تحتفظ فكرة ( تقسيم البلاد ) بأثر بالغ السلبية في نفوس معظم السوريين، ولم يكن مبعث هذه السلبية من تداعيات الواقع الراهن لسورية، بل من إرث تاريخي ربما يبدأ من أواخر الخلافة العباسية، مروراً بتفسّخ وتداعي الخلافة العثمانية ، وصولاً إلى اتفاقية سايكس بيكو في العصر الحديث، وما عزّز نزعة الحساسية تلك، هو أن مجمل الطروحات النهضوية والإصلاحية منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومروراً بمرحلة المد القومي في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، كانت تتخذ من فكرة ( الوحدة – بمفهومها الإسلامي أو القومي) شعاراً مركزياً لمشاريعها، وفي الوقت ذاته تنظر إلى فكرة التقسيم أو التجزئة، على أنها الآفة الأساسية التي تحول دون أي نهضة باتجاه البناء والتقدم.
واقع الحال يؤكّد أن هذا الإرث النفسي المنحدر من الماضي، والذي أفضت تراكماته إلى نشوء ثقافة شبه متجذّرة في الوعي السائد، تنحو على الدوام إلى ربط مفهوم التقسيم بالمستعمر الخارجي، هذه الثقافة ذاتها تشهد – اليوم – انفجارات هائلة مُحدِثةً في النفوس مفارقات مذهلة ومخيفة بآن معاً، ذلك أن التداعيات الفعلية لمفهوم التقسيم، أصبح السوريون يعيشون تحت وطأتها، ويرضخون لجميع تجلياتها المقيتة، ولكن ليس بفعل المستعمر الخارجي، بل بفعل قوى محلية، تنتمي جميعها إلى الجغرافية السورية. ولئن كان من الصحيح أن التقسيم الراهن للجغراقية السورية لا ينبثق من مرجعية دستورية، وكذلك هو بعيد كل البعد عن أي توافق مجتمعي أو إرادة شعبية سورية، بل هو نتيجة لتعاظم النفوذ الدولي في البلاد، وولاء كل جماعة محلية لطرف خارجي، تنسق معه، وتعمل لصالحه بالوكالة، وكذلك من الصحيح أن الحدود القائمة بين مناطق سلطات الأمر الواقع في سورية هي على الغالب تخوم قتالية، أي إن الذي رسمها وحدّدها هي موازين القوى وطبيعة الاحتراب على الأرض، وبالتالي هي قابلة للتغيّر بتغيّر موازين القوى، إلّا أن ذلك كله لا ينفي ولا يخفف المعاناة الفعلية التي يواجهها المواطن السوري على العموم، جرّاء هذا التقسيم الإجرائي ذي المرجعية القتالية.
تتموضع على الأرض السورية أربعٌ من سلطات الأمر الواقع، وكل سلطة منها تستظل بغطاء وحماية طرف خارجي، فمن أقصى الشرق في سورية وحتى مدينة منبج غرب الفرات تسيطر قوات سورية الديمقراطية، بمرجعية سياسية يمليها حزب الاتحاد الديمقراطي ( الجناح السوري لحزب العمال الكوردستاني) وبمظلة وحماية عسكرية مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مناطق الشمال الشرقي ( الباب وجرابلس وأعزاز وعفرين، إضافة إلى رأس العين وتل أبيض) تحكمها سلطة تتشكل من الفصائل التي تنسق معها وتدعمها الحكومة التركية، من خلال مرجعية سياسية تكاد تكون شكلية للإئتلاف والحكومة المؤقتة، أما في الشمال الغربي، حيث منطقة أدلب وجزء من ريف حلب الغربي، تحكمها هيئة تحرير الشام ( جبهة النصرة سابقاً) بالتحالف مع بعض الفصائل الإسلامية ذات المنشأ القاعدي، وفيما تبقى من الجغرافية السورية تسيطر قوات نظام الأسد بدعم مباشر من إيران وروسيا.
