ماذا ستفعل القيادة الإيرانية التي يجسّدها مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي بانحسار الانتماء الديني شعبياً وفقدان تحكّم النظام بالمجتمع الإيراني؟ ما هي استراتيجيته للرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي الذي عيّنه عمليّاً، وجهّزه لخلافته، وفرضه على الشعب الإيراني الرافض للعمليّة الانتخابية التي قاطعها معظم الناخبين؟
مرحلة خامنئي – رئيسي ستكون لافتة لأسباب عدة، أبرزها أولاً، تنامي القوميّة الفارسيّة لتحدّي القومية الإسلامية، ومُراقبة كيفيّة تعاطي النظام مع هذه الظاهرة براغماتياً، مع احتفاظه بعقيدة الجمهورية الإسلامية. ثانياً، التحوّل الاستراتيجي في فكر إدارة خامنئي – رئيسي وفعلها في ضوء رفع العقوبات، ذلك بموجب العودة الى الاتفاقية النووية، على أساس إنماء الأولويّة الاقتصادية والعسكرية، بشراكة مع الصين وروسيا، بما يجهّز الجمهورية الإسلامية للوصول حقّاً الى مرتبة الدولة المسيطرة والمُهيمنة إقليمياً في غضون ثلاث سنوات. إنها أولوية النهضة الاقتصادية لإنعاش إيران وتجديدها كما يتصوّرها فريق خامنئي – رئيسي.
أثناء الحلقة الافتراضية 38 لقمّة بيروت أنستيتيوت في أبو ظبي هذا الأسبوع. دار حديث شيّق حول ما يحدث داخل إيران، وتأثير ذلك في السياسات البعيدة المدى للنظام على الصعد الداخلية والإقليمية والدولية. شارك في الحلقة كل من وزير الخارجية المصري والأمين العام لجامعة الدول العربية سابقاً عمرو موسى؛ رئيس مجلس إدارة صندوق البحوث والاستشارات السياسية ISSA، عضو المجموعة الاستشارية للإدارة الرئاسية الروسية ونائب وزير الخارجية الأسبق أندريه فيدروف؛ المؤرخ والاستراتيجي والمستشار الحكومي والخبير في الشأن الإيراني والصيني ومؤلّف كتب عدّة إدوارد لوتواك؛ ونائبة رئيس برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “تشاتام هاوس” البريطاني سانام فاكيل.
أثار لوتواك ما يحدث داخل إيران، ما وصفه بالظاهرة اللافتة التي لم تكن غير مُتوَقعة، وهي “أن النظام الإسلامي قد تسبّب بنمو العلمانية” بنسبة 50 في المئة، و”المساجد فارغة تماماً” و”النظام يفقد السيطرة على المجتمع”، و”هم يحاولون إثبات ascertain أنفسهم داخلياً عبر التشدّد على صعيد السياسة الخارجية”. رأيه أن إنفاق النظام الأموال على وكلاء إيران في الخارج سيثير حفيظة الإيرانيين ويدفعهم للتظاهر في الشوارع.
سانام فاكيل تحدّثت عن “أزمة الشرعيّة والانشقاقات داخل إيران”، إنما راية إعادة بناء وإعادة صقل إيران لن تكون في التشدّد بقدر ما هي في صعود القوميّة، “فالجمهورية الإسلامية تتحرّك في اتجاه القوميّة الفارسية والاعتماد على الاعتزاز الوطني والهويّة كوسيلة للتواصل والبعث مجدّداً مع شعبها”. ذلك لأن الأيديولوجية المحافظة غير قابلة للاستخدام حالياً كوسيلة لإعادة بناء الارتباط مع الشعب الإيراني “فهذه الأيديولوجية يُنظَر اليها بأنها مُفلِسة وفاشلة، وأعتقد أنه (النظام) يتّجه نحو أيديولوجية القوميّة والاعتزاز بصمود الجمهورية الإسلامية بالرغم من كل شيء”.
