هناك أيام في التاريخ العربي تتزاحم فيها الأحداث ، والمناسبات ، من تلك الأيام ، يوم 30 آذار “مارس” على مدى العقود الخمسة المنصرمة ، أولاً : في ذلك اليوم من عام 1968 أعلن جمال عبد الناصر “بيان 30 مارس” يحمل وعداً بتحصين الثورة العربية بالديموقراطية ، بعد أن تكشف له مخاطر النظام الشمولي على مشروع التحرر العربي ، ثانياً : ثم ، وفي مثل هذا اليوم أيضاً من النصف الثاني في عقد ثمانينات القرن الماضي كان الأنطلاق التاريخي لأطفال العرب في فلسطين العربية مسلحين بالحجارة يواجهون مدرعات الصهاينة ، وهم يحملون هوية الأرض العربية ، فاستحق هذا اليوم أن يسمى “يوم الأرض” ، ثالثاً : وفي مثل هذا اليوم من عام 1996 غادرنا عصمت سيف الدولة إلى العالم الآخر حزيناً يحمل أحلامه عن دولة عربية واحدة ، وهو يردد حتى آخر لحظة في حياته ، بما يشبه اليقين ، أنها قادمة لا محالة ، وأن المسألة ، مسألة وقت ، تتعلق بمقدرة القوميين التقدميين العرب على اختصار الزمن لتحقيقها ، رابعاً : وفي مثل هذا اليوم أيضاً من عام 2000 غادرنا جمال الأتاسي حزيناً هو الآخر يحمل ذات الأحلام ، وذات اليقين … بأن الغد العربي قادم رغم الأحزان …!
( 2 )
أولاً : 30 مارس “آذار” 1968 يتبّين جمال عبد الناصر إثر هزيمة الخامس من حزيران “يونيه” 1967 مدى قصور النظام الشمولي ، ومدى خطره على مشروع النهوض القومي العربي التقدمي ، ومدى مسؤوليته عن انفصال الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة ، ومن ثم مسؤوليته عن هزيمة 1967، فيخاطب جمال عبد الناصر ، الجماهير العربية عن ضرورة البناء الديمقراطي ، ليتمكن الشعب العربي من تحمل المسؤولية في اتخاذ القرار ، وتحصين الوطن ضد العدوان ، ومن ثم يكون القاعدة ، والحامل لمشروع النهوض القومي العربي التقدمي ، وذلك فور إزالة آثار عدوان 1967 ، وكأن جمال عبد الناصر كان يقرأ المستقبل ، ويعرف إلى أي درك ستمضي الأنظمة الشمولية بعده ، بدءاً من نظام مصر الشمولي ذاته ، ذلك أنه غاب ، أو تم تغييبه قبل إزالة آثار العدوان ، حتى لا تتاح له الفرصة لتطبيق بنود “30 مارس” لبناء النموزج الديموقراطي المنشود المنوه عنه في البيان ، حيث تم ترتيب أنور السادات من قلب النظام الشمولي ذاته ، لينقلب بذات أدوات النظام الشمولي على مشروع التقدم والعالة الاجتماعية في مصر خاصة ، وعلى المشروع النهضوي القومي العربي التقدمي عامة ، فيعلن الترجع عن الخط الاشتراكي وإعادة القطاع داخلياً ثم يشهر انفصال الإقليم الجنوبي بإلغاء اسم الجمهورية العربية المتحدة ، وإعلان الصفقات المتلاحقة مع الصهاينة ، بل ، ويبدأ بتحويل مصر من قاعدة لمشروع النهوض القومي العربي التقدمي إلى قاعدة للتهجم والعدوان عليه ، فبدأ بذلك عصر الاستلاب والصفقات مع الأعداء ، وانحسر المشروع النهضوي التنويري العربي ، وباتت الأنظمة الشمولية في الوطن العربي عنوان الانحطاط والتبعية والقمع والخيانة والفساد ، حيث ساد عصر الظلام والطغيان ليشمل وطن العرب بين المحيط والخليج .
