تعد جمهورية إيران الإسلامية دولة منقسمة على نفسها. فمنذ نشأتها في عام 1979، سادها التوتر بين الرئيس، الذي يرأس حكومتها المنتخبة، والمرشد الأعلى، الذي يقود مؤسسات الدولة الموازية التي تجسد المُثل الإسلامية الثورية لإيران الحديثة. ولقد شغل المرشد الأعلى الحالي، علي خامنئي، منصب الرئيس من عام 1981 إلى عام 1989. وخلال فترة رئاسته، اشتبك مع المرشد الأعلى في ذلك الوقت روح الله الخميني، وهو رجل الدين الكاريزمي الذي قاد الثورة الإيرانية، حول مسائل السياسة والموظفين والأيديولوجيا. وبعد وفاة الخميني في عام 1989، عُين خامنئي مرشداً أعلى، واستمر في الصراع مع سلسلة طويلة من الرؤساء الأكثر اعتدالاً منه.
لم يكن الرؤساء الإيرانيون الجدد متطرفين بمعايير المؤسسة السياسية في البلاد، لكن على الرغم من اختلاف وجهات نظرهم العالمية وقواعدهم الاجتماعية، فإنهم اتبعوا جميعاً سياسات داخلية وخارجية وصفتها الدولة الموازية بأنها علمانية وليبرالية ومضادة للثورة وتخريبية. وفي كل حالة، تحرك خامنئي وفيلق الحرس الثوري الإسلامي، الذي يخضع مباشرة للمرشد الأعلى، بقوة ووحشية في بعض الأحيان لاحتواء الحكومة المنتخبة والسيطرة عليها. أدت تلك المعارك إلى استنزاف الإدارة الحكومية وشلّها.
وبانتخاب الرئيس الإيراني الجديد، ربما يكون هذا الصراع قد حسم أخيراً لصالح الدولة الموازية، إذ يعتبر إبراهيم رئيسي، الذي تولى الرئاسة في انتخابات هُندِست بدقة في يونيو (حزيران)، موظفاً مخلصاً للنظام الديني الإيراني. ولعقود من الزمان، شغل رئيسي بشكل غير بارز منصبي المدعي العام وقاضٍ، بما في ذلك عندما كان رئيساً للسلطة القضائية الإيرانية لمدة عامين. خلال مسيرته المهنية، اشتهر رئيسي بدوره المزعوم في الإعدام بإجراءات موجزة لآلاف السجناء السياسيين وأعضاء الجماعات المسلحة اليسارية في أواخر الثمانينيات. ومن الواضح أن حرصه على القضاء على أي تهديد محتمل للدولة الموازية أكسبه ودَّ خامنئي، ولا شك في أن إحدى أولوياته كرئيس ستكون إحكام سيطرة المرشد الأعلى على الهيئات الإدارية للحكومة المنتخبة.
كما سيتطلب السياق الذي تولى فيه رئيسي الرئاسة قطيعة مع الماضي، إذ عانت إيران من الفقر بسبب خناق العقوبات الأميركية وجائحة “كوفيد-19”. علاوة على ذلك، فإن التطلعات الديمقراطية للطبقة الوسطى المنكوبة آخذة في التآكل بينما يرتفع الشعور الجماعي بالعزلة ووضع الضحية. في حين، لا تزال المنطقة المحيطة مصدر تهديد لإيران، ما يقوي أولئك الذين يقدمون أنفسهم كحماة الأمن القومي. في ظل كل هذه الاضطرابات، ستحتاج إيران قريباً إلى زعيم جديد – في مرحلة انتقالية من المقرر أن يلعب فيها الرئيس الجديد دوراً حاسماً، ومن المحتمل أن يصعد فيها إلى أعلى هرم الحكم في الجمهورية الإسلامية.
تعد هذه التغييرات بحقبة جديدة في تاريخ الجمهورية الإسلامية، إذ يمكن للاضطراب الناجم عن انقسام النظام أن يفسح المجال أمام إيران لتكون أكثر تماسكاً وأكثر حزماً في محاولة تشكيل المنطقة على طريقتها الخاصة. ومع تلاشي العديد من القادة والحركات التي هيمنت على السياسة الإيرانية على مدى العقود الثلاثة الماضية، أصبح لدى فصيل من القادة اليمينيين الفرصة لإعادة صياغة المشهد السياسي والمجتمعي في إيران بطرق من شأنها تمكين الحرس الثوري من بسط سيطرته على اقتصاد البلاد، ما سيؤدي إلى تقييد الحريات السياسية بشكل أكبر، مع إبداء تسامح محدود في القضايا الدينية والاجتماعية. وسيدافع هذا الفصيل الجديد عن القومية الإيرانية لتوسيع قاعدته الشعبية على الصعيد المحلي، مع الاعتماد على الأيديولوجيات الشيعية والمعادية للولايات المتحدة لاستعراض القوة إقليمياً.
يمكن لهذه التغييرات أيضاً أن تعيد تشكيل علاقة إيران بالعالم، بخاصة مع الولايات المتحدة. ولن تتردد الحكومة الجديدة -مدعومةً من الحرس الثوري الواثق من نفسه وغير خائفة من أعمال تخريبية محلياً- في مواجهة التهديدات الوجودية المتصورة من الولايات المتحدة. وعلى الرغم من احتمال تقديم تنازلات في الملف النووي للتخفيف من الأزمات الاقتصادية والبيئية المتصاعدة في الداخل، فإن فريق السياسة الخارجية القادم سيتجاهل تطلعات الرؤساء السابقين في التقارب مع الغرب، ويسعى بدلاً من ذلك إلى إقامة تحالفات استراتيجية مع الصين وروسيا. وسيكون تركيزها الأساسي على الشرق الأوسط، إذ ستسعى إلى إبرام اتفاقات أمنية وتجارية ثنائية مع جيرانها ومضاعفة جهودها في تقوية “محور المقاومة،” الذي يمثل شبكة متشعبة من الوكلاء في العراق ولبنان وسوريا واليمن وبقية المنطقة.