عمرو موسى أعرب عن قلقه من صعود القوميّة الفارسية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لأن ذلك يخلق “بُعداً جديداً وسيخلق لعبةً جديدة كليّاً في الشرق الأوسط”، و”سيزيد من صعوبة التوصّل الى تفاهمات مع المجتمعات والحكومات العربية”. قال “إن من حق الإيرانيين أن يتبنّوا القوميّة الفارسية، لكن لا يحق لهم الاستمرار بالتدخّل في العراق ولبنان وسوريا واليمن ليقولوا: نحن الفرس آتون اليكم لاضطهادكم ولفرض حكمنا عليكم. فهذا شيء خطير يجب علينا التفكير فيه بصورة مختلفة”. زاد أن المحادثات التي تجري بين الدول العربية ستأخذ ذلك في الحساب “ولا تستنتجوا أن الموقف العربي انتهى وزال”، فالعرب “يتحدّثون في ما بينهم حول مستقبل المنطقة” وتموضعهم فيها بجديّة.
أندريه فيدوروف تحدّث عن فكرة “النهضة” revival و”الترميم restoration التي ستشكّل الأولوية لرئاسة رئيسي كي تمضي إيران بتنفيذ هدفها الأول وهو “أن تكون لاعباً فائق الأهمية في المنطقة. فلا يمكنها العودة عن موقع النفوذ في دول المنطقة مثل لبنان وغيره”. لكنه قال أيضاً: “ما أعرفه شخصياً من أصدقائي في طهران هو أنهم لا يرغبون كثيراً في الخوض في معركة مفتوحة مع إسرائيل حالياً. قالوا لي إنهم يحتاجون الى 2- 3 سنوات لنقف على قدمينا، ثم بعد ذلك يمكننا توجيه الضربات. وعليه، أعتقد أن فترة السنتين أو الثلاث المقبلة يمكن استخدامها لإجراء مفاوضات الباب الخلفي بهدف استبعاد أي نزاع مباشر بين إسرائيل وإيران… وموسكو تلعب دورها في محادثات الباب الخلفي من أجل تأجيل موعد النزاع الوارد”.
واقع الأمر أن إسرائيل لا تبدو قلقة من الاندفاع الدبلوماسي والاقتصادي، الأميركي والأوروبي، نحو إيران، وهي تتعاطى مع الأمر بهدوء لأنها تمكّنت من اختراق الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتفعل ما تشاء، من ضرب مفاعل نطنز النووي وتغيير معالِمه، الى اغتيال العلماء داخل المفاعل وخارجه. فهي أخذت على عاتقها مسؤولية منع إيران من امتلاك السلاح النووي. لديها عملاء ووكلاء ونشطاء داخل إيران، وهي تتلقى كل مساعدة إما من داخل النظام أو من معارضيه. المهم أن لدى إسرائيل شبكة داخل إيران، وقد وصل اختراقها الى درجة خطيرة، لا سيّما أن لديها القدرات الخارقة في القرصنة، والتي لإيران أيضاً قدرات متفوّقة فيها.
القيادة الإيرانية من جهتها يبدو أنها دخلت مرحلة “النهضة الاستراتيجية” strategic revival بعدما تمكّنت من الاستفادة من مرحلة “الصبر الاستراتيجي” strategic patience. إنها في حاجة لإعطاء القرارات الاستراتيجية الأولوية من أجل إنعاش الاقتصاد وتجديد البلاد. هذا يتطلّب تجنّب الأخطاء والترفّع عن التحديات اليومية. وهذا تماماً ما قد قرّرت إدارة خامنئي – رئيسي اعتماده.
فالجمهورية الإسلامية في حاجة لفترة زمنية لثلاثة أو أربعة أشهر كي ترمّم علاقاتها وصفقاتها الاقتصادية مع أوروبا، لتكون تلك هي نقطة الانطلاق للتجديد والإنعاش. فترة الثلاث سنوات اللازمة لها لتكون قوّة عظمى إقليمياً ستكون فترة تجهيز الاقتصاد والمؤسسة العسكرية لضمان قدرة طهران على الهيمنة إقليمياً. ومع مرور ثلاث سنوات على رئاسة جو بايدن، سيكون الرئيس الأميركي أضعف مما هو الآن، وستستغلّ الجمهورية الإسلامية هذا الضعف لبسط سلطتِها وهيمنتها إقليمياً بفضل رفع بايدن العقوبات النفطية عنها بالدرجة الأولى، والتي ستستفيد منها الصين وروسيا معاً – الصين التي تُصقل موقِعاً استراتيجياً لها في إيران وتحتاج نفطها، وروسيا المتأهِبة لاستخدام أموال رفع الحظر النفطي لتسليم صفقات الأسلحة الضخمة الى طهران.