لا ترمي هذه المقالة الوجيزة إلى المقارنة بين تلك السلطات الأربع من حيث طبيعة المشروع الذي تحمله كل سلطة، ولا كذلك من حيث الجانب القيمي أو الفحوى الأخلاقي لك منها أيضاً، ولا يعنينا في هذا السياق المرجعيات الإيديولوجية والسياسية لتلك السلطات، فذلك يحتاج إلى حيّز آخر لا تتسع له مقالة كهذه، وإنما نحاول الوقوف عند السمات العملية المشتركة بينها جميعاً، وذلك لاعتبار أن الآثار الفعلية لتموضع تلك السلطات على الأرض السورية هو ما يمسّ بشكل مباشر حياة المواطن السوري، وبالتالي فإن الأهم بالنسبة إلى السوريين، هو الآثار المباشرة التي يتركها سلوك كل سلطة على حياة المواطنين ومعيشتهم وأمنهم وكرامتهم وتأمين ما يحتاجونه من خدمات حياتية أساسية، وبناء عليه، يمكن الوقوف عند أكثر من سمة عملية مشتركة بين تلك السلطات الأربع، مع التأكيد الدائم على التفاوت النسبي في هذه السمات بين سلطة وأخرى.
1 – لئن كانت جميع تلك التشكيلات السلطوية ذات صبغة محلية من حيث انتماء كادرها البشري، إلّا أن تلك المحلّية سرعان ما يختفي أثرها ويُفتَقد مضمونها أمام الوصاية الخارجية المفروضة عليها، وذلك بحكم الدعم المالي والعسكري والسياسي المُستورد من الخارج، وبالتالي فإن منشأها المحلّي لا يغدو ذا أهمية أمام انصياعها الكلّي لتنفيذ أجندة الطرف الخارجي صاحب الوصاية والتمويل. وبهذا تكون قوّة هذه السلطات وضعفها بآن معاً، لا يرتبط بقوّة أو ضعف مقوّماتها الذاتية المحلية بقدر ما هو مرتبط برغبة الوصيّ عليها، يقوّيها حين يشاء ويُضعفها حين يشاء، وذلك وفقاً لما تمليه مصالحه.
2 – ولعله من البدهي، والحال كذلك، أن تكون مصادر شرعية تلك السلطات مُستَمدّة من مظلاتها الخارجية التي تدعمها، وليست منبثقة من إرادات وتطلعات المواطنين التي تحكمهم، لذلك نجد أنه كلّما ساور القلق إحدى تلك السلطات حول مصيرها، أو كلّما واجهت أزمة ما، فإنها سرعان ما تهرع إلى الفضاء الخارج عن نطاق سلطتها، أو إلى الجهات الخارجية التي يمكن أن تكون لها مبعث طمأنينة، لذلك من غير المُستغرب أن يبتهج نظام الأسد – مثلاً – وتنتابه الغبطة والزهو حين يؤكّد الروس استمرار دعمهم لنظام حكمه، أو حين يزور وزير صيني دمشق مؤكّداً حرص بلاده على التعامل بإيجابية مع نظام دمشق. وكذلك لا تخفي سلطات قسد ملامح حبورها وشعورها بنوعٍ من الطمأنينة حين يزور مسؤول فرنسي أو خليجي مناطق سيطرتها ويجتمع ببعض مسؤوليها، وربما تبالغ في التغطية الإعلامية لهكذا زيارة، للإيحاء بأنها تحظى بدعم واعتراف خارجيين.