في هذا الصدد، ستكون العلاقات الأميركية الإيرانية عبارة عن صفقات مرتبطة بمخاوف أمنية ملحة، ولن يجد الوعد المغري بتحقيق تقارب أوسع أرضية خصبة في طهران بعد الآن، لأن نافذة الفرصة “لعقد صفقة كبرى” بين البلدين ستكون ربما قد أُغلقت.
من رحم الصراع
وُلد النظام السياسي الذي أتى به الخميني في عام 1979 من رحم الصراع. وبينما كان إسقاط الشاه، وهو الديكتاتور الذي حكم إيران منذ عام 1941، حدثاً سلمياً إلى حد ما، كان الصراع بين الإسلاميين وخصومهم دموياً ومطوّلاً. ولقد حارب أنصار الخميني رجال الدين التقليديين والقوميين والماركسيين من أجل السلطة، فيما عزز استيلاء الطلاب الموالين للخميني على السفارة الأميركية في 1979 قبضة الإسلاميين على السلطة، وكذلك فعلت الحرب التي خاضتها إيران ضد جارتها العراق من 1980 إلى 1988، والتي ساعدت في توسيع قوتها شبه العسكرية المتمثلة في الحرس الثوري كقوة موازنة الجيش الإيراني الذي دربته الولايات المتحدة.
أنشأت القوى الإسلامية الغالبة مؤسسات موازية أطلقوا عليها بشكل جماعي اسم “نظام”، الذي صُمم لتحييد أي تهديدات من الدولة العلمانية. لكن سرعان ما وجدت إيران نفسها ممزقة بالخلافات بين المرشد الأعلى والرئيس، وبين قادة الحرس الثوري والجيش، وبين الفقهاء الدينيين في مجلس صيانة الدستور (الهيئة التي تتمتع بحق النقض على التشريع) وأعضاء البرلمان. ولقد تعمقت الانقسامات بعد وفاة الخميني، عندما تولى الجناح المحافظ للإسلاميين السلطة وأطاحوا إخوانهم اليساريين. لكن الطائفة الحاكمة انقسمت مبكراً بين الدولة الموازية والحكومة برئاسة المرشد الأعلى الجديد والرئيس على الوالي.
يعتبر المرشد الأعلى بموجب الدستور صاحب القرار النهائي في إيران، لكن بإمكان الرئيس والهيئات الحكومية أحياناً استغلال المشاعر الشعبية للتغلب عليه. وتسلط الانتخابات الضوء على قضايا مثيرة للفُرقة مثل الحقوق المدنية وقواعد اللباس الإلزامية والفساد والعلاقات مع الولايات المتحدة، ما يحفز الحركات الاجتماعية والاحتجاجات التي لا تستطيع الدولة الموازية تجاهلها. ولقد أدت الانتخابات الرئاسية لعام 1997 إلى ولادة حركة إصلاحية هائلة أحدثت تطلعاتها “الديمقراطية الدينية” تغييراً حتى مصطلحات المرشد الأعلى.
لكن بالنسبة إلى رؤساء إيران الجدد، عادةً ما تنتهي محاولات استغلال المشاعر الشعبية للضغط من أجل الإصلاح بالإحباط والفشل. وفي هذا الصدد، سبق أن تعّهد جميع الرجال الذين عملوا رؤساء لإيران خلال العقود الثلاثة الماضية – أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد وحسن روحاني – بشق طريق مستقل وفتح البلاد على العالم. لكنهم فشلوا حتماً بمجرد توليهم المنصب، بسبب معارضة المرشد الأعلى النشطة. ولقد بدأ كل هؤلاء الرجال أيضاً حياتهم المهنية موالين متحمسين للدولة الموازية، وساعدوا بالفعل في بناء أسس الجمهورية الإسلامية.
كان رفسنجاني أول رئيس يحاول إضعاف الدولة الموازية، وهو الذي كان أحد مؤسسي المؤسسة الدينية، فضلاً عن كونه داعمًا فعالاً لتعيين خامنئي مرشداً أعلى. وخلال فترة رئاسته من 1989 إلى 1997، حاول رفسنجاني إخراج البلاد من مرحلتها الثورية وإعادة بناء اقتصادها المتصدع عن طريق تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا. لكن سرعان ما انخرط في صراع على السلطة مع خامنئي عندما سعى لإدماج الحرس الثوري الإيراني في الجيش أو في الأقل تحجيمه إلى فرقة نخبوية صغيرة. كان هدفه تركيز صناعة القرار داخل الحكومة ومنع مصالح الدولة الموازية من تحديد الأمن القومي.
لكن خامنئي أحبط تلك الخطة، وألغى تعديلاً دستورياً مقترحاً كان سيسمح لرفسنجاني بالترشح لولاية ثالثة على التوالي. لكن عندما ترك رفسنجاني منصبه عام 1997 لم يخرج من المشهد السياسي. وبدلاً من ذلك، أدخلت المنافسة بينه وبين خامنئي عنصراً من التقلب في السياسة الانتخابية الإيرانية التي استمرت ربع قرن.
