ركّزت معظم التقويمات التي كتبها مثقفو المعارضة السورية وناشطوها عن أسباب فشل الثورة السورية في تحقيق أهدافها على العامل الذاتي، عفوية التحرّك الثوري وهشاشة بنيته التنظيمية؛ فشل المعارضة التقليدية في ملء فراغ القيادة وتقديم تصوّر سياسي موجّه ودافع نحو التماسك والتطور والتوسع؛ وسقوطها في شباك الدول المموّلة. لم تلتفت هذه التقويمات إلى العامل الموضوعي المرتبط بشكل رئيس بطبيعة الاجتماع السوري، ومكوناته القومية والدينية والمذهبية والاجتماعية، والتباينات القائمة بينها، وعدم إيلاء أحزاب المعارضة التقليدية، طوال نضالها السياسي، أي اهتمام بهذه المكونات، وغيابها التام عن تصوّراتها للتغيير المنشود، حيث كان يجب وضع استهدافها في قلب خطة العمل التنظيمي، كي تكون جزءاً من معادلة النضال السياسي، وحاضنة لقوى التغيير الديمقراطي، ما جعلها، المكوّنات، تتحرّك على خلفية تباين المنطلقات والمواقف وتصوراتها لذواتها ومصالحها، فلكل مكوّن شكواه وسردياته وتطلعاته ووزنه المحلي وعلاقاته الإقليمية والدولية. وهذا أضعف الثورة وأفقدها وحدة الموقف وتناسقه، وترابط التحرّكات وتكاملها.
انطلقت أحزاب المعارضة التقليدية في تعاطيها مع الواقع السياسي والاجتماعي السوري من تصوراتٍ ذات بعد واحد؛ حيث اعتبر الإسلاميون السوريين مسلمين؛ واعتبرهم القوميون عرباً، من دون أن يلتفتوا إلى بقية “التضاريس البشرية” ودورها في تشكيل القناعات والمواقف، وما يمكن أن تضفيه على طبيعة الوطن والهوية الوطنية من تعقيدات، وما تفرزه من عقبات، فالهوية مركّبة ومتحرّكة، والسمتان المذكورتان لا تستغرقان كل أبعاد الهوية السورية؛ فليس كل السوريين مسلمين، حيث هناك مسيحيون، ولا كلهم عرباً، حيث هناك كرد وتركمان وشيشان وشركس وكلدان وآشوريون وأرمن، إلى جانب العرب، وليس ثمّة اتفاق عام على طبيعة الهوية السورية والتوافق عليها بين هذه المكونات.
كانت الأحزاب التقليدية قد عملت على تشكيل أطر تنظيميةٍ مبنيةٍ على أسس فكرية وسياسية عبر استقطاب أفراد من الفئات الاجتماعية المتوسطة والعليا، أفراد متعلمون وذوو مكانة جيدة في الهرم الاجتماعي، ووضعهم في دائرة علاقاتٍ هرميةٍ خاصة وتلقينهم مبادئ سياسية وتغذية تطلعاتهم الشخصية باعتبارهم بؤر حداثة وتقدّم، مختلفة عن المجتمعات التي ينتمون إليها ومتميزة عنها؛ فتشكّلت مكونات اجتماعية جديدة موازية للمكونات الأصلية منفصلة، ومترفعة عنها على خلفية اعتبارها بؤراً للجهل والتخلف. ما جعل العمل مع الناس والالتحام بهم في مجتمعاتهم الأصلية ثقيلاً على نفوس الكوادر الحزبية التي تعتبره ردّة إلى الجهل والتخلف، وكرّس عدم ثقة ونظرة سلبية متبادلة.
