يتمتع الراحل الدكتور جمال الأتاسي كقائد حزبي عقائدي سياسي؛ بمواصفات رئيسية ثلاث جعلته يشكل أحد أركان العمل الوطني في سورية خلال ما يقارب أربعة عقود.
اولا -الالتزام: فهو مناضل وطني يلتزم قضايا شعبه وأمته ساعيا إلى تحرير الشعب ونهضة الأمة ووحدتها.
وبقي هذا الالتزام هو الذي يطبع مسيرته النضالية والحزبية والسياسية.. تغيرت امامه وقائع كثيرة ومرت أحداث وتبدلات عديدة جوهرية على مستوى سورية الوطن وعلى المستويين العربي والعالمي. نشأ يساريا تقدميا انطلاقا من التزام مكين بقضايا الفقراء والفئات الشعبية بحثا عن العدالة وسعيا في سبيلها. ثم انضم إلى البعث انطلاقا من إيمانه القومي بأمته العربية واقتناعا عقائديا بضرورة العمل لتوحيدها كشرط لتحريرها ونهضتها.
وفي كلا الفهمين لم يكن يرى تناقضا بينهما بل تكاملا يشبع نهمه النضالي إلى تجربة غنية تنجز المطلوب دون إبطاء ودون عوج. وحينما برز جمال عبد الناصر كقائد لمعارك التحرر العربي؛ وجد القوميون والتقدميون أنفسهم أمام قيادة من نوع جديد وتفاعل شعبي معها غير مسبوق في سياق النضال العربي في كافة مراحله. كان التجاوب الشعبي العربي مع قيادة جمال عبد الناصر منقطع النظير وجارفا لدرجة أطاحت بالحركات السياسية المعادية للأمة العربية وانتمائها القومي. وبقيام الوحدة عام 1958 اندفع الجميع متجاوبين مستغرقين في بناء الوحدة والدفاع عنها كتجربة جديدة رائدة وواعدة. وحينما برزت خلافات سياسية بين القوميين الوحدويين؛ اتخذ بعضهم منحى منفصلا تحت تأثير عقلية حزبية أو فئوية او شخصانية ذاتية الأمر الذي أدى إلى نوع من الانشقاق السياسي في صفوف الحركة النضالية العربية. وكان لهذا الانشقاق تأثير سلبي لاحق على مجمل الأوضاع السياسية العربية النضالية.
في تلك المرحلة اتخذ كثير من القوميين والتقدميين موقفا بعيدا عن الخلفيات الحزبية او الفئوية فالتحقوا بصفوف التيار الناصري يؤسسون فيه. يبلورونه تنظيميا. يجتهدون فيه فكريا وسياسيا ويخوضون معاركهم النضالية تحت قيادة جمال عبد الناصر. حصل هذا في كل من سورية والعراق تحديدا حيث كان للبعث الانتشار الأكبر. برزت اسماء كثيرة في هذا الاتجاه كان أبرزها فؤاد الركابي في العراق وجمال الأتاسي في سورية.
كان منطلقهم في هذا الاصطفاف الجديد التزامهم بالشعب والأمة قبل اي انتماء حزبي أو عقائدي أو فئوي. فالتحقوا حيثما رأوا القيادة النضالية التي تقود حركة الجماهير وتتفاعل مع نبضها ومطالبها بالتصاق ميداني عميق لم يعد متوفرا في التجارب الأخرى.
وهكذا برز جمال الأتاسي قائدا ميدانيا راح يتحمل مسؤولياته النضالية الشعبية في وسط أبناء شعبه. وبقي في ضميره النداء الى العدالة وإلى الوحدة العربية. فتميز بذلك عن كثير من معاصريه. وطوال مسيرته السياسية لم يتخل عن هذا كله بل سعى لتأصيله وتعميقه من خلال الإتحاد الاشتراكي العربي في سورية والذي تفاعلت فيه طاقات نضالية شعبية سورية ضخمة وأصيلة وصادقة.
ثانيا – اللياقة الفكرية..
نشأته التقدمية الأقرب فكريا إلى اليسار؛ ثم انضمامه للبعث في وقت مبكر ثم التحاقه بالتيار الناصري ثم انخراطه في صلب عمل تأسيسي تأصيلي منظم؛ مستمسكا بالتزامه الوطني والقومي مستهديًا بعقل نقدي استيعابي مرن يتفاعل مع الأحداث والمتغيرات والمستجدات؛ مستخلصا منها دروسا وافكارا يعيد صياغتها والاستفادة منها في توجيه الوقائع وخدمة اعمل النضالي الميداني. فكان أن جسد منهجية التفاعل الجدلي الإنساني كأفضل ما يمكن أن يكون وتسمح به الظروف الموضوعية للعمل السياسي. فبقي وناضل وعاش عروبيا ناصريا غير بعيد عن اي فكر قومي تقدمي إنساني.
