح والاستمرارية والنمو، بخاصة إذا ما تمكن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي من تشكيل تحالف يحظى بالنسبة الأكبر من مقاعد البرلمان في الانتخابات المقبلة. فإذا تم ذلك، فسيتمكن الكاظمي من الحد كثيراً من نفوذ الأحزاب المؤيدة لإيران في البرلمان، وبالتالي تشكيل حكومة تستطيع إنهاء دور ميليشيات الحشد الشعبي التابعة للحرس الثوري الإيراني. إضعاف نفوذ إيران في العراق سيقوي من التحالف العربي – الإقليمي كثيراً، ما سيؤثر في مسار الأمور في كل من سوريا ولبنان، لا محالة.
الغاز العربي المصري جاهز لتزويد لبنان وسوريا بحاجتهما، وفائض الطاقة الكهربائية التي يمكن أن توفرها شبكات من مصر والأردن العربية تستطيع أن تؤمّن بعض متطلبات العراق ولبنان منها، وبالتالي لا حاجة لأي شيء من أي جهة أخرى غير عربية. كما أن شبكة الطرق والنقل البحري عبر كل من العراق والأردن ومصر توفر لقطاعات النقل والصناعة في لبنان وسوريا قدرات كبيرة للوصول الى أماكن عدة والاستفادة من الترانزيت. ومرفأ بيروت، عند بنائه، سيحتاج الى شبكة طرق برية كبيرة تعيد إحياء دوره مقابل موانئ إسرائيل. كما أن فرص التكامل الاقتصادي بين لبنان وسوريا وهذا التحالف العربي – الإقليمي كبيرة ومهمة جداً، ضمن سوق مشتركة توفر ما تحتاجه الأسواق اللبنانية من منتجات بأسعار تنافسية وبجودة أفضل مما يتم استيراده اليوم من دول آسيوية غير عربية، وتمكن في الوقت ذاته قطاعات الصناعة والزراعة في لبنان من العمل بنشاط في أسواق قريبة منها. بين خريف هذا العام وربيع العام المقابل استحقاقان مهمان، الانتخابات في كل من العراق ولبنان. نتيجتهما ستحدد مكانتهما في التنافس بين إيران والتحالف العربي – الإقليمي الذي يسير بدفع مصري قوي. فهل ستستطيع القوة الناعمة للتحالف العربي وقف الانفلاش الإيراني العسكري – الاقتصادي وردّه؟
المصدر: النهار العربي