تبدو العلاقات بين أنقرة وموسكو غير مستقرة على حال. هبّة حارة وأخرى باردة. وفي أحيان تنشغل وسائل الإعلام بأخبار الاتصالات بين البلدين على أعلى المستويات، ومن ثمّ تسود مرحلة من الصمت، ليعقبها فجأة الإعلان عن لقاء رفيع المستوى، أو اجتماع للجان المشتركة، التي يستأثر الملف السوري بالقدر الأكبر من عملها. وشكلت القمم الثنائية بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، أقصر الطرق لحل الخلافات في الأعوام الماضية، وآخرها كانت في مدينة سوتشي في مارس/آذار 2020، وانتهت بتوقيع اتفاق بين الطرفين على وقف إطلاق النار في إدلب، ووضع ترتيبات لتهدئة طويلة تقود إلى تطبيع الوضع، على رأسها تسيير دوريات مشتركة على الطريق الدولي حلب اللاذقية “أم 4″، تمهيداً لإعادته للعمل. البند الثاني الذي توافق عليه الطرفان هو عودة اللاجئين الذين نزحوا بفعل المعارك التي دارت في ريفي حماة وإدلب من مايو/أيار 2019 وحتى مارس 2020، إلى مناطقهم. وباستثناء تثبيت وقف إطلاق النار، لم يتم تنفيذ البنود الأساسية من الاتفاق، وبقيت المناوشات مستمرة على الجبهات، ولم تتوصل الدوريات المشتركة إلى إعادة فتح طريق “أم 4″، على الرغم من أنه جرت محاولات عدة في هذا الإطار في الربع الأخير من 2020، ولكنها اصطدمت بالتعقيدات على طرفي الطريق؛ القسم الأول ما بين مدينة رأس العين والقامشلي الذي تسيطر عليه “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، والثاني الواقع بين إدلب واللاذقية الذي تسيطر عليه قوات النظام. هذا فضلاً عن تعرض الدوريات الروسية التركية لعمليات استهداف.
والثابت هنا هو تعارض المصالح بين الطرفين التركي والروسي في سورية. روسيا تعمل على تثبيت وتعزيز نفوذها على الأرض لزمن طويل، وترى أن أفضل وسيلة إلى ذلك هي تعويم النظام السوري، وبالنسبة لها تبقى المناطق الواقعة في مجال النفوذ التركي؛ محافظة إدلب ومناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، عقبة أساسية في طريق مشروعها، وذلك لأسباب عدة. السبب الأول هو الحضور التركي العسكري الذي يفوق 25 ألف جندي. فيما السبب الثاني وجود الفصائل السورية، وهي تتشكل من قوتين واحدة حليفة مباشرة لتركيا، وهي تتكون من فصائل الجيش الوطني، والأخرى هي “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقاً) التي تبقى علاقاتها بتركيا في مستوى الشد والجذب. أما السبب الثالث، فيتمثل بالحسابات الأمنية التركية المتعلقة بالمشروع الكردي في سورية الواقع تحت المظلة الأميركية، وليس في وسع روسيا أن تؤدي دور الوسيط أو الضامن ما بين تركيا و”قسد” إلا في حالة واحدة، حينما تصبح المحافظات الثلاث (الرقة، دير الزور، الحسكة) تحت سيطرة النظام، وهذا أمر مستبعد في المدى القريب.
يبقى أن إيران لم تبد ارتياحاً لكل التفاهمات التي حصلت بين روسيا وتركيا في محافظة إدلب، وهي تدعم الحل العسكري لاستعادة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. ولذلك، لم تلتزم المليشيات الإيرانية وقوات النظام بوقف النار في إدلب، وتواصل الهجمات والقصف على مناطق في ريف إدلب. ولو أن روسيا أعطتها الضوء الأخضر للهجوم لكانت واصلت الحرب، التي تكلف كثيراً لأنها لن تقف عند قتال الفصائل المعارضة كما حصل في المعارك السابقة، بل ستصطدم بالوجود العسكري التركي، الذي أقام استحكامات هدفها صد أي هجوم عسكري على محافظة إدلب. ويرى خبراء عسكريون أن الوضع الراهن غير نهائي، ويمكن لإيران أن تفجر الموقف بعد أن كسبت معركة درعا، وبدأت ترسخ وضعها في الجنوب السوري.
وتلتقي طهران وموسكو عند مسألة أساسية، وهي خلافية مع تركيا، وتتمثل بالتطبيع مع نظام بشار الأسد. فبالنسبة لإيران وروسيا، فإن تحقيق هذا الهدف غير قابل للمساومة، وهما تريان أن الرياح الإقليمية والدولية لن تلبث أن تسير في هذا الاتجاه، بعد أن بدأت بعض الدول العربية تعيد علاقاتها مع النظام، فيما غضت الولايات المتحدة الطرف عن بعض العقوبات المفروضة عليه ضمن “قانون قيصر”، خصوصاً بعد الموافقة على تمرير الغاز والكهرباء من مصر إلى الأردن، ومن ثم إلى لبنان عبر سورية.
