أقام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه معاوية بن ابي سفيان واليا على الشام في العام واحد وعشرين للهجرة ، وشيئا فشئيا انتقل الأمويون إلى الشام ، أما معاوية فقد تحصن في الشام , واستطاع كسب ولاء معظم القبائل الشامية خاصة اليمانية منها , والحقيقة أن الفضل في تمكنه من الحكم وتحويل ولايته للشام إلى خلافة للدولة في العام 40 للهجرة يعود لقاعدته الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية الشامية , وكان معاوية على وعي عميق بذلك , وورث الأمويون جميعا منه الارتباط المصيري بالشام , ومع الزمن تحول ذلك الارتباط إلى اقتباس وتمثل للروح الشامية ومن ذلك التسامح مع المسيحيين العرب وتقريبهم من دائرة الحكم , فنرى الشاعر الأخطل العربي التغلبي المسيحي صديقا مقربا من معاوية ومن بعده من الأمويين , ومن القصص المنقولة عن ذلك التقارب مع المسيحيين العرب في بلاد الشام ما روي عن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز الأموي الذي يعتبر عند كثيرين من الفقهاء خامس الخلفاء الراشدين من أنه حين مرض قبل وفاته أراد أن يكون قبره في أرض تعود لدير مسيحي فاستدعى راعي الدير وعرض عليه شراء مكان القبر فأجاب الراهب بالقبول ولم يرض أن يأخذ عن ذلك أي ثمن لكن عمر بن عبد العزيز أصر لدرجة أنه أبلغ الراهب أنه سيعدل عن طلبه إذا لم يكن شراء الأرض مقابل الثمن الملائم فاضطر الراهب لأخذ الثمن . وربما يعود السبب المباشر في انهيار الدولة الأموية عندما انهزم آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد في المعركة الفاصلة بين جيشه وجيش العباسيين قرب أحد فروع دجلة ( الزاب الكبير ) هزيمة تاريخية مريرة رغم أن جيشه كان يفوق بأضعاف جيش العباسيين , أقول ربما يعود السبب المباشر لهزيمته فشله في كسب ولاء القبائل الشامية اليمانية التي كانت باستمرار أهم دعائم الدولة الأموية والجفاء الذي اصاب علاقته بتلك القبائل التي لم تعد تشعر بالارتباط المصيري بالدولة الأموية كما كان عليه الحال دائما .
عرف العباسيون بعد انتصارهم الدموي أن من الصعب كسب ولاء الشام وأن جذور الأمويين ستبقى تؤرقهم فيها ولذلك فضلوا بناء عاصمتهم في العراق , لكن عيونهم ظلت تتطلع إلى الشام مهد الامبراطورية العربية – الاسلامية الأولى وصانعة المجد والفتوحات , هكذا رأى هارون الرشيد مرة نقل عاصمة الدولة إلى الرقة التي تنتمي للشام رغم كونها على تخوم الجزيرة ذلك الاقليم الهام الذي يتوسط بين العراق والشام .
وبالعودة للأمويين الذين استطاع أحد أحفادهم ببطولة نادرة إعادة مجدهم في الأندلس وهو عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش باني الدولة الأموية في الأندلس والتي نقلت روح الشام بكل ماتحمله من حضارة وثقافة وعادات وتقاليد إلى شبه الجزيرة الايبرية حيث تمكنت تلك الروح من صنع هوية حضارية وثقافية ولغوية متفوقة نافست بانجازاتها المشرق وسطعت شمسها على أوربة كما كتبت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في عنوان كتابها المشهور ” شمس العرب تسطع على الغرب ” .
باشر عبد الرحمن الداخل ببناء الدولة الأموية في الأندلس باستدعاء أبناء عمومته الأمويين ممن هرب من بطش العباسيين وتفرق في البلاد , كما حرص على دعوة علماء الدين واللغة من المشرق إلى الأندلس , وفتح الباب واسعا لهجرة القبائل الشامية للأندلس , وجاء معها الحرفيون والبناؤون والنخب الثقافية , وأول مافعله عبد الرحمن الداخل كان بناء قصر الامارة في قرطبة على يد المعماريين الشاميين جالبين معهم بذور زراعات بلاد الشام وأشجاره وأزهاره .
أنشأ عبد الرحمن الداخل ضاحية فخمة شمال غرب قرطبة على طراز رصافة جده هشام سماها بالرصافة بنى فيها القصور، وزينها بالحدائق التي جلب اليها الغروس والبذور من الشام وأفريقية، واتخذها مقاما ومنتزها ومركزا للإمارة، وكانت حدائقها نموذجا احتذت به حدائق الأندلس. وعني عبد الرحمن بقصر الإمارة وكان يقوم على مساحة فسيحة مقابل المسجد، ورأى عبد الرحمن أن تستعمل المساحة كلها لتكون قصورا للأمير وأهله وادارة دولته، فأنشأ قصرا خاصا لنفسه وعددا من القصور الصغيرة بجواره لنسائه وأهل بيته، وأحاط هذه القصور كلها بالحدائق الجميلة وأدار عليها سورا، وكانت تلك المساحة تمتد حتى تقرب من ضفة نهر الوادي الكبير، فعمد عبد الرحمن الى جعل قصور الإدارة ناحية النهر، وفتح بابا في السور في الشارع بين النهر والسور، وسمى هذا الباب بباب السدة لكونه يواجه سدة أقاموها على النهر ليحرك ناعورة أقيمت قرب الشاطىء لرفع الماء الى النهر وإيصاله الى المدينة، وقد سمى الحي الصغير الذي أحاط بتلك الناعورة ” بمنية الناعورة ” ولعله نقل فكرة وتصميم النواعير من الشام، حيث ماتزال تعمل في حماة على نهر العاصي بالإسم ذاته.
ومن شعر عبد الرحمن الداخل الذي يظهر فيه حنينه للشام :
أيها الركب الميمم أرضي … أقر من بعضي السلام لبعض
إن جسمي كما علمت بأرض … وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا … وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا … فعسى باجتماعنا سوف يقضي
وحين قويت شوكة الدولة الأموية في الأندلس فكر عبد الرحمن الداخل أواخر عهده في عام 163 للهجرة أن يترك الأندلس ويعهد فيه إلى ابنه سليمان ويجهز اسطولا بحريا وجيشا لتحرير الشام من قبضة العباسيين واستعادته للأمويين وأيده في ذلك أسرته والأمويون في الأندلس لكن صرفه عن ذلك اشتعال الثورة في سرقسطة , ثم توفي عام 172 للهجرة .
هكذا بقيت الروح الشامية متقدة في الأندلس , وبقيت الروح الأموية في الشام .