( 3 )
ثانياً : في 30 آذار “مارس” مرة أخرى ، وفي الربع الأخير من عقد ثمانينات القرن المنصرم أشهر الصهاينة مشروعاً لصهينة الأرض العربية بعد أن انحسر المشروع القومي العربي التحريري الذي كان يضع قضية فلسطين في طليعة أهدافه ، ويرفض عقود المساومة والصفقات والمقايضات مع الصهاينة ، ففلسطين كانت أرض عربية محتلة ، والحل الوحيد هو تحريرها ، هكذا ، ونقطة على السطر ، لكن ، وبعد أقلمة القضية ، وتبعيضها حتى فلسطينياً ، باتت الأرض العربية في فلسطين مجرد بضاعة للمساومة والمقايضة بين الطغاة الحكام ، وبين الصهاينة ، ولم تعد الأرض العربية في فلسطين تجد من يدافع عنها ، ويرفع راية هويتها العربية إلا أطفال الحجارة في فلسطين الذين تصدوا بصدورهم العارية وبحجارة الأرض يواجهون عدوان الصهاينة وصقثات الخيانة ، يحملون في صدورهم ميراث حضارة عريقة تخلى عنها العديد من أبنائها العرب ، وفي أياديهم المباركة حجر ، فاستحق يوم “30 آذار – مارس” أن يكون يوم الأرض العربية …!
( 4 )
ثالثاً : 30 مارس “آذار” 1996 جاء الخبر الحزين عن غياب عصمت سيف الدولة الذي قضى حياته في البحث والنضال لبناء “التنظيم القومي” كحامل لمشروع النهوض والتقدم العربي ، وكنت قد قطعت له عهداً في اللقاء الأخير بيننا ، تموز “يوليو” 1993 ، أننا – تلامذته – سنعقد المؤتمر القومي للطليعة العربية في موعد أقصاه عام من تاريخه ، لكننا لم نكن على قدر المسؤولية ، فلم نبر بوعدنا له ، وهذا العجز والفشل في الوفاء بهذا العهد مازال يؤرقني حتى هذه اللحظة ، وسيرافقني إلى آخر العمر ، على ما يبدو ، هكذا غادرنا عصمت سيف الدولة حزيناً في 30 آذار “مارس” 1996 ، دون أن يشهد ميلاد “الطليعة العربية” ، فهل سيحقق له الشباب العربي الجديد هذا الحلم …؟ ، هل كان واثقاً من عجزنا وفشلنا فاتجه إلى الشباب العربي مستنجداً ، دعونا نقرأ هذه الوصية التي كتبها عصمت سيف الدولة، إلى الشباب العربي، في 5 / حزيران – يونيو / 1975 يقول فيها : ” لا تلتفتوا إلى الوراء لتروا جيلنا ، لقد ضيعنا، ثمن قرن، نتحدث، عن ضرورة التنظيم القومي، ولم نتقدم خطوة واحدة ، وأنتم أقرب إليه منا ، انظروا أمامكم، وحققوا أمل أمتكم، وأداة ثورتها ، احصروا انتباهكم في سؤال واحد ، واقصروا جهودكم على الإجابة عليه ، ما هي الخطوات العملية التي يجب إنجازها لإنشاء التنظيم القومي ؟ .. بدون أن تكون جبهة ، بدون أن تنتقل إليه رواسب الشللية ، بدون أن يحدث فراغ بين ما هو كائن ، وما يجب أن يكون ، بدون أن يكون تنظيم أي أحد بعينه ، أو أية مجموعة بعينها ، أو أية دولة .. ليكون تنظيم الأمة العربية .. أوصي بهذا لأنني أتمنى أن أرى البداية ، مجرد البداية ، قبل أن أموت .. ولم تعد في العمر بقية تكفي، لحسم معارك الفلسفات الكلامية … بينما، الانحسار، الذي بدأ في 28 أيلول “سبتمبر”1961، كاد يصل بنا إلى قاع الهاوية ، فلينقذ الجيل العربي الجديد أمته …بأن ينشئ أداة إنقاذها ..” .