3 – الآثار السلبية الكبيرة التي تنعكس على المواطنين نتيجة العلاقة القائمة على الصراع والتناحر فيما بين تلك السلطات، كانت لها تداعيات خطيرة تصل إلى حدّ الفظاعة بالنسبة إلى المواطنين السوريين عموماً، ولم تستثن تلك التداعيات جانباً من حياة الناس، فالمواطن الذي يقيم في مدينة الباب مثلاً، لا يستطيع الذهاب إلى حلب من أجل العلاج إذا اقتضت الحاجة ذلك، وإذا تجرأ على الذهاب فسيكون ذلك في عداد مغامرة ربما تودي باعتقاله أو تعذيبه أو موته، علماً ان المسافة بين المدينتين لا تتجاوز ( 45 كم )، بل ربما وقعت القرية السورية الواحدة تحت سيطرة سلطتين متنازعتين، فتنشطر القرية إلى نصفين، ولا يكون بمقدور الأخ ان يزور بيت أخيه أو القريب قريبه، أو ربما لا يستطيع المشاركة في جنازته إذا حضرته الوفاة ( قرية عون الدادات الواقعة شمال غرب منبج بمسافة 12 كم هي نموذج لهذه الحالة، حيث تسيطر قسد على الشطر الشرقي من القرية، وتسيطر فصائل الجيش الوطني على شطرها الواقع غرب النهر).
3 – لعل النتيجة الطبيعية الناتجة عن السمتين السالفتين هي أن تلك السلطات لا تعير أي اهتمام لمحكوميها، إن لم نقل أنها تهينهم وتحتقرهم في كثير من الحالات، فهم – أي المواطنون – ليسوا مصدر شرعيتها أو قوتها، وليسوا هم الطرف المُنتِج لمشاريعها، بل يمكن الذهاب إلى أن تلك السلطات تحاول فرض مشاريعها على أنقاض المشروع الجماهيري المحلّي، وبالتالي فإن العلاقة الناظمة بين معظم تلك السلطات وبين محكوميها هي علاقة قهرية، قائمة على الإكراه والتسلّط وكمّ الأفواه، لذلك من غير المُستَغرب أن تُنتِج تلك السياسات التي تمارسها سلطات الأمر الواقع على المواطنين بعض الظواهر الخطيرة والمدمّرة على المستوى القيمي والأخلاقي، كظاهرة ( التشبيح والتشبيح المضاد) حرصاً على إظهار الولاء للسلطة ( أي سلطة كانت) اتقاءً لشرها، أو حرصاً على محاباتها، وكذلك ظاهرة ( القنوط والإحباط الشديد) وهذا ما يتجلى في العبارات العفوية التي يطلقها المواطنون في حالات ضيقهم وعدم قدرتهم على الاحتمال، كعبارة ( بدنا نخلص).
4 – لعل السمة المشتركة الأكثر إثارة للاستغراب، هي أن جميع تلك السلطات تحرص أشدّ الحرص في خطابها السياسي والشعاراتي على أن تكون عبارة ( وحدة سورية أرضاً وشعباً ) متصدّرة جميع بياناتها الرسمية، ومجلجلةً في وسائل إعلامها، وتلك هي المفارقة التي ينبغي على المواطن السوري – مُكرهاً – أن يصدّقها، وعليه أن يقوى على احتمال الوجع الناتج من هذه الفرية الفاقعة من جهة، ومن الواقع المؤلم الذي يعيشه من جهة أخرى.
المخاوف التي ورثها المواطن السوري من أخطار التقسيم، والتي شكلت جزءاً من ثقافته الوطنية والدينية والاجتماعية، سواء الخوف من تقسيم الأمة أو الدولة، أصبحت من المخاوف المنسيّة، في ضوء مخاوف راهنة لا تقف أخطارها عند تخوم الأمة – الدولة – فحسب، بل تطال المدينة الواحدة وربما القرية الواحدة، ولئن كانت فكرة رفض مبدأ التقسيم تنبثق من النفوس حرصاً على كيان قومي أو إسلامي أو حتى قطري، فإن الخوف اليوم ينبثق من الحرص الوجودي للمواطنين على أسباب عيشهم واستمرار حيواتهم.
المصدر: تلفزيون سوريا