الملفات التي أبقت العلاقات في شد وجذب بين موسكو وأنقرة، في وقت ساد هدوء نسبي على مستوى سورية، تتلخص في ليبيا، أرمينيا-أذربيجان، وأوكرانيا. وسجلت تركيا تقدماً في النقاط على روسيا في الملف الأول، وتفاهماً مهماً في الملف الثاني، وبات لها حضور ملحوظ في الملف الثالث. وشهدت الساحة الليبية مواجهات غير مباشرة خلال حرب المعسكرات التي حسمها التدخل التركي بإلحاق خسائر فادحة بقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الساحل الغربي، التي كانت تتلقى الدعم من قوات “فاغنر” المشكلة من المرتزقة الروس، وتمكنت قوات الحكومة الشرعية من فك الحصار عن العاصمة طرابلس والسيطرة على القواعد العسكرية، ومنها ترهونة في يونيو/حزيران 2020.
الخسارة الروسية الثانية تمثلت بهزيمة أرمينيا (حليفة روسيا) في حربها مع أذربيجان التي دعمتها تركيا بقوة. وصحيح أن موسكو لم تتدخل لمساعدة يريفان وتركتها تنهزم أمام قوات باكو المدعومة بالسلاح التركي، إلا أنها صورت ذلك من باب الانتقام من رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشنيان، الذي كان قد بدأ يتوجه نحو الغرب، ويحاول التخلص من سطوة روسيا. ومن جهة ثانية أرادت روسيا أن تستميل أذربيجان إلى صفها أكثر، وتقدم هدية لتركيا ستنتظر مقابلاً لها في منطقة أخرى، في إطار تفاهمات ممتدة من سورية إلى ليبيا إلى شرق المتوسط فجنوب القوقاز. وعلى المدى القريب، حققت أنقرة مكاسب مهمة، فقد ربحت حرباً تصب في رصيدها الدولي، وعززت علاقاتها مع أذربيجان بكل ما يستتبع ذلك من مشاريع واتفاقات في مجال الطاقة. ثم إن تركيا أصبحت ترتبط بشكل مباشر بحدود مع أذربيجان عبر فتح طريق بين إقليم ناغورنو كاراباخ وإقليم ناخيتشيفان (منطقة تابعة لأذربيجان، وتمتع بحكم ذاتي وتقع بين أرمينيا وإيران وتركيا على الهضبة الواقعة جنوب منطقة القوقاز)، وهو الأمر الذي سيتم تحويله إلى بنيات أساسية تخدم الارتباط بمصادر الطاقة، وربما الوجود العسكري التركي هناك. وعلى هذا المستوى، يمكن القول إن أنقرة حققت اختراقاً، وأوجدت لنفسها موطئ قدم في منطقة جيو-استراتيجية مهمة، هي منطقة جنوب القوقاز، التي تحتفظ فيها روسيا بمكانة اللاعب الكبير، بينما تشكل تركيا الوافد الجديد، وفي هذا الوقت، تكتفي إيران بالمقعد الخلفي. وقد يكون ذلك مصدر قلق حقيقي، خاصة بالنسبة لواشنطن، التي تنظر بعين الريبة إلى هذه التفاهمات التركية الروسية في القوقاز.
أما على صعيد الوضع في أوكرانيا، فقد تفجرت أزمة بعد مشاركة تركيا في الثالث والعشرين من أغسطس/آب الماضي، في قمة “منصة القرم” التأسيسية، التي عُقدت في العاصمة الأوكرانية كييف، بمشاركة 46 وفداً من دول ومنظمات، ومَثَّلَ تركيا فيها وزير الخارجية، مولود جاووش أوغلو. وقرر المشاركون تأسيس “منصة القرم” الدولية للعمل على “إنهاء الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم بطرق سلمية”، بحسب بيان المؤتمر الذي لقي ترحيباً وتأييداً دولياً، ولا سيما من قبل تركيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول البلطيق وأستراليا وكندا، واستنكاراً من قبل روسيا التي اعتبرت هذه المبادرة “معادية لروسيا بشكل واضح، وتم اصطناعها من أجل تغذية المشاعر القومية المتطرفة في أوكرانيا”، على حد تعبير وزير الخارجية سيرغي لافروف، والذي قال إن هذه المشاعر “تشجعها السلطات في كييف وزعماء العالم الغربي على حد سواء”. وتسببت المشاركة التركية على مستوى وزير الخارجية في انزعاج روسيا، وأدت إلى إلغاء لقاء قمة كان مبرمجاً بين بوتين وأردوغان في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، فضلاً عن التصعيد العسكري النوعي الروسي في سورية، ومن ذلك الغارات الجوية الروسية على مواقع فصائل سورية حليفة لتركيا في عفرين نهاية الشهر الماضي، وهي الأولى من نوعها منذ السيطرة على مدينة عفرين عام 2018. مما يعني أن العلاقات مرشحة لمرحلة جديدة من التقلبات.
وفي هذا الوقت، نقلت صحيفة “حرييت” التركية، عن مصادر مطلعة، أن الأنباء التي تحدثت عن قرب عقد صفقة بين تركيا وروسيا لتوريد منظومة دفاع جوي “أس 400” جديدة إلى أنقرة “غير صحيحة”. وجاء ذلك تعقيباً على ما أعلنه المدير العام لشركة “روس أبورون إكسبورت” الحكومية لتصدير الأسلحة، ألكسندر ميخيف، بأن “توقيع عقد مع تركيا لتوريد جديد لأنظمة الدفاع الجوي أس-400، سيتم في المستقبل القريب”.
المصدر: العربي الجديد