لقد افترق عصمت سيف الدولة، عن كثيرين ، لم يجتزىء أفكارا،ً ويخرجها من سياقها ، لم يلفق بين أفكار وأخرى ، لم يستسهل الحلول ، لم يتهرب من مواجهة المشكلة، بنفي وجودها أصلاً ، كما حاول البعض الذين أعلنوا صراحة أنه لا ضرورة للنظرية ، لا ضرورة للمنهج … بل أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، بتوجيه الاتهامات من كل نوع، إلى من يتحدث عن ضرورة البحث المنهجي ، والنظري … فلا قيمة عندهم إلا للممارسة ، وأن ماعدا ذلك مضيعة للوقت من وجهة نظرهم … إلى أن نضحت التجربة بما فيها من أهوال وسلبيات ، فالعمل، والممارسة، دون منهج، ونظرية، كالإبحار في محيطات تتلاطم فيها الأمواج بلا بوصلة … الوحدة انتهت إلى الانفصال ، أما الصمود، والانتصار، فاندثرا، تحت ركام الهزائم ، ومسيرة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية انتهت إلى الانفتاح، وطفيليات النهب، والتخريب ، والفساد ، والمافيات… والطريق إلى الوحدة العربية، بين الأجزاء ، تفرعت عنه المسارب إلى تجزئة المجزأ بين الطوائف والمذاهب ، والأثنيات من كل نوع ….لم يكن عصمت سيف الدولة يبتدع الحاجة إلى المنهج ، وإنما كان المنهج حاجة ملحة فعلاً ، وهي حاجة إنسانية، وليست حاجة عربية ، وحسب ، ومن الطبيعي أن تجد حلها ، في الوطن العربي ، لأن تحرره ، ونهضته ، بل ، وحتى وجوده ، يتوقف على حلها حلا علميا صحيحا..
استناداً إلى تلك الرؤى المبكرة اتجه عصمت سيف الدولة إلى جذر المشكلة مباشرة ، لإطلاق طاقات الإنسان العربي ، باتجاه الحرية ، والتقدم ، والوحدة ، وتحريره من كافة القيود التي تقيد حركته عبر رؤية شاملة، ومنهج علمي، واضح ، ومحدد … فإذا كانت الثورة العربية قد انتهجت منهج ( التجربة والخطأ ) ، وحققت في ظله كثيراً من الانتصارات ، لكنها ، وفي ظله أيضاً عانت الكثير من الهزائم والسلبيات … لقد كان منهج الضرورة المؤقت ، لأن الثورة العربية عندما لم تتجاوزه ، في الوقت المناسب إلى منهج علمي دفعت ثمناً باهظاً : تقدم غير مطرد ، وجهود ضائعة ، وتمزق في الصفوف، يبدد طاقات كان من الممكن أن تكون ذات إنتاجية عالية للثورة العربية …
لقد غادرنا عصمت سيف الدولة في يوم “30 مارس – آذار 1996” ، وهو يراهن على الشباب العربي من الجيل الجديد ليكون الحامل للمشروع النهضوي ، وهاهو هذا الجيل الجديد يحتشد في الميادين العربية فقط عليه أن يهتدي بالبوصلة المنهجية التي وضعها له عصمت سيف الدولة …!