لذا يعود الفضل جزئياً في الفوز الساحق الذي حققه خاتمي في انتخابات عام 1997 إلى رفسنجاني، الذي استخدم سيطرته على الآلة السياسية لدعم المرشح الإصلاحي غير المتوقع. ولقد حظي برنامج خاتمي التقدمي بإعجاب فئة الشبان الساخطة والنساء والطبقة الوسطى التي تضخمت بسبب إصلاحات رفسنجاني الاقتصادية. وخلال ولايته، أشرف خاتمي على فترة وجيزة من الانفتاح، إذ ظهرت مئات من وسائل الإعلام الجديدة وطرح المثقفون أفكاراً حول التعددية الدينية التي هددت احتكار المرشد الأعلى الحقيقةَ الإلهية. لكن تحرك خامنئي والحرس الثوري بقوة لإحباط أجندة خاتمي الإصلاحية، ودرء أي تقارب مع الولايات المتحدة، واعتقل مئات الصحافيين والمثقفين والطلاب.
في أعقاب هذا القمع، بدت الدولة الموازية على وشك الفوز في صراعها على السلطة مع الحكومة. في انتخابات 2005، أدار أحمدي نجاد حملة شعبوية وهزم رفسنجاني الذي وصفه برمز النظام الفاسد. وطوال فترة رئاسة أحمدي نجاد، اخترق الحرس الثوري الإيراني مؤسسات الدولة، وسرّع العمل في البرنامج النووي للبلاد، واستغل عزلة إيران الدولية تحت العقوبات لتعزيز أنشطته الاقتصادية. وعندما احتج ملايين الإيرانيين على إعادة انتخاب أحمدي نجاد المطعون فيها في عام 2009، سحق الحرس الثوري الإيراني المظاهرات بعنف. حينئذ، قامت الدولة الموازية بسجن العديد من القادة الإصلاحيين ووضع آخرين رهن الإقامة الجبرية. وكان من بين القتلى والمعتقلين أطفال وأقارب كبار المسؤولين المحافظين. وفي لحظة ما، حتى الدولة الموازية تصدعت، واضطر قادة الحرس الثوري الإيراني إلى التجوال في جميع أنحاء البلاد لإطلاع الأعضاء العاديين وغيرهم من الشخصيات المحافظة على مبرراتهم لاستخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين.
ومع ذلك، حتى أحمدي نجاد اشتبك في النهاية مع خامنئي والحرس الثوري الإيراني. ففي ولايته الثانية، تخلى عن موقفه المناهض لأميركا لصالح المبادرات تجاه واشنطن، واستبدل خطابه الإسلامي السابق بمناشدات القومية الفارسية. كما اتهم الحرس الثوري ووكالات المخابرات بتهريب سلع فاخرة مثل السجائر ومنتجات التجميل النسائية (وغيرها من السلع) تحت ستار كونها مواد حساسة من وإلى إيران. وفي محاولة لتجاوز المؤسسة الدينية ذاتها التي أوصلته إلى السلطة، ألمح إلى أنه يتمتع بعلاقة من نوع ما بـ”الإمام الغائب،” وهو شخصية مخلِّصة يبجلها الشيعة.
بعد أن تحمّلوا رئيساً خارجاً عن السيطرة لثماني سنوات، بدأ الإيرانيون يدعمون الإصلاحيين الذين وعدوهم بالعودة إلى الحياة الطبيعية. استُبعد رفسنجاني من الترشح في انتخابات 2013 من قبل مجلس صيانة الدستور، المكلف تقييم ولاء المرشحين للمرشد الأعلى، ولجأ إلى حشد الدعم لحليفه روحاني، الذي عمل مستشاراً سابقاً للأمن القومي ومفاوضاً بشأن البرنامج النووي لدى رفسنجاني وخاتمي. تبنى روحاني برنامجاً طموحاً في حملته الانتخابية، وتعهد بالدفاع عن المواطنين ضد عسكرة الحرس الثوري والتطرف الديني الذي قيد الحياة اليومية للمواطنين، ورفع الإقامة الجبرية عن القادة الإصلاحيين، وتحسين الاقتصاد عن طريق حل المأزق النووي. وفي هذا الصدد، ربط النمو الاقتصادي بالمفاوضات النووية، قائلاً “من الجيد تشغيل أجهزة الطرد المركزي، لكن حياة الناس يجب أن تسير؛ يجب أن تشتغل مصانعنا”.
بدعم رفسنجاني والإصلاحيين، انتُخب روحاني رئيساً في عام 2013 وأعيد انتخابه في عام 2017. عاد التكنوقراط إلى المناصب العليا واستأنفوا المفاوضات النووية التي بدؤوها قبل عقد من الزمن في عهد خاتمي، لكن هذه المرة، تحدثوا ليس فقط مع القوى الأوروبية ولكن أيضاً مباشرة مع الولايات المتحدة. كانت المحادثات النووية الأولية بين إيران والولايات المتحدة قد بدأت سراً في عُمان، بمباركة خامنئي، قبل بضعة أشهر من انتخاب روحاني. لكن الفريق الجديد استخدم تفويضه الشعبي للضغط على المرشد الأعلى لإظهار المزيد من المرونة في المفاوضات أكثر مما كان قد يرغب. وبعد عامين، أبرم مفاوضو روحاني اتفاقاً مع ست قوى عالمية، سُمي بخطة العمل الشاملة المشتركة، التي عرضت على إيران تخفيف بعض العقوبات مقابل السماح بتفتيش منشآتها النووية والحد من تخصيب اليورانيوم في الأقل لبعض الوقت.