لم تسع هذه الأحزاب إلى معرفة مجتمعاتها وطبيعة مكوّناتها القومية والدينية والمذهبية معرفة دقيقة وتفصيلية لمعرفة بناها الذهنية والأخلاقية وطبيعة تطلعاتها وإمكاناتها وتحديد المداخل المناسبة للتعاطي معها، ومد شبكاتها التنظيمية بينها، وجذب أعداد وازنة منها إلى ساحة النضال السياسي المباشر، واستقطاب قطاعات أخرى، أوسع، كحاضنة اجتماعية للتغيير، حيث بقيت معرفتهم بها عامةً وسطحية، وبقيت الهوّة بينهما واسعة والمفاصلة راسخة، ما أبقاها نخبوية وعلاقتها بالعمق الشعبي هامشية. ظهرت هذه المحصلة واضحةً وصادمةً عند انفجار ثورة الحرية والكرامة، حيث وجدت هذه الأحزاب نفسها غير قادرة على التواصل مع جموع المتظاهرين وقيادتهم الميدانية، لأنها لا تعرفهم، وأنها غير قادرة على لعب دور ايجابي إلى جانبهم، والتأثير فيهم وتوجيه تحرّكاتهم، فتحرّكت باسم الثورة، لكن بعيداً عن قواها الحقيقية وفعالياتها العملية.
وقد كشفت تطوّرات الثورة وتداعياتها الآنية والطويلة عن هذا الخلل بقسوةٍ ومرارة، حين رفض الكرد في بدايات الثورة دخول الجيش الحر إلى مناطقهم، تجلّى ذلك بوضوح في تصدّيهم لمحاولة هذا الجيش السيطرة على مدينة رأس العين وإفشالها بالقوة. وتعمّقت الفجوة أكثر بعد تشكيل الكانتونات الكردية، وقيام الإدارة الذاتية، بصدور مواقف عربية رافضة، وبتشكيل أطر سياسية على أساس قومي عربي في منطقة شرق الفرات تحديداً، تعبيراً عن رفضها الاعتراف بوجود أساسٍ واقعي للمطالب الكردية، وشيطنة مواقف الكرد باعتبار الدعوة إلى دولة اتحادية دعوة إلى الانفصال، علماً أن الدولة الاتحادية لا تتناقض مع وحدة سورية أرضاً وشعباً، ووقوف غالبية المسيحيين والشيعة مع النظام، والموحّدين الدروز على الحياد، مع الإشارة إلى تنامي نزعة الخصوصية والتميز بينهم، والتطلع إلى تشكيل كيان سياسي خاص بهم في محافظة السويداء على شاكلة الإدارة الذاتية شرق الفرات.
واقع الحال أن ظاهرة التنافر والرفض المتبادل بين مكوّنات المجتمع السوري ليست جديدة، ولها سوابق مؤلمة، إن على الصعيد الديني والمذهبي، حيث دار صراع عنيف بين أبناء المذاهب المختلفة، سنّة، شيعة، علويين، دروز، إسماعيليين، وداخل كل مذهب، أو على الصعيد القومي بين العرب والكرد، وبين العرب والسريان الآشوريين، أو بين الكرد والسريان الآشوريين. صراعات على العقيدة والشرعية والتاريخ والحقوق. ففي الفضاء الإسلامي، وتحت سقفه العقائدي، طُرِحت اجتهادات، ونشأت مذاهب فقهية تحوّلت، مع مرور الوقت، إلى طوائف دينية، طائفة كبيرة، أهل السنّة والجماعة، أو السنّة، وطوائف أصغر، ليست متساوية في الحجم، شيعة، علويين، دروز، إسماعيليين .. إلخ، ترتب على مواقفها من بعضها، ومن الأحداث، قيام أحزاب سياسية، بالمعنى الذي أخذته الكلمة في الحضارة الإسلامية: أي الولاء لشخصٍ أو موقف، وانفجار صراعاتٍ عنيفةٍ ودامية بينها، عمَّقت الخلافات الفقهية، وكرّست انقساماتٍ أفقية وعمودية في الاجتماع الإسلامي، كل هذا أفرز قراءاتٍ مختلفة ومتناقضة لأحداث التاريخ وتداعياتها: روايات، وأحكام دينية وأخلاقية، مشاعر وعواطف متضاربة وأحقاد وعداوات، بقيت ساريةً في ثنايا التاريخ الإسلامي، يُضاف إليها في كل جيل تفصيلٌ جديدٌ أو رواية جديدة مشوّهة لحدث قديم. تراكمات متواترة، بحيث غدا لدى كل منها رواية خاصة بها عن المذاهب والطوائف الأخرى تُشيطنها، وتجعلها في موقع الخارج على العقيدة، والسبب المباشر لكل المشكلات والصراعات والأخطاء التي شهدها التاريخ الإسلامي، وأصبح كل مذهب منها أو طائفة أو جماعة صغيرة شخصاً اعتباريّاً يرى في ذاته معبِّراً عن الإسلام، مع أنه نشأ بعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) بعقود، وأن التمذهب به ليس من أصول الدين أو العقيدة. ونال المذهب السنّي غلبةً كونه ظل المذهب الرسمي للإمبراطورية الإسلامية في معظم مراحلها، وغدا الأكثرية العددية، ما جعله يعتبر نفسه الممثل الشرعي للإسلام، والمذاهب/ الطوائف الأخرى خوارج عليه، مع أنها لم تخرج على أصول العقيدة الإسلامية التي حدّدت بثلاثة أسس: الألوهية، الرسالة، الميعاد/ يوم الحساب أو القيامة، وأن الاختلافات الأخرى اجتهادات قد تكون صحيحة أو خاطئة، لكنها لا تُخرج أصحابها من الدين الإسلامي.