بكلام آخر، بعد ثلاث سنوات ستكون الجمهورية الإسلامية أقوى وأغنى، أقل خوفاً من الولايات المتحدة الأميركية، وأكثر قدرة على تنفيذ مشاريعها العدائية في المنطقة، من العراق الى سوريا الى لبنان الى اليمن. في هذه الأثناء يكون إبراهيم رئيسي قد تمكّن من تدعيم consolidate حكمه داخل إيران من خلال تنفيذ مشروع إحياء إيران العظمى، مستفيداً من نزعة القوميّة الفارسية لتحقيق النهضة الاستراتيجية. هكذا يتمكّن من امتصاص الكراهية الشعبية للقيادة الدينية وللحكم الثيوقراطي، فيما يستعدّ لوراثة خامنئي في موقع مرشد الجمهورية.
فتركيز اهتمام الناس على إنماء الاقتصاد وعلى القوميّة الفارسية سيخدم عمليّاً في تحويل الأنظار عن الاستبداد الثيوقراطي، وسيساهم في “إخفاء” الوجه الديني مرحلياً لإلهاء جيل الشباب بالذات بانطباع التغيير. لكن فعليّاً، ستزداد الجمهورية الإسلامية تمسّكاً بهويتها الدينية، وبتحكّم مرشد الجمهورية، وسيطرة الحرس الثوري على سياساتها الخارجية.
إيران الغنيّة بعد رفع الحظر النفطي ستتمكّن من تعزيز مشروع “الهلال الفارسي” الذي في ذهنها، لكن بصورة أكثر حذاقةً وأقل استفزازاً. ستستخدم أدواتها في العراق واليمن ولبنان وسوريا للاحتفاظ بنفوذها وسيطرتها عبر وكلائها من خلال معادلة الفوضى للّعب على أوتارها كما تشاء، ساعةً لإطلاقها وساعةً لاحتوائها حسبما تقتضيه مصالحها. قد تستخدم طهران ما يسمى بـ”القوة الناعمة” soft power لكنها لن تتخلّى عن عقيدتها واستراتيجيتها الإقليمية والدولية.
ما تريده إيران هو الاستمرار في الحديث مع الدول الخليجية العربية، شرط أن تعي هذه الدول أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي التي تقرّر شكل النظام الأمني المستقبلي. قد تريد “الهدوء والاطمئنان” tranquility بحسب وصف أحد المخضرمين، بحيث يتم التفاهم والتقاسم في النفوذ، ولهذا فإن المحادثات الإيرانية – السعودية ستكون مستمرة في فترة رئاسة إبراهيم رئيسي الذي يسعى وراء صفقة اقتسام مناطق النفوذ على نسق الصفقة بين النازيين والسوفيات المسمّاة Molotov-Ribbentrop Pact التي وُقِّعت آب (أغسطس) 1939 وأدّت الى تقسيم بولندا.
سيقف إبراهيم رئيسي على ساقين، الصين وروسيا، بحيث تقوم موسكو بتجهيز ماكنته العسكرية وتحديثها، وتقوم بكين بصقل شراكته الاستراتيجية. كلاهما يدرك تماماً أن إيران لن تتخلّى عن قدراتها النووية وما تعتبره حقها في تطويرها.
الصين ستساعد إيران في التخطيط الاستراتيجي البعيد المدى ربما بصورة بنّاءة. فالصين تريد ضمان نفوذها داخل إيران لسنوات عديدة مقبلة، لكنها لا تريد أن تكون طرفاً في نزاع الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع جيرانها. تريد للعلاقات بين كامل دول الخليج، العربية منها والفارسية، أن تكون علاقات حُسن الجوار. فإيران قاعدة استراتيجية مهمّة للصين، والقيادة الصينية ترى أن من مصلحتها مساعدة القيادة الإيرانية على التخطيط لتطوير اقتصاد إيران، وسلوكها.
أين تقع الولايات المتحدة في كل هذه الحسابات والاستراتيجيات البعيدة المدى؟ ما يبدو حتى الآن هو أن إدارة بايدن تقنّن كامل جهودها في ضمان نجاحات آنيّة لجو بايدن وفي توطيد العلاقات الأميركية – الأوروبية والتركيز على مواجهة الصين شرقاً، وليس في مناطق النفوذ التي تقوم الصين بصقلها، إيرانياً وشرق أوسطياً.
المصدر: النهار العربي