الأسرار المسربة
ردت الدولة الموازية بقوة لتهدئة الحماس الذي استقبل به الاتفاق النووي لعام 2015. لكن من خلال القيام بذلك قدمت دليلاً فاضحاً على الصراعات الداخلية داخل الدولة الإيرانية. في أبريل من هذا العام، سُرب ملف صوتي من ثلاث ساعات كان جزءاً من سجل شفوي سري تابع لذراع في مكتب الرئيس، بشكل مجهول إلى وسائل الإعلام. وفي هذا الملف الصوتي، يمكن سماع وزير الخارجية محمد جواد ظريف، يقول بصراحة إن سياسة إيران الخارجية كانت دائماً في خدمة الحرس الثوري الإيراني.
يؤكد هذا التسريب أن إدارة روحاني اعتبرت البرنامج النووي الإيراني مشروعاً للحرس الثوري، ولا يصب بالكامل في صالح الدولة. وفي المحادثة المسجلة، قال ظريف إنه أخبر خاتمي وروحاني أن “مجموعة [يُفترض أن تكون الحرس الثوري الإيراني] ألقت بالبلاد في بئر، وهذه البئر هي بئر نووية”.
وذهب ظريف إلى حد اتهام الحرس الثوري الإيراني بالتعاون مع روسيا لإحباط جهوده الدبلوماسية بشأن القضية النووية. ولقد خشي الروس من أن تؤدي اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية إلى تقارب إيراني أميركي. وبحسب ظريف، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، فور إعلان خطة العمل الشاملة المشتركة لمناقشة الصراع السوري. ثم بدأت الصواريخ والطائرات الروسية بالتحليق عمداً في مسار أطول عبر الأجواء الإيرانية لمهاجمة القوات التي تقاتل نظام بشار الأسد في سوريا. ويشير ظريف إلى أن بوتين كان ينوي ربط إيران بالتعاون مع روسيا في معركة إقليمية كوسيلة لإبقاء طهران في صراع مع واشنطن.
وفي التسجيل الصوتي المسرب، صرخ ظريف بأن الدولة الموازية أمضت ستة أشهر قبل دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ وهي تحاول تخريبه. وأوضح أن إطلاق الحرس الثوري “صاروخاً كُتب عليه يجب محو إسرائيل، وتلك الأمور مع روسيا والأحداث الإقليمية التالية، مثل اقتحام السفارة السعودية [في طهران]، والاستيلاء على السفن الأميركية – كل ذلك تم لمنع تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة”.
في السنوات التي أعقبت تبني خطة العمل الشاملة المشتركة، وجد ظريف نفسه يسعى باستمرار لإصلاح الأضرار التي يلحقها الحرس الثوري الإيراني بدبلوماسيته الحذرة، ولم يكن سليماني يخبر ظريف الكثير عن خططه. على سبيل المثال، في يناير 2016، خُففت العقوبات الأميركية على شركة الطيران الإيرانية الرئيسة، “إيران إير”، كجزء من الاتفاق النووي. لكن بعد خمسة أشهر، علم ظريف من وزير الخارجية الأميركي جون كيري، أن الخطوط الجوية الإيرانية لم تستأنف فقط استخدام الرحلات المدنية المفترضة لنقل الأسلحة إلى حزب الله في سوريا، وهو الذي أدى إلى فرض العقوبات عليها في المقام الأول، وإنما زادت من عدد تلك الرحلات ستة أضعاف بناءً على أوامر مباشرة من سليماني.
عرضت تلك الرحلات الجوية أسطول “إيران إير” المتقادم لخطر عقوبات جديدة. ولقد لخص ظريف بغضب وجهة نظر الحرس الثوري الإيراني بشأن المسألة، وهي أنه إذا كان استخدام شركة الطيران الإيرانية لهذا الغرض يمنح ميزة اثنين في المئة على البدائل، “حتى لو كلف ذلك دبلوماسية الدولة 200 في المئة، فإن الأمر كان يستحق العناء لاستخدامه!”. (قد يكون قبول سليماني المخاطر واستعداده لاستفزاز الولايات المتحدة أسهم في نهايته، إذ استُهدِفَ في أوائل عام 2020 وقُتِلَ بواسطة طائرة أميركية مُسَيَّرة في بغداد).
يتحسّر ظريف على حقيقة أن شعبيته بين الإيرانيين انخفضت من 88 في المئة إلى 60 في المئة في السنوات التي أعقبت وضع اللمسات الأخيرة على خطة العمل الشاملة المشتركة. في حين، قفزت نسبة تأييد سليماني إلى 90 في المئة بفضل تصويره البطولي في وسائل الإعلام المدعومة من الحرس الثوري.
طوال فترة توليه منصبه، وجد روحاني نفسه في حالة حرب مع الدولة المُوازية، تماماً مثل أسلافه. بالعودة إلى سنوات الثمانينيات، ساعد روحاني على توسيع الحرس الثوري الإيراني من منظمة تطوّعية صغيرة إلى جيش متكامل، بقوات برية وبحرية وجوية. وبعد ثلاثة عقود، اتهم علناً الحرس الثوري الإيراني بالتدخل الواسع. خلال مؤتمر لمكافحة الفساد عُقد في عام 2014 مع رؤساء القضاء والبرلمان، عبر عن إحباطه من الأنشطة غير العسكرية للحرس الثوري. ومن دون تسمية الحرس، قال صراحة إنه “إذا تجمعت الأسلحة والمال والصحف والدعاية في مكان واحد، يُمكن للمرء أن يكون واثقاً من وجود فساد”.