وقد أدّى نشوء الدول الوطنية، وظهور الفكرة القومية وانتشارها، وبروز الأفكار الحديثة: العلمانية والاشتراكية وتبنّي أسس حديثة للدولة، أسس دستورية وقانونية، إلى زيادة عوامل الفرقة والانقسام، حيث تحمّس أبناء المذاهب الإسلامية الصغيرة للقومية، والعلمانية، والديمقراطية، والاشتراكية، والشيوعية، مدخلاً لتغيير توازن القوى بين المذاهب وتحقيق مساواة في الحقوق والواجبات مع الأكثرية السنّية، عبر تغيير مرجعية العقد الاجتماعي، بينما لم تنظر الأكثرية السنّية، لاعتبارات عقائدية ومصلحية، إلى هذه التحولات والتطورات بعين الرضا، فقد رأت في تبنّيها حطّاً من قدر الإسلام وخفضاً في مكانته، فالإسلام في نظرها متفوّق ثقافيّاً وسياسيّاً، وهو أكبر من القوميات، والانتماء إليه يتجاوز الأوطان، فالأمة الإسلامية واحدةٌ موحدة. كما أدّى التمايز والوعي القومي إلى انفجار صراعات مفاهيمية وحقوقية بين مكوّنات الشعب السوري، العرب والكرد والسريان الآشوريين، على خلفية تباين الهويات، وإلى بروز برامج سياسية قومية ودعوات إلى صياغة عقد اجتماعي جديد، يلحظ التباينات ويستجيب لمقتضياتها.
لم تنجح الدولة الوطنية السورية الأولى، دولة الاستقلال، في جسْر الهوة بين مواقف مكوناتها الدينية والمذهبية، فضلاً عن القومية والإثنية، فبقي الاندماج الوطني هشّاً وعرضة للاهتزاز والتفكّك عند أي تحدٍّ، والاستقرار مرهوناً بقوة السلطة وقدرتها على ضبط الحراك الاجتماعي والسياسي أكثر من ارتباطه بالتماسك الذاتي، وزاد الطين بلّة اعتماد نظام “البعث” سياسة “فرّق تسد” عبر تغذية الانقسامات العمودية الحادّة القائمة والعمل على تكريسها، باعتماد سياسة التمييز بين المكوّنات والمناطق، وتعميقها، عبر زرع الشقاق بينها وتخويفها بعضها من بعض، وتبنّي ما سميت سياسة حماية الأقليات والتأسيس لاصطفافات مذهبية محلية، تتضافر مع أخرى إقليمية ودولية وتستقوي بها. وقد فاقم الوضع استمرار الأحزاب التقليدية على مواقفها السياسية القديمة، واستمرار تغاضيها عن التعدّد القومي والديني والمذهبي؛ وتجاهل خصوصيات مكوناته، وأسباب نقمة كل منها على السلطة، والبحث عن حلٍّ لتجسير الفجوة بينها، أساسه الإقرار بوجود التعدّد وتباينات المصالح والتطلعات، والتوافق على حل وسط أو قاسم مشترك.
المصدر: العربي الجديد