تتجاذب الأفرقاء اللبنانيين وجهتا نظر متناقضتان، كلتاهما ترتبطان بالرؤية الأميركية للوضع في لبنان: طرف يرى أن واشنطن عملت على فرض حصار خانق إلى أقصى الحدود على البلد، رغبة منها في انهياره كلياً. وطرف آخر يعتبر أن ما يجري طبيعي، نتيجة انخراط لبنان في سياسة المحاور.
من يطبع مع الأسد؟
وبين هاتين الوجهتين يحاول اللبنانيون نسج مواقفهم ربطاً بالتطورات الإقليمية والدولية. وبناء على الرياح التي تهبّ من الإقليم، يسعى الجميع إلى تحديد مواقفهم وخطواتهم السياسية، مراهنين على تغير في السياسة الأميركية. وكثر يؤكدون أن المسار الأميركي في عهد جو بايدن مختلف كلياً، معتبرين أن سماح واشنطن لوفد رسمي لبناني بالذهاب إلى دمشق خطوة أميركية تراجعية، واعتراف بالأسد، وتمهيد لمنح استثناءات من عقوبات قانون قيصر.
لكن هل صحيح أن هناك تغيراً في السياسة الأميركية تجاه لبنان؟ وهل التوجّه الجديد ينطوي على رغبة في عدم ترك البلد ينهار، فيما تتسارع وتيرة الانهيار بقوة كبيرة؟ واللافت أن المراهنين على التغير الأميركي، ويسارعون إلى تبني وجهة النظر هذه، هم من يعلنون المواجهة الدائمة مع واشنطن، مقتنصين فرصة التطبيع مع نظام الأسد، برضى أميركي.
وبعض من العازفين على هذا الوتر، هم حلفاء النظام السوري الذين يدّعون الانتصار على المشروع الأميركي وكسره وضربه في مهده. وهذا في مقابل تثبيت الأسد وانتصاراته، مهللين لأي موقف أميركي من شأنه رفع العقوبات والتساهل في التطبيع مع نظامه.
وبشار الأسد أكثر من يجيد استخدام مثل هذه الظروف، وإشاعة بروباغاندا تسعفه في إظهار انتصاره وعودة الجميع إليه. فيظهر وكأنما لبنان هو الذي يعود إلى سوريا لحاجته الماسة إليها، وليست سوريا هي التي تعود إلى لبنان. ولاحقاً يستخدم الأسد حتماً البروباغندا التي يجيدها للقول إن لبنان هو الذي يطالب بعودة سوريا.
لبنان الأسد: حلفاء بلا دولة
واستفاد الأسد من زيارة وفد رسمي لبناني إلى دمشق، للبحث في توقيع اتفاقية استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية. واللافت أن الوفد اللبناني سعى إلى عقد لقاء مع رئيس النظام السوري، الذي لم يجد وقتاً لذلك، ولم يوافق على تحديد موعد للوفد. وربما هو ينتظر زيارة نظيره اللبناني ميشال عون لتتويج مسيرة الانتصارات “الأقلوية”.
ولكن كان لافتاً تفرّغ الأسد لاستقبال وفد درزي لبناني، في إشارة لافتة إلى نزعته الأقلوية تلك، بناءً على ما جاء في مضمون الكلام مع الوفد الدرزي. وكأن “الأقليات” هي التي تقود “مشروع تحرير الأمة”! والأرجح أن الأسد لم يستقبل الوفد الرسمي اللبناني، لأنه ذهب خانعاً وبناء على طلب أميركي، وليست غايته الاحتفاء بالنصر وكسر الحصار، بل جاءت الزيارة بناء على مصلحة لبنانية، وإذن أميركي.
أما الوفد الدرزي فيتعلق بمفهوم انتصاره في الحرب، وليقول إنه يستقبل حلفاءه على خطّ إيصال الرسائل إلى خصومه، واستعادته تلك المشهدية السابقة، التي طالما كان نظامه خبيراً فيها لبنانياً: عدم التعاطي الرسمي مع لبنان كدولة، والتعاطي مع حلفاء وفرق متناثرة من طوائف وجماعات مختلفة.
لبنان: مزيد من التشرذم
وترتبط بمشروع النظام السوري هذا ملفات وشؤون لبنانية كثيرة:
– استيراد الغاز المصري والكهرباء الأردنية. ويُحضّر لذلك باجتماع تنسيقي لوزراء الطاقة في لبنان وسوريا ومصر والأردن يوم غد الأربعاء 8 أيلول الجاري في عمان. والنظام السوري يجيد آلية التفاوض في هذا الموضوع، وتحقيق أكبر المكاسب السياسية: اعتراف به وبشرعيته عربياً، ولو بلا وصوله إلى نتيجة قريباً. وخصوصاً أن إيصال الغاز والكهرباء إلى لبنان يحتاج إلى استقرار شامل أولاً، وإلى موقف إيراني من هذا التطور، ثانياً.
– تشكيل الحكومة اللبنانية، بعدما صار مرتبطاً بأبعاد سورية أيضاً، إلى جانب البعدين الفرنسي والإيراني. وفي هذا السياق يأتي الاتصال بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والإيراني إبراهيم رئيسي، ودعوتهما المشتركة إلى تشكيل حكومة. وهذا ما يعتبره البعض ضوءاً أخضر لتسهيل تشكيل الحكومة.
وفي ضوء هذه المعطيات سارعت قوى كثيرة في لبنان إلى ربط عملية تشكيل الحكومة بالانتصار الذي حققه النظام السوري، وكذلك بالانتصار الذي أعلنه نصر الله عن استقدامه النفط الإيراني. وتنطوي هذه الانتصارات –بحسبهم- على تبديل الاستراتيجية الأميركية وكسر الحصار.
وترتبط هذه الأجواء بأبعاد سياسية مختلفة، محلية مبنية على حسابات ضيقة. وفي طليعتها حسابات رئيس الجمهورية ميشال عون. أما دولياً وإقليمياً، فتؤدي هذه الأجواء في ظل التحولات الحاصلة، إلى مزيد من الانقسامات والتشرذم في لبنان.
المصدر: المدن