مدد إلهي
كان من الممكن أن ينتهي هذا الصراع المألوف بين الحكومة الإيرانية المُنتَخبة، في عهد روحاني، ومؤسسات الدولة الموازية في عهد خامنئي، بشكل غير حاسم مثل الاشتباكات السابقة. لكن عاملاً خارجياً -الذي يتمثل في انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة في عام 2016- حسم المعركة لصالح الدولة الموازية. كانت حكومة روحاني قد طمأنت الإيرانيين بأنه سيكون من المستحيل على الولايات المتحدة إلغاء الاتفاق النووي من جانب واحد، لأنه كان اتفاقاً دولياً تم التفاوض عليه بين القوى العالمية الست، وصادق عليه مجلس الأمن الدولي. لكن الحرس الثوري الإيراني قدّم رهاناً مختلفاً، لأنه لا يثق بوعود الولايات المتحدة ولا بالاتفاقات الدولية. ما إن فاز ترمب بالرئاسة الأميركية حتى اصطفت الشركات الوهمية للحرس الثوري على أبواب البنك المركزي ووزارة البترول والوكالات الحكومية الأخرى للمشاركة في مناقصات الحصول على عقودٍ للتحايل على العقوبات المالية وعقوبات الطاقة الأميركية المحتملة.
عندما انسحب ترمب رسمياً من الاتفاقية في مايو (أيار) 2018، كان هؤلاء “المستفيدون من العقوبات” على أهبة الاستعداد للسيطرة على القطاع المالي الإيراني. وبسبب إعادة فرض العقوبات الأميركية، اضطرت إيران الآن إلى الاعتماد على شبكة الحرس الثوري للتحايل على الشبكات المصرفية الدولية لبيع نفطها وجلب العائدات إلى البلاد. ووفقاً للرئيس السابق للبنك المركزي الإيراني، عبد الناصر همّتي، فإن استيلاء الحرس الثوري الإيراني على هذه المعاملات المالية مكنه من تلقي عمولة تُعادل 20 في المئة على كل حوالة تقوم بها الحكومة. لذا فإن سياسات الولايات المتحدة مكَّنت بشكلٍ فعال الحرس الثوري من تعميق نفوذه الاقتصادي.
نفت إدارة ترمب وجود انقسامات سياسية ذات معنى داخل الجمهورية الإسلامية، وتبنت على هذا الأساس سياسة “الضغط الأقصى” الهادفة إلى خفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر وخنق اقتصادها. لكن، داخل البيت الأبيض، لم يكن هناك توافق على الهدف النهائي. بينما كان هدف ترمب إجبار إيران على التفاوض بشأن اتفاقية جديدة، ضغط وزير خارجيته آنذاك، مايك بومبيو، ومستشاره للأمن القومي في ذلك الوقت، جون بولتون، من أجل تغيير النظام. وبغض النظر عن هدفه النهائي، فإن النهج الجديد لم يُجنب حتى المسؤولين الإيرانيين الذين عارضوا الحرس الثوري الإيراني من الداخل، إذ فرضت إدارة ترمب عقوبات على الوزير ظريف في يوليو (تموز) 2019. هكذا أدى انتخاب ترمب إلى ترجيح كفة الميزان لصالح الدولة الموازية على حساب الحكومة الإيرانية المنتخبة.
لقد أصبح إصرارُ إدارة ترمب على أن النخبة الإيرانية موحدة بمثابة نبوءةٍ تُحقق ذاتها، إذ دفعت تصرفات ترمب السياسة الإيرانية في اتجاه أكثر تطرفاً. وفي ظل التهديد الوجودي الذي تمثله سياسة ترمب في فرض عقوبات أميركية شديدة القسوة، خفَّت حدة الانقسامات الداخلية في إيران. وساعدت سياسات البيت الأبيض على صياغة توافق واسعٍ بين النخب الإيرانية على أن الطريقة الوحيدة لحماية المصالح الوطنية للبلاد هي تأمين النظام، الأمر الذي سمح للحرس الثوري الإيراني بتقديم نفسه، لأول مرة منذ تأسيسه، بطلاً للقومية الإيرانية.
لطالما ادعى الحرس الثوري الإيراني أن صواريخه الباليستية المتطورة وشبكة الوكلاء في جميع أنحاء الشرق الأوسط تحمي وحدة أراضي إيران. في عام 2019، بعدما اتضح أن سياسة “الصبر الاستراتيجي” الإيرانية في التمسك بخطة العمل الشاملة المشتركة لم تؤتِ ثمارها، شرع الحرس الثوري الإيراني في اتخاذ إجراءات لإرساء الردع ضد المزيد من الضغوطات الأميركية. ولقد بدأ في تنفيذ هجمات متمادية، وشن غارات مُروعة ودقيقة بطائرات مُسَيَّرة على منشأة لمعالجة النفط في المملكة العربية السعودية، وأسقط طائرة أميركية من دون طيار فوق الخليج العربي. في يناير (كانون الثاني) 2020، أطلق الحرس الثوري الإيراني صواريخ باليستية على القوات الأميركية في العراق رداً على اغتيال سليماني. كما عملت هذه العمليات على إسكات مُعارضي الحرس الثوري الإيراني داخل الدولة والمجتمع.
على مدى عقود، كانت الدولة المُوازية تخشى أن يتحد المجتمع الإيراني مع الحكومة المنتخبة للتغلب عليها، لذا كانت تتصرف بسرعة وعنف في كثير من الأحيان لإحباط هذا الاحتمال. الآن يُمكن أن تتصوّر مُستقبلاً جديداً يتحد فيه كلٌّ من المجتمع الإيراني والحكومة خلف الدولة الموازية، ما يجعل المرشد الأعلى والحرس الثوري الإيراني الأدوات الأساسية لتطلعاتهما.