( 5 )
رابعاً : غياب آخر خزين ، ففي 30 آذار “مارس” عام 2000 يغيّب القدر جمال الأتاسي الذي قضى حياته مناضلاً في سبيل إنجاز مشروع النهوض والتنوير القومي العربي التقدمي ، غادرنا حزيناً هو الآخر ، لكنني شاهد على أن الحلم لم يفارقه أيضاً للحظة واحدة ، حتى في أحلك الظروف ، في أقسى لحظات المآسي والهزائم والإحباط كان جمال الأتاسي يواجه المواقف الصعبة بالإصرار والمواجهة ، إنه من ذلك النموزج الإنساني البالغ الصلابة ، وإبداع الرؤى الحية لمواجهة المحن ، فهاهو يواجه السؤال حول قضية الوحدة العربية ، وما إذا كانت قد انتهت واندثرت ، قيتساءل ويجيب حيث يقول : (إذا كانت قضية القومية العربية ، وقضية الانتماء لأمة واحدة ، والتطلع إلى وحدة هذه الأمة ، والعمل في سبيل إقامة دولة موحدة وكياناً موحداً لهذه الأمة ، إذا لم يعد هذا هدفاً لنا ومرجعية . وإذا لم ننظر بمعايير مصلحة شعوب هذه الأمة وأمنها ومستقبلها ؟ ، فكيف يكون تعاملنا مع العالم ومع متغيراته وتحدياته ؟، وكيف يكون لنا من مدخل للتعامل مع النظام العالمي وأممه ؟ ، وكيف ندير صراعاً مع “إسرائيل” والصهيونية العالمية التي تريد أن تحل وجودها مكان وجودنا ، ومع الإمبريالية العائدة إلى الهيمنة على منطقتا العربية والتحكم بثرواتها ومصائرها ، ومع القوى الإقليمية المجاورة الطامعة في التوسع والامتداد والسيطرة على حساب مياهنا وأرضنا ، بل وكيف نواجه أزماتنا ومشاكلنا المحلية من اقتصادية وتثميرية وثقافية واجتماعية ) ، ثم يجيب بحسم : ( كلا ، ليست القومية العربية وقضية الوحدة العربية ماضياً انقطع ، بل هي الطريق إلى مستقبلنا ، وليكون لنا مستقبل فبالقدرة على تحديد مسارها يكون الرد على التحديات ) . ثم يحدد منطلق العمل القومي في : ( العمل من أجل تحويل النظام القطري الانفصالي والتابع إلى نظام حكم وطني ديمقراطي متحرر ، وفي العمل من أجل اتحاد القوى الشعبية الوطنية الديمقراطية في الوطن العربي ) . لقد كان جمال الأتاسي يربط النضال القومي بالنضال من أجل حقوق الإنسان ، فنجده يقول : ( حقوق الإنسان الأولية ، حق الحياة ، حق التفكير ، حق إبداء الرأي ، حق الاختيار ، وسيادة القانون ، تلك هي المقدمة ، مقدمة من أجل البناء الذاتي للأنسان ، ولكن ماذا بعد ؟ ، بداية لا يمكن فصل ذلك كله عن حق الإنسان في حياة كريمة ، حقه في لقمة العيش ، حقه في العمل الذي يتلاءم مع إمكانية الفرد وطاقته ، وإلا كان ذلك كله ترفاً لا يقوى الفقراء على تحمله …) ، هكذا رحل جمال الأتاسي في “30 آذار – مارس 2000” لكن الحلم بالتحرير والنهوض والتقدم والاستقلال والوحدة مازال مشرعاً ، ومشروعاً … ، ويبحث عن حامل وطني قومي له …!
* * *
هكذا نجد أن هناك رابط موضوعي بين رموز احداث ذلك اليوم “30 آذار –مارس” رغم التباعد الزمني بين تلك الأحداث فمن ناصر إلى أطفال الحجارة إلى عصمت سيف الدولة إلى جمال الأتاسي كان الحلم واحداً ، قبضوا على الحلم الذي توهم الغزاة والطغاة والإنفصاليون ، أنهم حطموه ، فقبض عليه رموز ال 30 من آذار “مارس” ، كالقابض على الجمر ، وأعطوه خلاصة جهودهم وأفكارهم : نضالاً ، وتضحية ، ودرساً ، وتمحيصاً ، وتأصيلاً . وما يجمعهم ثانياً : ذلك الإصرار الصلب على الهدف ، والغاية رغم المحن ، والفتن ، والانحطاط ، والتخريب ، والتغريب ، ثم ، ما يجمعهم ثالثاً : هو ذلك اليوم ، يوم الأرض العربية التي تتعرض هذه الأيام لشتى انواع العدوان بانتظار أن يهتدي ابناؤها إلى طريق تحريرها وتوحيدها لتكون الأرض الطهور من كل رجس …! .