ثالثا – الاستشراف القيادي
استنادًا إلى التزامه أولا وأخيرا بقضايا الشعب والأمة؛ والى تعمقه الفكري فيما يخص هذه القضايا؛ واستنادا إلى عقله النقدي الملتزم الذي مكنه من سعة أفق تحليلية ومن رؤية للوقائع ذات نهج إستراتيجي بعيدة عن أية حزبية أو فئوية او نرجسية ذاتية أو مصلحية؛ فقد امتلك جمال الأتاسي مقدرة استشرافية للواقع أبعد وأعمق من الرؤية المباشرة الآنية ومحدودية آفاقها المستقبلية. وقد مكنه كل هذا من اتخاذ المواقف الوطنية السليمة والتعبير عنها بصدق وسلاسة. متجاوزا معطيات الراهن مستبصرا بعواقب المستقبل..
وقد برزت هذه الصفة القيادية عنده في محطتين:
الأولى: الموقف الوطني من نظام الحكم في سورية منذ أوائل السبعينات.. فقد كان أبرز من اكتشف حقيقة ذلك النظام وطبيعة ارتباطاته بقوى النفوذ الأجنبي في وقت مبكر جدا.
اكتشف في ذروة الدعاية التسويقية للنظام بعد حرب تشرين مباشرة؛ طبيعته الاستبدادية الإستفرادية؛ ومشروعه المذهبي البعيد عن الوطنية والذي سوف يودي بسورية العربية إلى مصير قاتم مجهول. ومن هذه الرؤية الاستشرافية وقف وتصدى ومعه المناضلون الوطنيون في الإتحاد الاشتراكي؛ تصدوا للنظام منذ وقت مبكر جدا فدفعوا ثمنا بالغا وتعرضوا للاعتقال والسجن والتعذيب وبينهم وفي مقدمتهم جمال الأتاسي..
الثانية- في تسعينات القرن العشرين حينما استكشف مبكرا خلفيات غير آمنة ومصالح غير أمينة تتخفى وراء ما سمي ” المؤتمر القومي العربي ” ثم المؤتمر ” القومي الإسلامي “.
ففي غمرة انبساط المثقفين المناضلين القومين من وجود هكذا مؤسسات؛ وإقبالهم عليها بشغف ونهم وإيجابية؛ على أساس أنها سوف تشكل رافعة للعمل القومي تمكينا له من امتلاك أدواته التنظيمية القومية المفتقدة والمطلوبة؛ وقف جمال الأتاسي متشككا منتقدا ثم ما لبث محذرا من عقلية غير شفافة وإرتهانات غير شريفة تحرك وتدير وتسير هذين المؤتمرين. مكتشفا مبكرا أيضا صلتهما بالنظام السوري ومن ورائه مشروع شعوبي مجوسي إيراني.
ولم يكتشف كثير من القوميين هذه الحقيقة إلا متأخرين جدا بعد أن استطاع ذلك المشروع الشعوبي الحاقد على العروبة؛ التغلغل في صفوف أعضاء المؤتمر والتأثير في كثير منهم بأشكال الإغراء والاحتواء والاستقطاب المتنوعة لا سيما المادية والحسية. وكانت النتيجة أن أصبح ما يسمى ” المؤتمر القومي العربي ” أدوات من أدوات المشروع الفارسي بأبعاده الشعوبية التخريبية والتقسيمية. أما ” الإسلاميون” فقد انخرطوا في صلب المشروع الفارسي فأصبحوا جزءا رديفا متمما له في كل ساحة عربية. أما جمال الأتاسي فقد رحل مهموما بهموم الوطن والأمة مصرا حتى آخر عمره بأحقية الأمة العربية في الوحدة والتقدم وأحقية سورية في التحرر من نظام الإجرام والفساد والتبعية والاستعباد.
وقد أتت ” الثورة السورية ” لتبين مدى صلابة جمال الأتاسي وإخوته في النضال من جهة؛ وصوابيته في الخط الفكري والنهج السياسي وفي استشراف المستقبل. فدفع إخوته أثمانا باهظة ثمنا لتحرير سورية ولا يزالون يفعلون. رحم الله الدكتور القائد المفكر المناضل جمال الأتاسي وجميع شهداء ” الثورة ” السورية؛ ونصر المؤمنين المستمسكين بالعروة الوثقى للانتصار ثلاثية: التنظيم والقوة والعمل.
الراحل الاتاسي العروبي والمناضل الاصيل هو احد القامات الفكرية والسياسية التي انتبهت وفهمت مبكرا المخططات الفارسية والطائفية الشعوبية وتصدى لها كما يفعل اليوم عدد كبير من المناظلين الذين لم تخدعهم الدعاية الشعوبية ولا اكاذيب المبادئ القومية لنظام العائلة الاسدية٬ لنكمل طريق المناضل الاتاسي دفاعا عن وجود امتنا ووجودنا الذي تتحالف عليه قوى الشر من كل جهة لتتقاسمه وتجرف تاريخه وتهيمن على ارضه . لن نتمكن من اتمام هذه المهمة الا بوحدة كل عروبي وكل مواطن في منطقتنا لان جميع سكانها بتعدديتهم مهددون في وجودهم وليس العرب فقط. شكرا للدكتور عبد الناصر على مقالته حول الاتاسي الانسان والمفكر والقيادي الوحدوي