اصطفاء الميدان
بحلول انتخابات هذا العام، تغير المشهد السياسي والاجتماعي في إيران. توفي رفسنجاني، الذي كان على مدى عقود قوة مهمة في السياسة النخبوية، توفي فجأة إثر نوبة قلبية في عام 2017. ولا يزال خاتمي قيد الإقامة الجبرية الفعلية، وتمنع الحكومة وسائل الإعلام الإيرانية من ذكره أو نشر صورته، فيما لا يزال أحمدي نجاد منتقداً صريحاً. ولقد أوضح مستشارون سابقون في وسائل الإعلام الإيرانية أن أحمدي نجاد يتصور نفسه كبوريس يلتسين إيران، قدره أن يمتطي صهوة الاحتجاجات الجماهيرية إلى السلطة لإنقاذ الأمة، لكن فصيل أحمدي نجاد طُهِّر منه كل مؤسسة مهمة.
كانت الكتلة الإصلاحية الخاسر الأكبر في انتخابات 2021، التي فشلت خلالها قيادتها المُسِنَّة في تقديم جبهة مُوحَّدة أو خطة عمل متماسكة. لقد استطاعت الحركة ذات مرة حشد ما يكفي من الدعم الشعبي لدفع خاتمي إلى الرئاسة، وشكلت لاحقاً جزءاً مهماً من التحالف وراء روحاني. الآن، ومع ذلك، تبدو منفصلة عن الواقع، إذ ارتفع معدل التضخم في إيران إلى 40 في المئة بعد انسحاب ترمب من خطة العمل الشاملة المشتركة بينما تغرق البلاد في الفقر. وحسب منظمة الضمان الاجتماعي الإيرانية، تضاعف معدل الفقر المُدقع في غضون عامين فقط، من 15 في المئة في عام 2017 إلى 30 في المئة في عام 2019. وتراجعت جهود المجموعات الطلابية والمنظمات النسائية لتنظيم الاحتجاجات ضد القمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان، وحلت محلها أعمال شغب عنيفة مُرتَجلة بسبب المظالم الاقتصادية ونقص المياه وانقطاع التيار الكهربائي. ويوحي شعار المحتجين الغاضبين -“الإصلاحيون، المحافظون، انتهى وقتكم”- بأنهم ينظرون إلى الإصلاحيين كمتواطئين في بؤسهم.
في الماضي، نجح الإصلاحيون في الانتخابات من خلال بث الفُرقة في المشهد السياسي. على سبيل المثال، تبنى خاتمي في حملته الانتخابية برنامجاً وأجندة لتعزيز المجتمع المدني والديمقراطية، فيما وعد روحاني بحل القضية النووية وتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. وتُعتبر هذه القضايا بمثابة إسفين في جسد المجتمع الإيراني، وقد أدت إثارتها إلى تحويل حملات هؤلاء المرشحين إلى حركات اجتماعية زادت من إقبال الناخبين على صناديق الاقتراع، لا سيما بين النساء والشبان. ولقد نجحت هذه الاستراتيجية في إجهاض أول محاولة لرئيسي لبلوغ منصب الرئاسة في عام 2017، عندما خسر بشكل كبير أمام روحاني.
لكن في انتخابات هذا العام، لم يجد خامنئي والحرس الثوري الإيراني مُقاومةً تُذكَر في طريقهما إلى هندسة فوز رئيسي. استبعد مجلس صيانة الدستور جميع المرشحين الذين كان بإمكانهم تحفيز الناخبين، ولم يقتصر الأمر على منع كل الإصلاحيين وأحمدي نجاد ولكن أيضاً علي لاريجاني، رئيس البرلمان السابق المعتدل نسبياً، وكبير المفاوضين النوويين سابقاً. وكان المرشح المعتدل الوحيد الذي بقي في اللعبة هو محافظ البنك المركزي، عبد الناصر همّتي.
في النهاية انقسم أنصار الإصلاحيين إلى ثلاثة معسكرات: الذين قاطعوا الانتخابات، والذين أدلوا بأصوات فارغة، وأولئك الذين صوتوا لصالح همّتي. وجاءت نسبة المشاركة 49 في المئة، وهي أدنى نسبة لانتخابات رئاسية في تاريخ الجمهورية الإسلامية. في معقل الإصلاحيين بطهران، صوت 26 في المئة فقط من الناخبين المؤهَّلين. وبحسب الأرقام الرسمية، حصل رئيسي على 62 في المئة من الأصوات، وهمّتي على ثمانية في المئة فقط.
الكتلة الإصلاحية الخاسر الأكبر في حملة 2021
نجحت حملة المتشددين ليس فقط عن طريق القمع ولكن أيضاً من خلال سرقة صفحة من كتاب قواعد اللعبة الخاص بخصومهم. وعلى الرغم من أن رئيسي ينحدر بشكل مطلق تقريباً من خلفية القضاء الديني، فإنه كمرشحٍ رئاسي، شدد على الأمن والازدهار بدلاً من الدين والأيديولوجية. ولقد خاض حملة انتخابية على أساس أجندة مكرسة لبناء “إيران قوية”، واعداً بمعالجة الفساد الحكومي وتحييد تأثير العقوبات من خلال استنساخ تجربة اعتماد الحرس الثوري الإيراني على نفسه في صناعة الدفاع في المجالات غير العسكرية أيضاً. وعندما نظم أنشطة انتخابية في الأسواق والمصانع وفي بورصة طهران، أظهرته وسائل الإعلام التابعة للحرس الثوري وهو يتحدث إلى العمال والتكنوقراط حول إعادة فتح الشركات المُفلِسة وإنعاش الاقتصاد.
لم يقدم رئيسي نفسه كتكنوقراط وسطي فحسب، بل انتزع من الإصلاحيين خطابهم العلماني أيضاً. وفي هذا الصدد، وعد بمحاربة العنف المنزلي وتعهّد بمنع شرطة الآداب المكروهة بشدة من مضايقة الناس العاديين وتشجيعها بدلاً من ذلك على ملاحقة الفساد الاقتصادي والإداري. ولقد أظهرت الصور التي نشرتها حملته إلى أن من بين مؤيديه نساء متحررات لم يلتزمن الزي الرسمي الصارم.
لجأ متشدّدون آخرون إلى النبرة عينها. ففي مناظرة بين الإصلاحيين والمتشددين في تطبيق الدردشة “كلوب هاوس” خلال الحملة، سخر مسعود دهناماكي، وهو رجل أمن وقائد ميليشيا سيئ السمعة اعتاد منذ التسعينيات على الهجوم الجسدي ضد المثقفين والطلاب والأشخاص العاديين بسبب سلوكهم “غير الإسلامي”، من الإصلاحيين لتركيزهم على القيود الاجتماعية. وفي لحظة معبرة، قال إن الحجاب الإجباري لم يعد مصدر قلق كبير للنظام.
من ناحيته، قال رئيسي أيضاً في مناسبات عديدة إنه يدعم الانفتاح على العالم. ويمثل هذا تحوّلاً كبيراً عن نهج المواجهة الذي اتبعه المتشددون تقليدياً. كما أوضح أنه لا يعترض على الصفقة النووية في حد ذاتها، بل فقط على الجوانب المُحَدِّدة للاتفاقية التي سمحت للولايات المتحدة بانتهاكها من دون محاسبة. وحدث التحول الأكثر دراماتيكية في أوساط مؤيدي رئيسي المتشددين، الذين عارضوا بشدة خطة العمل الشاملة المشتركة حتى أسابيع قليلة قبل بدء حملته، حين غيروا رأيهم وتعهدوا بالامتثال للاتفاقية. من هؤلاء مُجتبى زنور، العضو البارز في البرلمان الذي قاد ذات مرة مجموعة من المحافظين إلى المنصة وأضرم النار في نسخة من الاتفاق النووي بعد انسحاب ترمب منه. بعد انتقاد خطة العمل الشاملة المشتركة لسنوات، بات يدعم الآن التزام رئيسي بها، طالما أن الولايات المتحدة تحترم التزاماتها.
الدولة الموازية كدولة مُوحدة
هذه المرة، قد يُصاب بخيبة أمل أولئك الذين يتوقعون تكرار الصراع المألوف بين رئيس الجمهورية والمرشد الأعلى. وسوف يخيم الانتقال الوشيك إلى المرشد الأعلى التالي على رئاسة رئيسي. وعلى الرغم من شح المعلومات بشأن حالة خامنئي الصحية والبالغ من العمر 82 سنة، باستثناء جراحة البروستاتا التي أعلِن عنها في عام 2014، يُتوقع على نطاق واسع أن يُستبدل خامنئي خلال فترة رئاسة الرئيس الجديد.
في هذا الصدد، تعمل القوى التي هندست انتصار رئيسي على تطهير أعلى المراتب في الجمهورية الإسلامية لتسهيل عملية الخلافة هذه. وإذا لم يُعين هو نفسه خليفة لخامنئي، فسوف يلعب رئيسي دوراً أساسياً في تحديد المرشد الأعلى المقبل. لذا، من غير المرجح أن يمضي فترة رئاسته في تحدّي الشاغل الحالي أعلى منصب في البلاد.
ويُعتبر رئيسي ببساطة جُزءاً من مشروعٍ سياسي أكبر يسعى إليه خامنئي في سنواته الأخيرة. قد يقوم الرئيس الجديد بتعديل مواقفه من الناحية التكتيكية، لكن أي تحول حقيقي في السياسة سيحدث بتنسيق مع المرشد الأعلى. وعملت الدولة المُوازية على توسيع قاعدتها الاجتماعية إلى أبعد من الإسلاميين لتشمل القوميين غير المُتدينين، في محاولة لاستيعاب التأثير المتزايد لأولئك الذين يحتقرون الفرض الرسمي والانتقائي للشريعة الإسلامية. ولقد انضمت نساءٌ محجبات كثيرات إلى الحملة المناهضة للحجاب، لأنهن يرون أن الزي مثيرٌ للانقسام، ويُولد الاستياء تجاههن في الشارع. ويهدف استحواذ رئيسي الانتقائي -الذي يُمكن الرجوع عنه- على أجندات السياسة الخارجية والاجتماعية للإصلاحيين إلى تقويض قدرتهم على العودة إلى المشهد السياسي في هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ الإيراني.
تعميق العلاقات الأمنية والاقتصادية مع الصين وروسيا
على الرغم من بدايتها السلسة فإن هذه المناورة العالية المخاطر يمكن أن تنهار بسرعة، إذ سيحتاج رئيسي وفريقه من التكنوقراطيين اليمينيين الشبان إلى رعاية الدولة لاستمالة النُخب المُستاءة، لا سيما فئة المحافظين المُهمشين. كما سيتوجب عليهما تلبية احتياجات السكان الفقراء، الذين دعم جُزءٌ منهم رئيسي بسبب وعوده الاقتصادية.
في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، سيُحاول رئيسي قلب التطلعات العالمية الفاشلة لأسلافه رأساً على عقب. كان الرؤساء السابقون يعتقدون بأن أفضل طريقة لضمان أمن وسلامة إيران هي جعل البلاد جُزءاً مُزدهراً من الاقتصاد العالمي. وعلى عكس ذلك، يرى رئيسي أن جعل إيران دولة قوية ذات نفوذ إقليمي بلا منازع هو وحده القادر على ردع القوى الخارجية وتحقيق الازدهار الاقتصادي. لذا، من المتوقع أن يُعزّز القدرات العسكرية للحرس الثوري لمواجهة الضغط الأميركي، وهذا يعني تعزيز شبكة الوكلاء التابعة للفيلق في العراق ولبنان واليمن وخارجها، وكل ذلك في خدمة حماية الدولة المُوازية الأصلية في إيران.
كما ستعمل الإدارة الجديدة على تعميق العلاقات الأمنية والاقتصادية لإيران مع كل من الصين وروسيا. وكان بوتين وجّه واحدةً من أولى وأقوى التهاني للرئيس الجديد، إذ أعرب عن ثقته في أن انتخاب رئيسي سيؤدي إلى “زيادة تطوير التعاون الثنائي البنّاء بين بلدينا”. كما وقعت طهران أخيراً شراكة تجارية وعسكرية مدتها 25 عاماً مع بكين، التي أُجلت في البداية في عام 2016، لأن إيران كانت تأمل في تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا.
من المفارقة أن استبعاد أي تقارب مُحتَمل مع الولايات المتحدة أدى إلى تماسك السياسة الخارجية الإيرانية، إذ إن هناك الآن إجماعاً عاماً بين مكونات الطيف السياسي الإيراني على أن العلاقة العدائية بين بلادهم والولايات المتحدة ستستمر إلى أجل غير مسمى. وبالتالي، لم تعد الفصائل المُتنافسة في إيران مهووسة بالتداعيات المحلية لتحسين العلاقات مع واشنطن. وهذا يعني أنه لا نجاح خطة العمل الشاملة المشتركة ولا فشلها يمكن أن يخلّا بشكل كبير بتوازن القوى الداخلي. ولقد قللت هذه الديناميكية الجديدة من احتمالية حدوث عمل تخريبـي داخلي في حالة تحقيق اختراق دبلوماسي، لكنها أيضاً عززت موقف إيران التفاوضي في المفاوضات الجارية.
يحتاج رئيسي إلى نجاحٍ دبلوماسي على الجبهة النووية للتعامل مع بحر من المشاكل الداخلية. لكن على عكس روحاني، فهو لا يرهن مصيره السياسي بالاتفاق النووي. ويرى فريق السياسة الخارجية المتشدد التابع له أن الولايات المتحدة مُلتَزِمة أيديولوجياً تدمير الجمهورية الإسلامية، ويَفتَرِض أن واشنطن ستحاول التراجع عن أي اتفاق إما بشكل صريح، كما فعل ترمب، وإما بدهاء، كما فعلت إدارة أوباما، من خلال عدم إزالة العقوبات المالية على إيران كما يجب. لذلك، تُحضّر القوى السياسية التي دفعت رئيسي إلى الرئاسة، لإجراءات انتقامية خطوة بخطوة في حال تعثّر إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. كما أنها مُلتزمة الحفاظ على البنية التحتية النووية الإيرانية، لامتلاك خيار تسليح البرنامج بسرعة إذا انهار الاتفاق. في غضون ذلك، قد يؤدي توقيع اتفاق نووي جديد بشكل غير مقصود إلى خلق بيئة إقليمية أكثر قابلية للاشتعال. وتخشى طهران من أن يمنح ذلك الولايات المتحدة حرية مطلقة للتصدي لنفوذها الإقليمي، فيما يخشى أعداء طهران من أن الاتفاق سيزود إيران بالمزيد من الموارد لتعزيز وكلائها وبرنامجها الصاروخي.
يبدو أن المعضلة الأمنية الناتجة عن ذلك مُهَيَّأة لتصاعد التوترات بين إيران والولايات المتحدة، المتورطتين سلفاً في صراعٍ منخفض المستوى ومستمر مع ذلك في العراق، حيث تصطدم القوات الأميركية والميليشيات الموالية لإيران بشكل متقطع. وعلى الرغم من إصرار رئيسي على احتمال إجراء محادثات مع القوى الإقليمية لتقليل التوترات، ترى القيادة الموحدة الناشئة في إيران نفسها في وضع رابح-رابح. إنها واثقة من جيشها وعرفت منذ فترة طويلة كيف تزدهر في النزاعات وكيف توسع دائرة حلفائها من غير الدول (ميليشيات وأحزاب). وبفضل التحوّل السياسي الداخلي الجديد، يُمكنها أيضاً تقديم تنازلات تكتيكية لخصومها من دون المخاطرة بتفاقم الانقسامات الداخلية. ومع بدء عهد جديد للجمهورية الإسلامية، تسير إيران والولايات المتحدة على مسارٍ تصادمي.
*محمد آية الله طبار هو أستاذ مشارك للشؤون الدولية في كلية بوش للإدارة الحكومية والخدمات العامة بجامعة تكساس “أي أند أم”، وزميل في معهد بيكر للسياسة العامة بجامعة رايس. وهو مؤلف كتاب “فن الحكم الديني: سياسة الإسلام في إيران”.
مترجم من فورين أفيرز، سبتمبر (أيلول)/ أكتوبر (تشرين الأول) 2021
المصدر: اندبندنت عربية